عاد جلال الدين الرومي إلى الواجهة الإعلامية بقوة منذ أن أعلنت منظمة الأونيسكو احتفالها به هذه السنة تخليدا لذكرى مرور ثمانية قرون على ولادته. في الشرق كما في الغرب، تتوالى التظاهرات التي تحمل اسم من بات يُعرف باسم "مولانا"، وأنواعها عديدة، منها الأدبي، ومنها المسرحي، ومنها الغنائي. في زمن "صدام الحضارات"، يتحوّل شيخ قونية إلى رمز "مسكوني" جامع يتخطّى كل الحدود التي تفصل بين الأديان والمعتقدات والثقافات، فهو الذي أعلن أنه "على اتفاق ووفاق مع ثلاث وسبعين فرقة"، وهو الذي قال في شعره: "عقد الخلائق في الإله عقائدا، وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه".
في النصف الأول من القرن الرابع عشر، مرّ ابن بطوطة بقونية، وكتب في وصفها: "مدينة عظيمة حسنة العمارة كثيرة المياه والأنهار والبساتين والفواكه... وبهذه المدينة تربة الشيخ الإمام الصالح القطب جلال الدين المعروف بمولانا، وكان كبير القدر. وبأرض الروم طائفة ينتمون ويعرفون باسمه، فيقال لهم الجلالية، كما تعرف الأحمدية بالعراق، والحيدرية بخراسان، وعلى تربته زاوية عظيمة فيها الطعام للوارد. يُذكر أنه كان في ابتداء أمره فقيهاً مدرساً، يجتمع إليه الطلبة بمدرسته بقونيه، فدخل يوماً إلى المدرسة رجل يبيع الحلواء، وعلى رأسه طبق منها، وهي مقطعة قطعاً، يبيع القطعة منها بفلس. فلما أتى مجلس التدريس قال له الشيخ: هات طبقك. فأخذ الحلواني قطعة منه وأعطاها للشيخ. فأخذها الشيخ بيده، وأكلها. فخرج الحلواني، ولم يطعم أحداً سوى الشيخ. فخرج الشيخ في أتباعه، وترك التدريس، فأبطأ على الطلبة. طال انتظارهم إياه، فخرجوا في طلبه فلم يعرفوا له مستقراً. ثم إنه عاد إليهم بعد أعوام، وصار لا ينطق إلا بالشعر الفارسي المتعلق الذي لا يُفهم. فكان الطلبة يتبعونه ويكتبون ما يصدر عنه من ذلك الشعر، وألفوا منه كتاباً سمّوه "المثنوي". وأهل تلك البلاد يعظمون ذلك الكتاب، ويعلمونه ويقرأونه بزواياهم في ليالي الجمعات".
التحوّل الكبير
ينقل الرحالة القادم من طنجة بعض ما سمعه عن "جلال الدين المعروف بمولانا"، ويروي حكاية تحوّل الشيخ من التدريس إلى الشعر، وهذه الحكاية ما هي إلا واحدة من الحكايات العديدة التي تناولت هذه الحادثة المفصلية في حياة جلال الدين. من هو الشيخ الذي امتهن التدريس، ومن هو الحلواني الذي بدّل حياته؟ بحسب الرواية المتناقلة، الاسم الكامل للشيخ هو محمد جلال الدين بن محمد بن محمد بن حسين بن أحمد بن قاسم بن مسيب بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق. وفقا لما نقله الرواة، ينتهي نسب جلال الدين بأول الخلفاء الراشدين، كما يتصل بحسين البلخي، والأخير من كبار أهل التصوف في زمن الدولة الخوارزمية، وقد حظي برعاية حاكم الدولة، وتزوّج من ابنته، وأنجب منها بهاء الدين، والد جلال الدين ومعلّمه الأول. وُلد مولانا في بلخ، شمال غرب مزار شريف في أفغانستان، وكان والده من كبار علمائها يدرّس الفقه وعلوم الدين قبل الظهر، وأسرار الحقائق الباطنية بعد صلاة الظهر، إلى أن عزم ترك البلاد بعدما توترت العلاقة بينه وبيت الحاكم، فتوجّه إلى نيسابور مع ابنه الصغير، وفيها التقى بفريد الدين العطار الذي قال له: "احرص على هذا الجوهر الثمين". من نيسابور، انتقل الشيخ إلى بغداد حيث لمع اسمه، ومن دار السلام توجه إلى الحجاز ثم إلى الشام، وانتقل بعدها إلى أق في تركيا، ثم إلى لارندة، وفي هذه المدينة تزوّج جلال الدين وأنجب ابنه الأكبر سلطان ولد. من لارندة، انتقل بهاء الدين مع أسرته إلى قونية وفيها توفي بعد خمس سنوات.
