يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي:
فالماء للروح قوت العلم
والجسم للنار كالزناد
فإن مضي الماء لم تجده
بدار دنياك للمعاد
وان خبت ناره عشاء
فسو من مات في المهاد
أوضحت سرا ان كنت حرا
كنت به واري الزناد
البحث في أي موضوع عند ابن عربي يتطلب من الباحث أن يغوص الي أعماق بحار الشيخ الأكبر، وأن يترك نفسه بين يديه يدوره ويقلبه في أطوار وأركان وأمواج بحاره، ثم يعود ليعرض الجواهر التي جمعها علي قدر استطاعته وللتحدث عما رأي وشاهد من العجائب.
لكن الأمر لا ينتهي هنا، فعلي الباحث الغطاس أن يصوغ هذه المجوهرات صياغة تليق بها وتبرز علومها، فالأحجار "والكريم منها" منابع العلوم كما يقول شيخنا. فيتحول الغواص الي صائغ، صاحب حرفة أي صاحب تأويل. يصوغ المجوهرات بعضها ببعض، وفقا لمعان خبرها في أرحام التصانيف، فخاتم أو عقد أو سوار أو تاج.. وهذه المعاني الجديدة في الصور الجديدة إنما تعكس المعاني الأصلية الكامنة في مؤلفات الشيخ.
بذلك يكون التأويل مرآة تعكس ما في الأصول. وكما علمنا ابن عربي ومشايخ الصوفية ان كمال صقل المرآة هو انعدامه، فيكون كمال التأويل اذا تركه، وتبعا لمنهاج الشيخ، وعلي منحي "مقام لا مقام" يكون "مقام" تأويل لا تأويل أو التأويل وترك التأويل.
لكن هذا لا يعني بطلان التأويل، فالشيخ يؤكد كما نعلم، علي أن من حاز مقاما وتعداه لمقام آخر لا يتركه، إنما يتضمنه ويحتويه متحققا به.
فنحن في الحقيقة اليوم في صدد تأويل التأويل عند ابن عربي.
قبل أن نخوض في موضوع الجسم وتأويلاته، عند الشيخ الأكبر، سنتعرض لمقام التأويل عنده وأسراره، لنحدد إطارا مرجعيا أكبريا، حتي نستطيع أن نفهم ابن عربي بابن عربي.
إن الشيخ الأكبر، إن أجمل أو فصل، إن نظم أو نثر، إن أعرب أو أعجم، إن أفصح أو أبهم، إن أشار أو رمز أو لغز أو أومأ، إنما قصده الإفهام والبيان الشافي علي حد قوله. "فكل ما يقوله في تصانيفه، وحسب ما يصرح به في فتوحاته المكية هو، من "حضرة القرآن الكريم" حيث يقول سبحانه وتعالي: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا".
إن الشيخ الأكبر يلجأ للرمز واللغز في بعض الأحوال وذلك كما نعتقد أنه من باب الحرص علي ستر كنوز المعارف وصيانتها وحمايتها، كي لا تسقط بأيدي الأعداء "دجاجلة وفراعنة الأولياء كما يسميهم أو في أيدي الجملة فهو من باب وضع الحكمة في موضعها فتبقي بين ذويها وخاصتها.
ولكن من جهة أخري فالشيخ يلجأ للاشارة من باب "رب" اشارة أفصح من عبارة ويقسم العلوم إلي ثلاثة أقسام:
أولا:
علم العقل النظري: "وهو كل علم، اذا بسطته العبارة، حسن وفهم معناه وقارب وعذب عند السامع.
ثانيا:
علم الأسرار: اذا أخذته العبارة سمج واعتاص علي الإفهام دركته، وخشن، وربما مجته العقول الضعيفة المتعصبة، ويوصله العالم إلي الأفهام بضرب الأمثلة والمخاطبات الشعرية.
ثالثا:
علم الأحوال: وهو متوسط بين علم الأسرار، وعلم العقول، وهو أقرب إلي الأسرار من العلم النظري العقلي، وأكثر ما يؤمن به أهل التجارب، ولكن يقرب من صنف علم العقل الضروري، بل: هو هو، وسنفهم هذا لاحقا.
ونحن لو أمعنا النظر في كتاب "ترجمان الأشواق وذخائر الأعلاق"، للشيخ الأكبر، نستطيع القول بأن هذا المصنف ثمين للباحث في علوم ابن عربي وخاصة التأويل، لأن ابن عربي نفسه يعطي به مفاتيح تفسير وتأويل نصوصه.
ومما تجدر ملاحظته أن هناك ثلاث مراحل في التأويل تتسلسل وبشكل منهجي في كتابه هذا:
في المرحلة الأولي: يلجأ ابن عربي للتعريف والتفسير بالألفاظ، فمثلا يقول عاطلة: خالية من الزينة، تخالها: تحسبها، الفتك: القتل، ويعرف الظل: هو الراحة، والعرش: السرير وهكذا.. يحلل الألفاظ ويفسرها معطيا المعني الأول للصورة.
