تُعد شخصية السهروردي من الشخصيات القلقة التي اختلفت آراء القدماء فيها، و تباينت بين من يوصمه بالزندقة و الالحاد و من يوصفه بالتقوى والصلاح ولم يكن المتأخرون اقل خلافاً بشأنها. فقد اسبغ علي نفسه شأن الكثير من مفكري الصوفية هالات من التعظيم والغموض واجتراح الاعمال الخارقة التي بلغت حد التطرف مما جعله محط ادانة المجتمع الديني المحافظ واستهجان المحيطين به وتشنيعهم.
اتسمت حياة السهروردي بالهم والمعاناة والعزلة وحب السفر والتنقل بين البلدان ابتعاداً عن الناس وطلباً للمكابدة الروحية والمعاناة النفسية بحثاً عما يشفي غليله ويروي ظمأ نفسه الحائرة. فآثر العزلة منذ نعومة اظفاره لكي يتسنى له الانشغال كلياً بارهاصاته الفكرية المبنية علي الكشف والمشاهدة الصوفية ونشر طروحاته وآرائه الفلسفية الجريئة التي جلبت له الويل ونقمة المجتمع وسخط الحكام. فالعزلة شأن خاص يختص به اولئك الذين اوتوا حظاً من الاحساس الروحي المرهف والافتقاد لحالة الوئام مع المجتمع والميل للمكابدة والمجاهدة مما وضعهم موضع الريبة والشك والافتراء ومن ثم التنكيل.
كان السهروردي يتسم باهمال المظهر وعدم الاكتراث لنظافة البدن والملبس فهذا ابن تغري بردي المؤرخ الاسلامي يصف حالته وهيئته فيقول (كان رديء الهيئة، زري الخلقة، دنس الثياب، وسخ البدن
لا يغسل له ثوباً ولا جسماً ولا يقص ظفراً ولا شعراً وكل من رآه يهرب منه لسوء منظره وقبح زيّه).
ومن طرائف ما يروى عنه أن احد الفقهاء نزل بأرض الروم، وكان السهروردي موجوداً في رباط تلك البلدة ايضاً، فسمع في الفجر صوت قراءة القرآن يتلى بصوت رخيم فسأل خادم الرباط:
- من هذا القارئ؟ اجابه: شهاب الدين السهروردي. فرغب ان يلتقي به ويتحدث اليه برغم تحذير الخادم من انه لا يدخل عليه احد بسبب غرابة اطواره ورائحته الكريهة ولكن اذا علت الشمس فبوسعه ان يراه وهو يخرج من صومعته ويصعد السطح ويقعد في الشمس عارياً لا يرتدي الا قطعة قماش سوداء قذرة بهت لونها. يقول الفقيه انه ما ان اقترب منه حتي طوى مصلاه وجلسا يتحدثان فسأله الفقيه: ايها الشيخ لو لبست شيئاً غير هذا! فأجابه السهروردي باستغراب: أخشى أن يتوسخ! فرد الفقيه: تغسله. فقال السهروردي: يتوسخ. فكرر عليه الفقيه: تغسله. فقال: ما حييت لغسل الثياب. لي شغل اهم من ذلك.
هذه الحادثة ان صحت فهي تبين لنا حالة الانغمار الكلي التي يعيشها اولئك المفكرون وغايتهم عدم الالتفات للمظاهر. وتصور لنا من جانب آخر (مشاعر الازدواج التي كان يراها الفرد في مجتمعه من صور التناقض بين حياة القول وحياة الفعل، وما يعانيه في ذاته، كل ذلك ولّد حالات الاحباط لدي صفوة من المفكرين الذين فشلوا في مسعاهم بالوقوف في وجه الظلم والجور فأورثهم ذلك الدخول في ميدان المقاومة السلبية والعجز عن الفعل الايجابي مما ادي الي ردود فعل عقابية موجهة إلى الذات من الداخل. فبدأوا بلوم النفس وايذائها نتيجة العجز عن توجيه الغضب الي الانظمة السياسية. فتكون النفس هي البديل عن المصدر الخارجي وهنا تبدأ أزمة هذه الفئات وتبدأ حياة القلق والحيرة والشعور بالذنب وتأنيب الضمير، انها شخصيات قلقة اتخذت من الحزن والشعور بالذنب وتعذيب الجسد ونفي الذات فلسفة لها في الحياة. وهي تحمل بالتأكيد ملامح شخصية مصابة بصراعات وجدانية مريرة تعبر عن قلقها واحباطها).
وفي شعره الذي كان مقلاً فيه نجد السهروردي يصف لنا ما جالت به نفسه الحائرة من اسئلة ملحة تتسم بالألم واللوعة وغربة الانسان المرهف الحس الساعي لإختزال المسافة الفاصلة بين (اللامتناهي والمتناهي، بين الحق والخلق او الجمع بين الواحد والمتعدد والفناء في الله سبحانه وتعالي. وتصوير علاقة الروح بالبدن من حيث كون الجسد قفصاً وسجناً للروح او هي في عالم غير عالمها).
ومن شعره المشهور المتداول ما يصف فيه حالات الغيبوبة التي تعتريه عن كل ما له صلة بالعالم الذي يعيش فيه متطلعاً للاتصال بالذات الإلهية عن طريق المكابدات الروحية والمجاهدات النفسية فيقول:
ابداً تحن اليكم الارواح
ووصالكم ريحانها والراحُ
وقلوب اهل ودادكم تشتاقكم
والي لذيذ لقائكم ترتاحُ
وا رحمتا للعاشقين تكلفوا
ستر المحبة والهوى فضّاحُ
بالسر ان باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء العاشقين تباحُ
ويعد السهروردي من اشهر من استخدم الرموز في فلسفته الصوفية من بين صوفية الاسلام (وغالى في استعمال الرموز، انه اخذ يستعمل صوراً ورسوماً واشكالاً غير معبرة لا يفهمها اي شخص متخذاً منها وسيلة للتعبير عن المعارف الخاصة التي لا يمكن قولها بما هو متداول من لغة وذلك لإحاطتهم باسرار وعلوم يصعب تأويلها وفهمها مما عرّضه لشتي التهم والمآخذ والشكوك).
ففلسفة السهروردي مبنية على تجربة ذاتية يصعب الامساك بها او ادراكها وهي فلسفة اشراقية تبحث في عالم الروح وتهدف الي الانسلاخ عن الدنيا ومشاهدة الانوار الإلهية لإكتساب ما يدعوه بالعقل الفعّال. وبسبب آرائه المتطرفة وغرابة اطواره وشطحاته وعباراته التي لم تكن تلتقي مع الذهنية السائدة في ذلك العصر فقد نعت بالإلحاد والزندقة واتهمه المحافظون بالكفر والمروق عن تعاليم الاسلام واكبروا عليه رؤيته لنفسه في المنام وهو يشرب ماء البحر وبالغرور ومس الرفعة الإلهية من قوله (لابد ان املك الارض) لذلك ألّبَ فقهاء حلب عليه القائد صلاح الدين الايوبي الذي وافقهم وجاراهم فكتب الي ابنه الظاهر والي حلب يأمره بقتل السهروردي وبالفعل تم ذلك بعد محاكمته والافتاء بقتله نتيجة تهوّره وقلة تحفظه ودخوله في مناظرات غير مجدية مع فقهاء حلب لم يجنِ منها الا الخصومة والتنكيل به والنقمة التي كانت سبب مصيره المفجع وهو في مقتبل العمر اذ لم يكن قد تجاوز الثامنة والثلاثين من عمره.
جريدة (الزمان) 2004 - 8 -