تتلمذ جلال الدين على يدي والده، وأكمل دراسته في مدرسة حلاوية في حلب، وبرع في الفقه والشريعة والحديث والتفسير، وألمّ بمختلف المذاهب، وعاد إلى قونية بعدما بلغه نبأ وفاة والده بهاء الدين، وفيها درس لمدّة تسع سنوات علم الباطن على يد مريد من مريدي أبيه يُدعى برهان الدين، إلا أن هذه الدراسة لم تؤثر عليه. تولى منصب الواعظ والمرشد خلفا لأبيه في قونية حيث دأب على تعليم الشريعة وأصول الدين على المذهب الحنفي، إلى أن التقى بدرويش جوّال يدعى شمس تبريز، فتغيرت أحواله وامتلأ بروح جديدة، فهجر منبر الوعظ، وترك كرسي التدريس، وتحول من عالم فقيه يعتدّ بعلمه في ميدان الشريعة الظاهرة، إلى شاعر متصوف يغور في بحر الحب الإلهي، هذا الحب الذي وصفه ب"ذلك اللهب الذي عندما يتأجّج يحرق كلّ شيء، ولا يبقى إلا الله". وقد عبّر مولانا عن هذا التحوّل في حياته بشكل شبه مباشر في واحدة من رباعيّاته، وفيها يقول: "عندما اشتعلت نيران الحب في صدري، أحرق لهيبها كلّ ما كان في قلبي فازدريت العقل الدقيق والمدرسة والكتاب وعملت على اكتساب صناعة الشعر وتعلمت النظم".
عديدةٌ هي الروايات التي تستعيد قصة هذا اللقاء، والاختلاف بينها واضح، إلا أن دلالتها واحدة. أشهر الروايات تقول إن اللقاء الصاعق تمّ حين كان الرومي خارجا من مدرسته الكائنة في سوق تجار القطن قاصدا البازار. كان جلال الدين يمتطي بغلته بينما كان تلامذته يسيرون من خلفه على الأقدام حين باغته فجأة درويش زاهد وأمسك بزمام بغلته وسأله: "من كان الأعظم، بايزيد البسطامي أم محمد؟". أجابه الرومي بأن هذا السؤال غريب، لأن محمد خاتم الأنبياء. ردّ عليه الدرويش بسؤال آخر: "ما معنى أن يقول النبي: ما عرفتك كما ينبغي لي، وأن يقول بايزيد: سبحاني ما أعظم شأني". عندذاك، أخذت الغشية الرومي ولما استعاد وعيه، أخذ الشيخَ بيده ومشى معه إلى المدرسة حيث اعتزلا معاً الناس وقبعا في خلوة. وفي صيغة ثانية لهذه الرواية، سأل الدرويش أستاذ المدرسة: "أيهما أعظم البسطامي أم محمد، فقد قال الأول: ما أعظم شأني، وقال الثاني: لا نثني عليك كما ينبغي أن يُثنى عليك". صُعق الرومي وسقط مغشياً عليه، ولما أفاق قال لسائله: "محمد أعظم، لأن البسطامي أخذ جرعة واحدة فأخمد عطشه، أما محمد فقد كان الطريق مفتوحاً له على الدوام".