وفي المرحلة الثانية "مرحلة المقصد": يعبر ويؤول المعاني هذه، قاصدا صورا ومعاني آخري، ويدعم تأويله بشرح أسباب اختياره للألفاظ، فيقول مثلا: لم كان السعي دون المشي، ولم الربع دون الطلل أو الرسم أو الدار، فيبين المعاني المشتقة في اللفظة، كقوي كامنة، تسمح باعطاء أصداء مختلفة للمعني الواحد، يعتبرها دلائل للتفسير والتأويل.
فعلي سبيل المثال ، قال: الربع، ليكون له اشتقاق من الربيع، وفي الربيع يكمن معني قوة الشباب، فيصبح الربع رمز الشباب والقوة والأمثلة كثيرة، وكذا الأيك يصبح دلالة علي السواك وهذا دلالة علي الطهارة فيصبح الأيك رمز الطهارة.
***
يتبع الشيخ الأكبر هنا كل أساليب البلاغة العربية، من استعارة وكناية وتمثيل ورمز...... الخ لتتسلسل الصور والمعاني في أطوار، علي حد وصفه، كالبذرة في باطن الأرض، حتي تنبت وتثمر معاني الأسرار. فالسر اذا كالبذرة هذه، لابد أن تكمن في أرض الجسد حتي تثمر علومها للعقل، وهي للغاية وثمرة التأويل التي تمثل المرحلة الثالثة.
والمرحلة الثالثة: فهي عود علي بدء. وتمثل مرحلة انعدام المرآة وترك التأويل. فالباحث بعد أن يتسلسل مع الشيخ في التفسير والتأويل، يعود لقراءه البيت متحققا حاويا المعاني الخفية المشروحة، وتكون له نظرة جديدة للبيت. يقول ابن عربي ثم يرجع عوده علي بدئه لقيام نشء آخر، فليس في علم اللبيب سوي تركيب وتحليل بلغ التركيب". وهكذا فالتأويل عنده لا ينفي المعني الظاهر لكنه ظاهر تحقق بالباطن.
لنتتبع الآن موضوع الجسم في منهج ابن عربي، وفقا لهذا الإطار المرجعي الثلاثي، فنجد الاعتبارات "مراحل أو رتب" الثلاث الآتية:
المرحلة الأولي
- اعتبار الجسم وعاء يحوي الروح فيكون بالاعتبار هذا مركبا. يقول الشيخ "إن اللطيفة الانسانية لا توجد دنيا وآخر الا مدبرة لمركب نقول: فالإنسان مسافر ابدا قلبا وبدنا، من مقام الي آخر، ومن منزل إلي آخر، يجوب البوادي والفيافي ويقطع البحار، يذهب شرقا وغربا ويرحل صيفا وشتاء "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" فالشتاء كما يقول قاشاني: غور البدن، ورحلة الشتاء لترتيب مصالح المعاش واصلاح أحوال البدن ورحلة الصيف للرقي في عالم القدس والتلقي. فالقوم عند الشيخ مراتب ووظائف، ومراكبهم كذلك منها الخيل والإبل.. المسافر هنا فتي يقود مركبه ويحافظ عليه ويحمي ظعينته.
- باعتبار آخر يكون الجسم أرضا "أيها الأخ الوالي إن أرض بدنك هي الأرض الحقيقية الواسعة وعلينا أن نميز بين هذه الأرض الحقيقية الواسعة والأرض الإلهية الواسعة. ففي مكان آخر من الفتوحات، يتحدث الشيخ عن "الأرض الإلهية الواسعة الواسعة، ففي مكان آخر من الفتوحات، يتحدث الشيخ عن "الأرض الإلهية الواسعة ويقول: هي أرض معنوية غير محسوسة لا تقبل التبديل، لها البقاء". يبدو لنا أن هذه الأرض بالنسبة للأرض الحقيقية الواسعة كالضراح في السماء، مقابل الكعبة في الأرض. فأرض البدن كما ينبه الشيخ فيها أرض الهوي وأرض العقل حيث سراج الشريعة، والمطلوب من الانسان هو الهجرة والعبادة فيها، فهي الأرض التي أمرنا الله أن نعبده فيها. الانسان مدعو للسياحة فيها والحج لكعبتها، قد جعل الله فيها الكعبة وهي القلب. وسواء سعي الانسان علي ظهرها أو نفذ في باطنها أو عرج في سمائها، فما خرج عنها قط كما يؤكد الشيخ.
- وفي اعتبار ثالث هي دولة في المملكة الانسانية يجب تدبيرها والعمل علي منع خرابها وتسمي هذه الدولة بحضرة الجسم والبدن. وهي مكونة من حاضرة وبادية ورعية، والعدل مطلوبها، ذلك أن الله سبحانه وتعالي سيسأل هذه الرعية عن حاكمها، حيث يستشهد الشيخ بالآيات: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون"
يعطي الشيخ الكيان الانساني هيئة فلكية، ويجعل الحواس الثماني تارة أفلاكا في سماء هذه الدولة، وتارة خوخات "طاقات" يجب المحافظة علي سلامتها، لأنها تطل علي عالم الحس، فهم عمال جبايات ، مسئولون كل منهم، كما يقول الشيخ: رئيس وخازن علي صنف من أصناف المال.