في رواية مختلفة سجّلها محيي الدين عبد القادر في كتابه "الكواكب المضيئة"، كان جلال الدين الرومي جالسا بين تلامذته حين دخل عليه شمس وسأله مشيراً إلى الكتب التي تحيط بالفقيه: "ما هذه؟"، فأجابه المعلّم: "أنت لا تعرفها". عندها، سقطت على الكتب نار حارقة جعلتها رماداً، فسأل جلال الدين زائره: "ما ذلك؟"، فأجابه قبل أن ينصرف بسرعة: "احترقت بهذا الشيء الذي لا نعرفه". على اثر هذا اللقاء الخاطف، ترك جلال الدين أسرته وعمله ومضى يبحث عن شيخه. وفي رواية أخرى صاغها عبد الرحمن جامي، كان الرومي جالسا قرب نافورة إلى جانب كتبه حين ظهر عليه شمس وسأله: "ما هذه؟"، فأجابه: "هذه كلمات. ما سبب اهتمامك بها؟". حمل الدرويش الكتب ورماها في الماء، فصرخ جلال الدين به وقال له إن هذه الكتب تحوي على كتابات ورثتها عن أبيه لا توجد في موضع آخر. عندها، مدّ شمس يده إلى الماء وأخرج الكتب سالمة وغير مبتلة، فذهل الرومي وسأله عن هذا السرّ، فأجابه الشيخ: "ذلك يُدعى التوق والحال. ما سبب اهتمامك بهذه الأشياء؟"، "إن هذه شؤون عالم الحال التي لا علم لك بها". ثم خرج الاثنان معاً. ينقل زين العابدين شرواني رواية أخرى تقول إن بابا كمال الدين جندي أشار إلى تلميذه شمس تبريز بالذهاب إلى قونية ليرى قلبا محترقا، وإن عليه أن يزيد هذا القلب احتراقا. أطاع التلاميذ مرشده، ونزل في سرايا تجار الحلوى، وعندما مرّ موكب جلال الدين، ذهب إلى الشيخ، وسأله عن القصد من المجاهدات والمكابدات والصلاة والعلم، فأجابه: إتباع الشريعة. عندها قال شمس لجلال الدين إن غاية العلم بلوغ المنزل، والانتقال من المجهول إلى المعلوم، وقرأ عليه بيتا لسنائي يقول إن العلم الذي لا يوصلك إلى المنزل خير منه الجهل ألف مرة،
فمدّ المعلّم يده إلى الدرويش وبايعه.
إثر لقائهما الأول، مكث الرومي وشمس في خلوة طوال أربعين يوما. وبحسب رواية سبه سالار، وهو من مريدي مولانا المفضّلين، بقي الشيخان في مقام المراقبة في الخلوة ستة أشهر، بعدها أصبح جلال الدين من أهل السماع والطرب، وكان من قبل لا يميل إلى السماع ولا إلى الطرب. مكث التبريزي إلى جانب الرومي نحو ستة عشر شهراً، انتقل بعدها الدرويش من قونية إلى دمشق ليبعد عن مضايقات تلامذة الرومي الذين كرهوه لتأثيره العميق في عقل أستاذهم ونفسه، حتى راحوا يشتمونه ويرمونه بالسحر والدجل. غاب شمس فتملّك الرومي حزن عميق وأرسل ابنه سلطان ولَد ليعيده إليه، واستجاب الشيخ طلب مريده وعاد إلى قونية حيث تزوج من جارية تلقت تربيتها على أيدي جلال الدين تُدعى كيميا، وأقام معها في خيمة أمام منزل المعلّم. واجه شمس حملة جديدة من العداء، إلى أن اختفى عن الأنظار ولم يجد له أحد أثراً. تعددت الروايات حول اختفائه، ونقل جامي في "نفحات الأنس" رواية تقول إنّه قُتل على يد تلامذة الرومي، وإن ابن جلال الدين المدعو علاء الدين كان بين القتلة الذين قضوا عليه وتخلصوا منه.
تناول البحاثة هذه العلاقة في كثير من الدراسات، منها كتاب نايجل واتس الذي حمل عنوان "سبيل الحب: سيرة جلال الدين الرومي وشمس تبريز"، وفيها عرض المؤلف سيرة مولانا الشخصية والعرفانية مستندا إلى مؤلفات القدماء والعاصرين، وأشعار مولانا وتأمّلاته. أما التعبير الأسمى لهذه العلاقة الفريدة فيبقى في الديوان المعروف باسم "ديوان شمس تبريزي"، أو "كليات شمس تبريزي"، وهذا الديوان من تأليف جلال الدين، إلا أن أحداً لم يطلق عليه اسم "ديوان جلال الدين" أو "ديوان مولانا". يتوحّد الرومي مع شمس، ويجلس الاثنان في القصر العلوي، "بصورتين ووجهين، ولكن بروح واحد. يعلن الشاعر أن شمس لم يمت:
"من ذا الذي قال إن شمس الروح الخالدة قد ماتت؟
ومن الذي تجرأ على القول بأن شمس الأمل قد تولت
إن هذا ليس إلا عدواً للشمس وقف على سطح
وعصب كلتا عينيه ثم صاح: ها هي الشمس تموت"
يتردد اسم شمس في هذه القصائد، ويحمل أكثر من معنى. هي شمس العشق والحق التي تنعدم أمامها الظلال، وفي نورها "يتحول الشمس والقمر إلى فراشتين". هي "شمسُ شمسِ الدين، تألّق تبريز، لم تسطع على شيء قابل للفناء، إلاّ جعلته أزليا".
الكنز العظيم
عاش الرومي حياة جديدة بعد لقائه بالشمس التي أحرقت قلبه المشتعل، وصار صاحب طريقة لها مريدوها وأتباعها. تقول السيرة إن مولانا تعلّق بعد رحيل درويش تبريز بتلميذ من تلاميذه يُدعى صلاح الدين زركوب، وجمع بين الاثنين يوم خرج الشيخ من بيته ووصل إلى دكان الشيخ صلاح الدين زركوب، فسمع ضربات المطرقة على ورق الفضة فوق السندان، وراح يصغي إلى الضربات المتعاقبة بانتظام حتى أخذه الطرب، فأخذ يرقص ويدور. ورآه صلاح الدين فاستمر في ضرب الفضة حتى تناثرت من حوله، فخرج وعانق الشيخ، وراح يغنّي معه من الظهر إلى العصر بيتا فارسيا معناه: "لقد تجلّى كنز عظيم في دكان صانع الذهب، ما أبدع الصورة، ما أجمل المعنى، ما أروع الحسن، ما أجلّ المشهد". استعاد صاحب "مجالس العشاق" هذه الرواية في صيغة جديدة وجدت تعبيرها التشكيلي في العديد من النسخ المزوّقة التي وصلتنا من هذا الكتاب. وفي "تفسير روح البيان"، نقل الشيخ إسماعيل البروسوي هذه الحادثة في شرحه لسورة البقرة، وفيه يسأل صلاح الدين زركوب شيخه: "لأي شيء تجزع وتدور"، فيجيبه مولانا: "لفلك إذا فقد شمسه يدور لأجله ليتخلص من ظلمه الفراق".
وفقا للرواية المتوارثة، ترك صلاح الدين مصنعه بعد هذه الحادثة، وتخلّى عن كل ما يملكه، وبات أقرب مريدي الرومي. توطّدت هذه العلاقة مع زواج سلطان ولد ابن جلال الدين من ابنة صلاح الدين، واستمرّت حتى وفاة صائغ الذهب. بعد رحيل صاحبه، تقرّب جلال الدين من تلميذه حسام الدين شلبي الذي لازمه حتى طار طائر الروح من جسد مولانا وارتفع الستر الرقيق الذي يفصل العاشق والمعشوق. في هذه الفترة الأخيرة من حياة جلال الدين الرومي، التمس التلميذ من شيخه أن يملى عليه "المثنوي"، وهو الكتاب الذي يسمّيه الناطقون بالفارسية "القرآن البهلوي"، أو على الأصح رسالة القرآن في اللغة الفارسية بحسب بيت شعري شائع:
"مثنوي ومعتوي ومولوي/ هست قرآن درزبان فارسي".