نلاحظ أن المطلوب في هذه المرحلة الأولي المحافظة علي الوعاء لما يحويه، المركب للراكب، وعلي الأرض الثمر، علي الدولة للرعية، علي القشر للباب، وعلي المكنز للكنز.
المرحلة الثانية
تمثل مرحلة خراب البدن "ونحره" تأويل الآية: "فصل لربك وانحر" من سورة الكوثر. والحديث الشريف "موتوا قبل أن تموتوا" فالمطلوب تبعا لابن عربي هنا، هو كشف غطاء الأكوان، كسر القشر للحصول علي اللباب والمكنز للكنز. يقول الشيخ مشيرا الي قصة الخضر مع موسي، عليه السلام، عندما خرق الخضر سفينة لمساكين يعملون في البحر : "سفينتك مركبك، فاخرقه بالمجاهدة، السالك هنا يترك النشأة الترابية، ويتسامي فتتوالي عليه الكشوف الغيبية والروحانية، ويصبح الجسم عبارة عن مجاز للحقيقة، وتصبح الاعضاء قوالب حسية لمعان غيبية روحانية، نفسانية أو إلهية، فمثلا تصبح اليدان: رمز القوة والقدرة الإلهية، والكف: الكرم، وتصبح القبضتان: البسط، والقبض والقدمان: التواضع والعجب، والأنف: العزة، والعينان: محل الحياء، واللسان: الحكمة، والفم: الصدق، والبطن: الورع، والحش: محل الهوي، والفرج، العفة، والفطنة: القلب...... وهكذا.
***
تمثل هذه المرحلة قمة التأويل عند الشيخ الأكبر، لأن المطلوب هنا، هو معني ما ظهر، والشيخ يقول: "ما ظهر إلا ليعطي معني"، "فالجسم الكثيف" هنا، كما سبق وأشرنا، "حجاب الغيب، وهو ليل هذه النشأة الحيوانية، لما كان سترا علي ما تحويه من اللطائف الروحانية، فلا يدرك جليسه ما عنده إلا بعد العبارة عن ذلك والاشارة اليه. فالجسم من حيث ذاتيته عند ابن عربي، ليس بأمر سلبي، يؤكد الشيخ "أن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعه، واما النفس فلا تطلب منك الا الطيب من الطعام والمنظر والمشرب والمركب والمسكن، انما تريد كل شيء أحسنه وأعلاه منزلة.. والذي يؤدي الي ذلك، طلب التقدم والترأس. ولا نبالي ان كان ذلك حلالا أو حراما. فالجسم ليس كذلك، انما مراده الوقاية مما ذكرناه. ولا ننسي أن نقول: إن العرب قد استخدموا واعتمدوا لغة الجسد للتعبير عن المعاني اللطيفة بكثرة، لما تعطيه هذه من قوة حسية للصور المتخيلة بكثرة، لما تعطيه من قوة حسية للصور المتخيلة. وكأن لغة الجسم تصبح كالروح للنص.
وأما المرحلة الثالثة
فتبدأ عندما تنعدم المرآة وينتهي التأويل، فاذا كانت المرحلة السابقة تمثل تحليل التركيب، فان هذه المرحلة تمثل تركيبا بلغ التحليل. نقول: ان ترك التأويل هنا، يكون من باب "قد بلغ الكتاب أجله" وبلغ اليتيم أشده، فحان "هدم الجدار" يقول الشيخ "أهدم الجدار" وهو في التأويل جدار العقل النظري. يشير الشيخ هنا الي قصة الخضر وموسي، عليهما السلام، الآية "واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك".
ووفقا لمنهاج الشيخ في التأويل نقول : إن اليتيم هنا بلغ أشده، واستحق أرثه وكنزه، والكتاب بلغ أجله، ودخل المريد في الثلث الاخير من ليله البهيم. فينصح الشيخ "المريد السالك "الساري" بتوقيف الفكر النظري العقلي التأويلي، حتي يتلقي ما إن يتنزل عليه من الكشوفات الإلهية للأسرار الأعجمية البهيمية التي لا تنال بالتأويل ولكن بالتعريف.
- ماذا يعني الشيخ بالكشف الأعجمي البهيمي؟
يتحدث الشيخ الأكبر عن الاعراس الإلهية، والأسرار الأعجمية، واختصاصها بالحضرة الموسوية في الباب الثاني والثمانين والثلاثمائة من الفتوحات المكية. ولقد كان لنا اهتمام برمزية العربية والأعجمية عند ابن عربي، وعالجنا الموضوع في رسالتنا عن الفتوة عند ابن عربي يقول ابن عربي: "ما ثمة عجمة إلا في الاصطلاح والألفاظ والصور الظاهرة، وأما في المعاني، فكلها عربية ولا عجم فيها. فمن ادعي علم المعاني وقال بالشبه فلا علم له. ففي ضمن هذا الاطار، يجب اعتبار اشارة الشيخ "ما ثم مجاز أصلا الكل حقيقة".