ل"المثنوي" مقدمة بالعربية ترفعه إلى مصاف الكتب المقدسة، ف"هو أصول أصول أصول الدين، في كشف أسرار الوصول واليقين، وهو فقه الله الأكبر، وشرع الله الأزهر، وبرهان الله الأظهر، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح يشرق إشراقاً أنورَ من الإصباح، وهو جنان الحنان، ذو العيون والأغصان، منها عين تسمى عند أبناء هذا السبيل سلسبيلاً، وعند أصحاب المقامات والكرامات خير مقاماً وأحسن مقيلاً، الأبرار فيه يأكلون ويشربون، والأحرار منه يفرحون ويطربون، وهو كنيل مصر شراب للصابرين، وحسرة على آل فرعون والكافرين".
أنين الناي
يصعب تحديد مذهب جلال الدين الرومي. تُظهر دراسة نصوص "المثنوي" معرفة كاتبها العميقة بالمصادر الإسلامية بمختلف فروعها، ويتجلّى أثر ابن سينا والغزالي بنوع خاص في كثير من أبواب الكتاب، كما يبرز أثر تفسيرات الأشاعرة في بعض المواقف التي تشكّل أساسا لقصص الكتاب التي تتوالد على مدى أجزاء "المثنوي" الستة، إلا أن مؤسس الطريقة المولوية يبقى خارج التصنيف، وقد نقل عنه قوله: "إني على اتفاق ووفاق مع ثلاث وسبعين فرقة". يفتتح الرومي كتابه بالحديث عن أنين الناي الحزين، وعلّة هذا الأنين فراقه الجذع الذي أجتُثّ منه، وهو في حنين دائم إلى هذا الأصل، والإنسان مثله يئن بعيدا عن أصله، ولا يجد ذاته إلا بالالتحام بأصله من جديد:
"أنصت للناي كيف يقصّ حكايته، إنه يشكو آلام الفراق، إذ يقول:
إنني منذ قطعت من منبت الغاب، والناس رجالاً ونساء يبكون لبكائي
إنني أنشد صدراً مزّقه الفراق، حتى أشرح له ألم الاشتياق
فكلّ إنسان أقام بعيداً عن أصله، يظلّ يبحث عن زمان وصله"
مثل العطار، يفصل الرومي بين الفلسفة والإيمان، ويرفع العشق إلى أعلى مقام، وهو ما يعبّر عنه بقوله: "اذبح العقل قرباناً في عشق الحبيب".
الطريق التي تقود إلى الحبيب صعبة وشاقة، وسالكها مثل مجنون ليلى الذي ركب ناقة حديثة الولادة ومضى شارد الذهن إلى لقاء محبوبته، وها هي الناقة تدور تعود من حيث أتت حنينا إلى ولدها، وهو ساهٍ عنها مشغول بليلى، يتقدم ويعود إلى الوراء ويبقى بين المنزلين، وحاله حال الإنسان في تعثره الدائم بين النفس الأمّارة والروح الرشيدة. لا تستكين النفس إلا ببلوغها الحق والذوبان فيه حتى الفناء، ولا سبيل لهذا الوصال إلا بالعشق، والمعشوق هو الحياة المطلقة:
"إن المعشوق هو الكل وأما العاشق فحجاب،
والمعشوق هو الحيّ وأما العاشق فميت
وكيف يكون لي عقل يدرك ما أمامي وما ورائي، حينما لا يكون نور حبيبي أمامي وورائي
إنّ العشق يقتضي أن نبوح بهذا القول، وإلا فكيف تكون المرآة إذا لم تعكس صور المرئيات؟
أوَ تدري لِمَ أظلمت صفحة مرآتك؟
إنّها أظلمت لأن الصدأ قد علاها، ولم ينفصل عنها".