فنحن كما ترون بصدد انعدام المرآة، وانتهاء التأويل، حيث يسود النور ويتضح السر المبهم، وتصبح الأسرار الأعجمية عربية. يقول أبوالوفا شيخ الشاذلي "كل ما يأتيك بأعجمية حسك فسره بعربية قلبك، تجد هدي". وينصح شيخنا قائلا: "نور بيتك المظلم وأوضح سرك المبهم ما دام أركان بيتك غير واهية قبل أن تحصل بالهاوية فنشأة ليلية حيوانية بهيمية وكشف أعجمي لسر مبهم!؟
"إن اطلاق اسم البهيمية ليس ذما. فهو مشتق من الإبهام لكونه أبهم علينا من حيث جهلنا ذلك، وأما عند أهل الكشف فهو غير ذلك". يقول الشيخ مفصلا موضوع المبهم والبهمة في بابين من فتوحاته: الباب السابع والخمسون وثلاثمائة والباب السابع والثمانون وثلاثمائة.
ويستطرد قائلا: "هذا البهائم لديها علوم فطرها الله عليها. فيذكر الشيخ بقصة بقرة بني اسرائيل في القرآن الكريم وقصص أخري. ونذكر بدورنا قصة ناقة الرسول صلي الله عليه وسلم عندما حضر المدينة، واختلفوا علي مكان اقامته، فجعل الامر للناقة كما هو معلوم.
- نحن هنا بصدد لطائف وخفايا أسرار عند الشيخ الأكبر، يجب تناولها ومعاملتها بعناية ولطف. فهذه المرحلة عنده تعتبر من المراتب الاخيرة في الطريق، ورجالها كما يسميهم، هم رجال النومة العسلية، ويشرح ذلك قائلا: "لما فيها من اللذة لهم، للاستراحة في آخر الطريق، معرفة ما أودع الله في هياكلهم من الحكمة المتعلقة بالحقائق الإلهية".
هذه الهياكل الليلية، أنوارها كذلك ليلية فنكون هنا مع شيخنا في حضرة تجلي الليل وأنواره أو كما يسميه الشيخ تجلي الغلس، فيكون للغلس تجل وسدفة كشف وحجاب.
يؤكد الشيخ أن هذا الكشف لا يناله المريد بل الولي "إلا بعناية أزلية يعطي استعدادا لقبوله برياضات ومجاهدات بدنية، وتخلق باسماء إلهية، وتحقق بأرواح طاهرة فلكية، وتطهر بطهارة شرعية، مشروعة لا معقولة، وعدم تعلق بأكوان وتفريغ محل".
في هذا المكان يتحقق الولي بمقام: "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمي" ويجوز "أسرار الاختصاص" يقول الشيخ: كل جوارح الانسان واعضائه تذكر وتنطق وتسبح فتشرق وتتجلي للولي في هذا المقام، ويكشف له عن ذلك:
فأشرق الجسم بأنواره
وأظهر الأسرار اذ اشرق
ومن هذا المقام يؤكد الشيخ: "تكون كرامات الأولياء"، ومنه يرافق الحياء الكشف، "فمن علم ان كل شيء ناطق، ناظر الي ربه، لزمه الحياء من كل شيء حتي من جواحه".
وفي نهاية هذا المطاف، في مجال الجسم وتأويلاته، عند الشيخ الأكبر، نجمل ونقول: "إن التأويل عند ابن عربي مقام له "رجال" قد تحققوا به. وليكن آخر ما نسمعه من شيخنا في هذا الصدد، ما جاء في الباب السابع والخمسين وثلاثمائة من فتوحاته، بعنوان "في معرفة منازل البهائم من الحضرة الإلهية وقهرهم تحت سرين موسويين"، "وأما المؤمنون الصادقون أولو العزم من الأولياء فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلي الباطن وبالحرف عينه إلي المعني ما عبروا، عنه فرأوا الأمور بالعينين، وشهدوا بنور إيمانهم النجدين، فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوه، ولا جحدوا ما تيقنوه،فأسمعهم الله نطق الموجودات، بل نطق الكلمات قبل وجودها" وبهذا نفهم قول ابن عربي "ما ثم مجاز أصلا، الكل حقيقة".
ومن هنا فإن الغاية من التأويل عند ابن عربي هو التحقق به، وذلك لا يكون إلا بوجود الجسم وحواسه...
لما انتهي للكعبة الحسناء
جسمي وحصل رتبة الأمناء
وسعي وطاف وثم عند مقامها
صلي وأثبته من العتقاء
فهذا مقام من تحقق بالحكمة والمحبة
قيل يا حكمة هذا محب
حاكم يرغب وصلا بجسمه
والحمد لله رب العالمين .
اخبار الأدب
13 ديسمبر 2008
يقول الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي:
فالماء للروح قوت العلم
والجسم للنار كالزناد
فإن مضي الماء لم تجده
بدار دنياك للمعاد
وان خبت ناره عشاء
فسو من مات في المهاد
أوضحت سرا ان كنت حرا
كنت به واري الزناد
البحث في أي موضوع عند ابن عربي يتطلب من الباحث أن يغوص الي أعماق بحار الشيخ الأكبر، وأن يترك نفسه بين يديه يدوره ويقلبه في أطوار وأركان وأمواج بحاره، ثم يعود ليعرض الجواهر التي جمعها علي قدر استطاعته وللتحدث عما رأي وشاهد من العجائب.
لكن الأمر لا ينتهي هنا، فعلي الباحث الغطاس أن يصوغ هذه المجوهرات صياغة تليق بها وتبرز علومها، فالأحجار "والكريم منها" منابع العلوم كما يقول شيخنا. فيتحول الغواص الي صائغ، صاحب حرفة أي صاحب تأويل. يصوغ المجوهرات بعضها ببعض، وفقا لمعان خبرها في أرحام التصانيف، فخاتم أو عقد أو سوار أو تاج.. وهذه المعاني الجديدة في الصور الجديدة إنما تعكس المعاني الأصلية الكامنة في مؤلفات الشيخ.
بذلك يكون التأويل مرآة تعكس ما في الأصول. وكما علمنا ابن عربي ومشايخ الصوفية ان كمال صقل المرآة هو انعدامه، فيكون كمال التأويل اذا تركه، وتبعا لمنهاج الشيخ، وعلي منحي "مقام لا مقام" يكون "مقام" تأويل لا تأويل أو التأويل وترك التأويل.
لكن هذا لا يعني بطلان التأويل، فالشيخ يؤكد كما نعلم، علي أن من حاز مقاما وتعداه لمقام آخر لا يتركه، إنما يتضمنه ويحتويه متحققا به.
فنحن في الحقيقة اليوم في صدد تأويل التأويل عند ابن عربي.
قبل أن نخوض في موضوع الجسم وتأويلاته، عند الشيخ الأكبر، سنتعرض لمقام التأويل عنده وأسراره، لنحدد إطارا مرجعيا أكبريا، حتي نستطيع أن نفهم ابن عربي بابن عربي.
إن الشيخ الأكبر، إن أجمل أو فصل، إن نظم أو نثر، إن أعرب أو أعجم، إن أفصح أو أبهم، إن أشار أو رمز أو لغز أو أومأ، إنما قصده الإفهام والبيان الشافي علي حد قوله. "فكل ما يقوله في تصانيفه، وحسب ما يصرح به في فتوحاته المكية هو، من "حضرة القرآن الكريم" حيث يقول سبحانه وتعالي: "إنا أنزلناه قرآنا عربيا".
إن الشيخ الأكبر يلجأ للرمز واللغز في بعض الأحوال وذلك كما نعتقد أنه من باب الحرص علي ستر كنوز المعارف وصيانتها وحمايتها، كي لا تسقط بأيدي الأعداء "دجاجلة وفراعنة الأولياء كما يسميهم أو في أيدي الجملة فهو من باب وضع الحكمة في موضعها فتبقي بين ذويها وخاصتها.
ولكن من جهة أخري فالشيخ يلجأ للاشارة من باب "رب" اشارة أفصح من عبارة ويقسم العلوم إلي ثلاثة أقسام:
أولا:
علم العقل النظري: "وهو كل علم، اذا بسطته العبارة، حسن وفهم معناه وقارب وعذب عند السامع.
ثانيا:
علم الأسرار: اذا أخذته العبارة سمج واعتاص علي الإفهام دركته، وخشن، وربما مجته العقول الضعيفة المتعصبة، ويوصله العالم إلي الأفهام بضرب الأمثلة والمخاطبات الشعرية.
ثالثا: علم الأحوال: وهو متوسط بين علم الأسرار، وعلم العقول، وهو أقرب إلي الأسرار من العلم النظري العقلي، وأكثر ما يؤمن به أهل التجارب، ولكن يقرب من صنف علم العقل الضروري، بل: هو هو، وسنفهم هذا لاحقا.
ونحن لو أمعنا النظر في كتاب "ترجمان الأشواق وذخائر الأعلاق"، للشيخ الأكبر، نستطيع القول بأن هذا المصنف ثمين للباحث في علوم ابن عربي وخاصة التأويل، لأن ابن عربي نفسه يعطي به مفاتيح تفسير وتأويل نصوصه.
ومما تجدر ملاحظته أن هناك ثلاث مراحل في التأويل تتسلسل وبشكل منهجي في كتابه هذا:
في المرحلة الأولي: يلجأ ابن عربي للتعريف والتفسير بالألفاظ، فمثلا يقول عاطلة: خالية من الزينة، تخالها: تحسبها، الفتك: القتل، ويعرف الظل: هو الراحة، والعرش: السرير وهكذا.. يحلل الألفاظ ويفسرها معطيا المعني الأول للصورة.