يبوح الرومي في أشعاره بغربة الروح، ويصف هذه الغربة بكلام يخرج أحيانا على كل ما ألفناه في إنتاج أهل التصوّف، كما في قوله:
"أيها المسلمون ما التدبير، وأنا نفسي لا أعرف نفسي
فلا أنا مسيحي، ولا أنا يهودي، ولا أنا مجوسي ولا أنا مسلم
ولا أنا شرقي ولا أنا غربي، ولا أنا بري ولا أنا بحري
ولا أنا من عناصر الأرض والطبيعة، ولا أنا من الأفلاك والسموات
ولا أنا من التراب ولا أنا من الماء، ولا أنا من الهواء ولا أنا من النار".
في ما يشكل في ظاهره تناقضا مع هذا الكلام، يقول الشاعر في موقع آخر:
"عقد الخلائق في الإله عقائدا، وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه".
تتضح الصورة في قصة من "المثنوي" تتحدث عن إيراني وتركي وعربي ورومي التقوا في أرض غريبة، فمرّ بهم أحد المارة، وفهم أنهم في حاجة إلى بعض الطعام، فأعطاهم ديناراً ومضى. رغب السياح الأربعة بشراء بعض فاكهة، فقال الأول بالفارسية "أنكور" وقال الثاني بالتركية "أوزم"، وقال الثالث بالعربية "عنب"، وصاح الرابع: لا "أنكور" ولا "أوزم"، ولا" عنب"، بل "استافيل"، فوقع بين الأربعة شجار. ومرّ بهم رجل من الضليعين باللغات، وأيقن سبب خلافهم، فأخذ الدينار واشترى عنبا، وعاد به إليهم، فعلموا أنهم مطلبهم واحد، وأن الخلاف بينهم لفظي فحسب. تختصر هذه الرواية مسألة وحدة القصد التي عالجها الرومي مرارا، وقد تخطى الشيخ في حياته الحدود التي تفصل بين الملل والنحل، وجمع الكل من حوله عند وفاته حيث "لم يبق كبير وصغير، لا رجل ولا امرأة، ولا أحد من الشعب كله إلا وخرج لتشييعه، وقد استولى على الجميع حزن عميق، واشترك مع المسلمين غيرهم، المسيحي بإنجيله، واليهودي بتوراته، كلّ يقرأ كتابه،
طالباً الرحمة له والغفران، وكان ملك قونية في مقدمة المشيعين، وسأل الملك طوائف الديانتين عن علاقتهم بالفقيد، فقالوا: كان جلال الدين كمحمد عندكم فهو كموسى والمسيح عندنا. وبُدّل تابوته مرارا في مسيرة الجنازة، وكانت تُوزّع ألواحها على الناس تبرّكا، ولم يصل موكب التشييع إلاّ في ظلمة المساء. وتقدّم صدر الدين ليؤم الناس في الصلاة عليه، ولكنه صرخ وأغمي عليه، فتقدم للصلاة عليه القاضي سراج الدين، واستمرّ توارد الناس وتتابعهم على مزاره مدة أربعين يوما، ولا يزال مزاره موضع التبجيل من كل قادم".