وفي المرحلة الثانية "مرحلة المقصد": يعبر ويؤول المعاني هذه، قاصدا صورا ومعاني آخري، ويدعم تأويله بشرح أسباب اختياره للألفاظ، فيقول مثلا: لم كان السعي دون المشي، ولم الربع دون الطلل أو الرسم أو الدار، فيبين المعاني المشتقة في اللفظة، كقوي كامنة، تسمح باعطاء أصداء مختلفة للمعني الواحد، يعتبرها دلائل للتفسير والتأويل.
فعلي سبيل المثال ، قال: الربع، ليكون له اشتقاق من الربيع، وفي الربيع يكمن معني قوة الشباب، فيصبح الربع رمز الشباب والقوة والأمثلة كثيرة، وكذا الأيك يصبح دلالة علي السواك وهذا دلالة علي الطهارة فيصبح الأيك رمز الطهارة.
***
يتبع الشيخ الأكبر هنا كل أساليب البلاغة العربية، من استعارة وكناية وتمثيل ورمز...... الخ لتتسلسل الصور والمعاني في أطوار، علي حد وصفه، كالبذرة في باطن الأرض، حتي تنبت وتثمر معاني الأسرار. فالسر اذا كالبذرة هذه، لابد أن تكمن في أرض الجسد حتي تثمر علومها للعقل، وهي للغاية وثمرة التأويل التي تمثل المرحلة الثالثة.
والمرحلة الثالثة: فهي عود علي بدء. وتمثل مرحلة انعدام المرآة وترك التأويل. فالباحث بعد أن يتسلسل مع الشيخ في التفسير والتأويل، يعود لقراءه البيت متحققا حاويا المعاني الخفية المشروحة، وتكون له نظرة جديدة للبيت. يقول ابن عربي ثم يرجع عوده علي بدئه لقيام نشء آخر، فليس في علم اللبيب سوي تركيب وتحليل بلغ التركيب". وهكذا فالتأويل عنده لا ينفي المعني الظاهر لكنه ظاهر تحقق بالباطن.
لنتتبع الآن موضوع الجسم في منهج ابن عربي، وفقا لهذا الإطار المرجعي الثلاثي، فنجد الاعتبارات "مراحل أو رتب" الثلاث الآتية:
المرحلة الأولي
- اعتبار الجسم وعاء يحوي الروح فيكون بالاعتبار هذا مركبا. يقول الشيخ "إن اللطيفة الانسانية لا توجد دنيا وآخر الا مدبرة لمركب نقول: فالإنسان مسافر ابدا قلبا وبدنا، من مقام الي آخر، ومن منزل إلي آخر، يجوب البوادي والفيافي ويقطع البحار، يذهب شرقا وغربا ويرحل صيفا وشتاء "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف" فالشتاء كما يقول قاشاني: غور البدن، ورحلة الشتاء لترتيب مصالح المعاش واصلاح أحوال البدن ورحلة الصيف للرقي في عالم القدس والتلقي. فالقوم عند الشيخ مراتب ووظائف، ومراكبهم كذلك منها الخيل والإبل.. المسافر هنا فتي يقود مركبه ويحافظ عليه ويحمي ظعينته.
- باعتبار آخر يكون الجسم أرضا "أيها الأخ الوالي إن أرض بدنك هي الأرض الحقيقية الواسعة وعلينا أن نميز بين هذه الأرض الحقيقية الواسعة والأرض الإلهية الواسعة. ففي مكان آخر من الفتوحات، يتحدث الشيخ عن "الأرض الإلهية الواسعة الواسعة، ففي مكان آخر من الفتوحات، يتحدث الشيخ عن "الأرض الإلهية الواسعة ويقول: هي أرض معنوية غير محسوسة لا تقبل التبديل، لها البقاء". يبدو لنا أن هذه الأرض بالنسبة للأرض الحقيقية الواسعة كالضراح في السماء، مقابل الكعبة في الأرض. فأرض البدن كما ينبه الشيخ فيها أرض الهوي وأرض العقل حيث سراج الشريعة، والمطلوب من الانسان هو الهجرة والعبادة فيها، فهي الأرض التي أمرنا الله أن نعبده فيها. الانسان مدعو للسياحة فيها والحج لكعبتها، قد جعل الله فيها الكعبة وهي القلب. وسواء سعي الانسان علي ظهرها أو نفذ في باطنها أو عرج في سمائها، فما خرج عنها قط كما يؤكد الشيخ.
- وفي اعتبار ثالث هي دولة في المملكة الانسانية يجب تدبيرها والعمل علي منع خرابها وتسمي هذه الدولة بحضرة الجسم والبدن. وهي مكونة من حاضرة وبادية ورعية، والعدل مطلوبها، ذلك أن الله سبحانه وتعالي سيسأل هذه الرعية عن حاكمها، حيث يستشهد الشيخ بالآيات: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا" "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون"
يعطي الشيخ الكيان الانساني هيئة فلكية، ويجعل الحواس الثماني تارة أفلاكا في سماء هذه الدولة، وتارة خوخات "طاقات" يجب المحافظة علي سلامتها، لأنها تطل علي عالم الحس، فهم عمال جبايات ، مسئولون كل منهم، كما يقول الشيخ: رئيس وخازن علي صنف من أصناف المال.