دولة الحب
ترك جلال الدين الرومي ميراثا أدبيا هائلا يعكف المختصون على دراسته دراسة علمية شاملة. كرّس المستشرق البريطاني رينولد نيكلسون خمسة وعشرين عاماً من عمره لترجمة "المثنوي" ودراسته، وأصدره تباعا في ثمانية مجلدات بين 1925 و1940. يشكّل هذا العمل الاستثنائي امتدادا خلاقا لإنتاج كبار المفسّرين الذين سعوا إلى شرح معاني "المثنوي"،
وأشهرهم كمال الخوازمي، مولى مصطفى شعبان واسماعيل القروي. في المقابل، وضع غوستاف ريتشر دراسة عنوانها "الشاعر الصوفي جلال الدين الرومي" صدرت عام 1933، وشكّلت بداية لفيض من الدراسات الأوروبية تتناول أعمال شاعر قونية المختلفة. في العالم العربي، ترجم عبد الوهاب عزام مختارات صدرت عام 1946 تحت عنوان "فصول" في "المثنوي"، حوت ستمئة بيت من أبياتها. بعد عشرين عاما، شرع محمد كفافي في ترجمة دراسة أشهر كتب الرومي، إلا أن القدر لم يمهله إكمال هذا الإنجاز للأسف. في عام 1996، صدرت في القاهرة ترجمة كاملة ل"المثنوي" حملت توقيع إبرهيم الدسوقي شتا، تلميذ محمد كفافي. وتبع هذا الإصدار المصري مختارات من "ديوان شمس تبريز" نقلها من الفارسية وقدّم لها محمد السعيد جمال الدين• في سوريا، يعكف عيسى علي العاكوب في السنوات الأخيرة على ترجمة إنتاج الرومي ودراسته بفروعه المتعددة، وقد قدّم إلى المكتبة العربية مجموعة الرباعيات، مختارات من "ديوان شمس تربيز" حملت عنوان "يد العشق"، أحاديث "فيه ما فيه"،
ونصوص "المجالس السبعة"، كما ترجم دراسة أتيماري شيمل "الشمس المنتصرة"، وكتاب ايفادي فيتراي ميروفتش "جلال الدين الرومي والتصوف".
تحيي منظمة الأونيسكو الذكرى المئوية الثامنة لولادة جلال الدين الرومي في زمن بلغت فيه شهرة عالم قونية المدى الأوسع. في الولايات المتحدة، فاقت مبيعات دواوين الرومي مبيعات دواوين أي شاعر في السنين العشر الماضية. وتردّدت كلماته في العشق على شفاه الكثيرين من الفنانين الجماهيريين، ومنهم مادونا، غوادي هاون، فيليب غلاس وديمي مور. في عالم الملل والنحل، يخرج الشاعر العرفاني مرة أخرى على كل الحدود الثابتة، ويظهر في أيقونة من الطراز البيزنطي الصرف تحمل توقيع أخ فرنسيسكاني أميركي ذي أصول روسية يُدعى روبرت لنتز. يصغي العالم إلى كلمات عالم عرفاني وُلد في أفغانستان، درس في بلاد الشام، أقام في تركيا، وأعطى الأدب الفارسي كتابا يُعرف ب"القرآن البهلوي". يتوافد الزوار من الحجاج والسياح اليوم إلى مقامه في قونية حيث يرقد في قبر يزيّنه بيت من شعره يقول: "يا من تبحث عن مرقدنا بعد شدّ الرحال، قبرنا يا هذا في صدور العارفين من الرجال".
ختم دانتي ثلاثية "الكوميديا الإلهية" ب"الحب الذي يحرّك الشمس والنجوم الأخرى"، وقبله قال الرومي: الأفلاك التي تدور في سمواتها، إنما تحركها أمواج الحب، ولولا الحب لكانت كالجليد تتجمد". "لقد جاءت دولة الحب،
وأصبحت دولة راسخة". في سكرة الوجد، رأى شاعر قونية جسم الأرض يعلو من العشق حتّى الأفلاك، والجبل يرقص خفّة، فنادى العاشق وبلّغه الخبر:
"أيها العاشق، لقد حل العشق بروح طور سيناء، فثمل الطور وخرّ موسى صعقاً.
وأنا لو كنت قريناً للحبيب، لكنت كالناي، أبوح بما ينبغي البوح به.
لكن كل من افترق عمّن يتحدثون لغته، ظلَّ بلا لسان، وإن كان لديه ألف صوت"
النهار
اكتوبر 2007