نلاحظ أن المطلوب في هذه المرحلة الأولي المحافظة علي الوعاء لما يحويه، المركب للراكب، وعلي الأرض الثمر، علي الدولة للرعية، علي القشر للباب، وعلي المكنز للكنز.
المرحلة الثانية
تمثل مرحلة خراب البدن "ونحره" تأويل الآية: "فصل لربك وانحر" من سورة الكوثر. والحديث الشريف "موتوا قبل أن تموتوا" فالمطلوب تبعا لابن عربي هنا، هو كشف غطاء الأكوان، كسر القشر للحصول علي اللباب والمكنز للكنز. يقول الشيخ مشيرا الي قصة الخضر مع موسي، عليه السلام، عندما خرق الخضر سفينة لمساكين يعملون في البحر : "سفينتك مركبك، فاخرقه بالمجاهدة، السالك هنا يترك النشأة الترابية، ويتسامي فتتوالي عليه الكشوف الغيبية والروحانية، ويصبح الجسم عبارة عن مجاز للحقيقة، وتصبح الاعضاء قوالب حسية لمعان غيبية روحانية، نفسانية أو إلهية، فمثلا تصبح اليدان: رمز القوة والقدرة الإلهية، والكف: الكرم، وتصبح القبضتان: البسط، والقبض والقدمان: التواضع والعجب، والأنف: العزة، والعينان: محل الحياء، واللسان: الحكمة، والفم: الصدق، والبطن: الورع، والحش: محل الهوي، والفرج، العفة، والفطنة: القلب...... وهكذا.
***
تمثل هذه المرحلة قمة التأويل عند الشيخ الأكبر، لأن المطلوب هنا، هو معني ما ظهر، والشيخ يقول: "ما ظهر إلا ليعطي معني"، "فالجسم الكثيف" هنا، كما سبق وأشرنا، "حجاب الغيب، وهو ليل هذه النشأة الحيوانية، لما كان سترا علي ما تحويه من اللطائف الروحانية، فلا يدرك جليسه ما عنده إلا بعد العبارة عن ذلك والاشارة اليه. فالجسم من حيث ذاتيته عند ابن عربي، ليس بأمر سلبي، يؤكد الشيخ "أن الجسم لا يطلب منك إلا سد جوعه، واما النفس فلا تطلب منك الا الطيب من الطعام والمنظر والمشرب والمركب والمسكن، انما تريد كل شيء أحسنه وأعلاه منزلة.. والذي يؤدي الي ذلك، طلب التقدم والترأس. ولا نبالي ان كان ذلك حلالا أو حراما. فالجسم ليس كذلك، انما مراده الوقاية مما ذكرناه. ولا ننسي أن نقول: إن العرب قد استخدموا واعتمدوا لغة الجسد للتعبير عن المعاني اللطيفة بكثرة، لما تعطيه هذه من قوة حسية للصور المتخيلة بكثرة، لما تعطيه من قوة حسية للصور المتخيلة. وكأن لغة الجسم تصبح كالروح للنص.
وأما المرحلة الثالثة: فتبدأ عندما تنعدم المرآة وينتهي التأويل، فاذا كانت المرحلة السابقة تمثل تحليل التركيب، فان هذه المرحلة تمثل تركيبا بلغ التحليل. نقول: ان ترك التأويل هنا، يكون من باب "قد بلغ الكتاب أجله" وبلغ اليتيم أشده، فحان "هدم الجدار" يقول الشيخ "أهدم الجدار" وهو في التأويل جدار العقل النظري. يشير الشيخ هنا الي قصة الخضر وموسي، عليهما السلام، الآية "واما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك".
ووفقا لمنهاج الشيخ في التأويل نقول : إن اليتيم هنا بلغ أشده، واستحق أرثه وكنزه، والكتاب بلغ أجله، ودخل المريد في الثلث الاخير من ليله البهيم. فينصح الشيخ "المريد السالك "الساري" بتوقيف الفكر النظري العقلي التأويلي، حتي يتلقي ما إن يتنزل عليه من الكشوفات الإلهية للأسرار الأعجمية البهيمية التي لا تنال بالتأويل ولكن بالتعريف.
- ماذا يعني الشيخ بالكشف الأعجمي البهيمي؟
يتحدث الشيخ الأكبر عن الاعراس الإلهية، والأسرار الأعجمية، واختصاصها بالحضرة الموسوية في الباب الثاني والثمانين والثلاثمائة من الفتوحات المكية. ولقد كان لنا اهتمام برمزية العربية والأعجمية عند ابن عربي، وعالجنا الموضوع في رسالتنا عن الفتوة عند ابن عربي يقول ابن عربي: "ما ثمة عجمة إلا في الاصطلاح والألفاظ والصور الظاهرة، وأما في المعاني، فكلها عربية ولا عجم فيها. فمن ادعي علم المعاني وقال بالشبه فلا علم له. ففي ضمن هذا الاطار، يجب اعتبار اشارة الشيخ "ما ثم مجاز أصلا الكل حقيقة".
فنحن كما ترون بصدد انعدام المرآة، وانتهاء التأويل، حيث يسود النور ويتضح السر المبهم، وتصبح الأسرار الأعجمية عربية. يقول أبوالوفا شيخ الشاذلي "كل ما يأتيك بأعجمية حسك فسره بعربية قلبك، تجد هدي". وينصح شيخنا قائلا: "نور بيتك المظلم وأوضح سرك المبهم ما دام أركان بيتك غير واهية قبل أن تحصل بالهاوية فنشأة ليلية حيوانية بهيمية وكشف أعجمي لسر مبهم!؟
"إن اطلاق اسم البهيمية ليس ذما. فهو مشتق من الإبهام لكونه أبهم علينا من حيث جهلنا ذلك، وأما عند أهل الكشف فهو غير ذلك". يقول الشيخ مفصلا موضوع المبهم والبهمة في بابين من فتوحاته: الباب السابع والخمسون وثلاثمائة والباب السابع والثمانون وثلاثمائة.
ويستطرد قائلا: "هذا البهائم لديها علوم فطرها الله عليها. فيذكر الشيخ بقصة بقرة بني اسرائيل في القرآن الكريم وقصص أخري. ونذكر بدورنا قصة ناقة الرسول صلي الله عليه وسلم عندما حضر المدينة، واختلفوا علي مكان اقامته، فجعل الامر للناقة كما هو معلوم.
- نحن هنا بصدد لطائف وخفايا أسرار عند الشيخ الأكبر، يجب تناولها ومعاملتها بعناية ولطف. فهذه المرحلة عنده تعتبر من المراتب الاخيرة في الطريق، ورجالها كما يسميهم، هم رجال النومة العسلية، ويشرح ذلك قائلا: "لما فيها من اللذة لهم، للاستراحة في آخر الطريق، معرفة ما أودع الله في هياكلهم من الحكمة المتعلقة بالحقائق الإلهية".
هذه الهياكل الليلية، أنوارها كذلك ليلية فنكون هنا مع شيخنا في حضرة تجلي الليل وأنواره أو كما يسميه الشيخ تجلي الغلس، فيكون للغلس تجل وسدفة كشف وحجاب.
يؤكد الشيخ أن هذا الكشف لا يناله المريد بل الولي "إلا بعناية أزلية يعطي استعدادا لقبوله برياضات ومجاهدات بدنية، وتخلق باسماء إلهية، وتحقق بأرواح طاهرة فلكية، وتطهر بطهارة شرعية، مشروعة لا معقولة، وعدم تعلق بأكوان وتفريغ محل".
في هذا المكان يتحقق الولي بمقام: "وما رميت اذ رميت ولكن الله رمي" ويجوز "أسرار الاختصاص" يقول الشيخ: كل جوارح الانسان واعضائه تذكر وتنطق وتسبح فتشرق وتتجلي للولي في هذا المقام، ويكشف له عن ذلك:
فأشرق الجسم بأنواره
وأظهر الأسرار اذ اشرق
ومن هذا المقام يؤكد الشيخ: "تكون كرامات الأولياء"، ومنه يرافق الحياء الكشف، "فمن علم ان كل شيء ناطق، ناظر الي ربه، لزمه الحياء من كل شيء حتي من جواحه".
وفي نهاية هذا المطاف، في مجال الجسم وتأويلاته، عند الشيخ الأكبر، نجمل ونقول: "إن التأويل عند ابن عربي مقام له "رجال" قد تحققوا به. وليكن آخر ما نسمعه من شيخنا في هذا الصدد، ما جاء في الباب السابع والخمسين وثلاثمائة من فتوحاته، بعنوان "في معرفة منازل البهائم من الحضرة الإلهية وقهرهم تحت سرين موسويين"، "وأما المؤمنون الصادقون أولو العزم من الأولياء فعبروا بالظاهر معهم لا من الظاهر إلي الباطن وبالحرف عينه إلي المعني ما عبروا، عنه فرأوا الأمور بالعينين، وشهدوا بنور إيمانهم النجدين، فلم يتمكن لهم إنكار ما شهدوه، ولا جحدوا ما تيقنوه،فأسمعهم الله نطق الموجودات، بل نطق الكلمات قبل وجودها" وبهذا نفهم قول ابن عربي "ما ثم مجاز أصلا، الكل حقيقة".
ومن هنا فإن الغاية من التأويل عند ابن عربي هو التحقق به، وذلك لا يكون إلا بوجود الجسم وحواسه...
لما انتهي للكعبة الحسناء
جسمي وحصل رتبة الأمناء
وسعي وطاف وثم عند مقامها
صلي وأثبته من العتقاء
فهذا مقام من تحقق بالحكمة والمحبة
قيل يا حكمة هذا محب
حاكم يرغب وصلا بجسمه
والحمد لله رب العالمين .
اخبار الأدب
13 ديسمبر 2008