عن «دار الكوكب» ـ رياض الريس للنشر صدرت للشاعر ناظم السيد مجموعته الجديدة «أرض معزولة بالنوم» بعد إصدارين سابقين: «برتقالة مقشرة من الداخل» و«العين الأخيرة»، وفي كل منها، ثمة السعي الى تجارب في الكتابة من دون هاجس التسميات المسبقة الدالة الى الشعر أو النثر أو سواهما، وبلغة معتنى بها، بسيطة غير متجهمة. عن إصداره كان هذا الحوار.
* في مجموعتك الجديدة «أرض معزولة بالنوم» بنية مختلفة عن مجموعتيك السابقتين «برتقالة مقشرة من الداخل» و«العين الأخيرة». هل سعيت إلى هذا الاختلاف؟
ربما كان هذا السعي جزءاً من تطور الذائقة والأدوات الشعرية الذي يصيبنا أثناء ممارسة الكتابة وتعدد القراءات. إنه سعي يحدث في الداخل، أي في الرأس. الأسلوب عمل غير قصدي تماماً وإنما هو جزء من التقنية التي تقترحها المخيلة كل حين في سياق تجربة الكتابة وعملية التثاقف والنقد وغيرها من العناصر التي تمارسها هذه المخيلة في حق نفسها أو تجاه نفسها. كما تعلمين فأنا أكتب قراءات نقدية لكتب شعرية ولروايات. هذا «النقد» الذي أمارسه تجاه الآخرين يعمل فيَّ أيضاً. لنقل إنني أجرّب ثقافتي في الكتب التي أتناولها في شغلي الصحافي. كما أنني قارئ مثابر ـ آمل ألا يكون هذا التصريح نوعاً من الفجاجة ـ لكتب قديمة وجديدة. لهذا لا بدَّ أن أتأثر بما أقرأ من خلال عملية هضم لا أستطيع إدارك آلياتها بدقة. إذاً، في «برتقالة مقشرة من الداخل» كتبت نصوصاً صغيرة بينما كان «العين الأخيرة» نصاً طويلاً. الكتاب الأخير كان أيضاً نصاً طويلاً قسّمته إلى 51 مقطعاً واعتمدت لهذه الغاية الأرقام. لكن من يقرأ الكتاب مجتمعاً يدرك أنه نص واحد من خلال الموضوع واللغة معاً وبالطبع من خلال المفاتيح والأدوات التي تتكرر وتقوم بوظيفة الربط بين هذه الأجزاء. وهنا أودُّ الإشارة إلى الفرق بين «العين الأخيرة» و«أرض معزولة بالنوم» كونهما نصين طويلين. الأول كان نصاً ذا موضوع واحد تصاعدي وتراكمي له بنية عمودية. الأخير ذو بنية أفقية بموضوعات عديدة تبدأ بالخارج من نوافذ وشوارع وجدران وأزقة وأرصفة ودهان ومارة وكلاب ومقاعد وأشجار وهواء وشمس ومطر وبحر وفصول وغيرها وتنتهي بالداخل من كنبة وبانيو وملاقط غسيل وصابونة وتلفزيون وزجاج وسرير وحنفيات وقساطل وغيرها. وما بين الخارج والداخل أقع أنا. أي إن «أناي» تقوم بالربط بين هذين الخارج والداخل من غير أن أغفل هنا الحديث عن جسمي بأعضائه الخارجية والداخلية أيضاً. من جهة أخرى هناك ذاكرتان في الكتاب: ذاكرة قصية تستعيد طفولتي التي أمضيتها في بيروت في منطقة تقع على خطوط التماس أيام الحرب بما تختزن هذه الذاكرة من مشاهد دمار وقتل وجثث وعنف وظلمة سببها انقطاع التيار الكهربائي («في ذلك الليل المظلم ـ منذ متى لم يعد الليل مظلماً ـ كان الشارع ذئباً»)، وهناك ذاكرة راهنة تلعب وظيفة تسجيلية، أي نقل كل ما تصادفه العين في تجوالها في الخارج وتفاعلها معه. وعليه، يبدو هذا الكتاب نصاً طويلاً لكن ببنية مخلخلة إن لم أقل مختلة. لإنشاء هذه البنية فكرت في ثلاثة أشياء تغويني بالفعل. هناك البنية القرآنية إذ تشمل كل سورة قرآنية مواضيع عدة بسبب جمع القرآن لاحقاً خلافاً لزمن «نزول» الآيات ومناسباتها، وهناك بنية الكلام الشفهي، أي ما يحدث أثناء حديث الناس مع بعضهم بعضاً إذ يتشعب الكلام ويستدرج المتكلمين بلا خريطة، وهناك أخيراً كلام المجانين الذي يسحرني. عندما نستمع إلى مجنون نلاحظ أنه يقول جملة سليمة نحوياً، أي لها البنية اللغوية من فعل وفاعل ومفعول به أو جملة اسمية وربما كان لها معنى واضح، لكن اقتران هذه الجملة بأخرى يفقدها معناها وهكذا. إنها لغة الأطفال أيضاً. وربما كانت لغة اللاوعي، هذا الكائن المعوّق والأخرق الذي يتكلم معنا بحطام الكلمات. قد يسأل أحدهم هنا عن الجامع بين هذه المواضيع. جوابي هو اللغة. إنها الحامل الصوتي لما يبدو شتاتاً. وبهذا المعنى أعتقد أنني أختزن صوتاً جماعياً هو صوت الوعي المخلل لأمة مهزومة. لأمة تجمع نقائض كثيرة بسبب ضعفها. طبعاً ثمة مشترك في كتبي الثلاثة مثل تواتر موضوع العائلة وكذلك الميل إلى لغة بصرية واضحة (يكفي تأمل عناوين هذه الكتب) ولغة فيزيائية تقوم على الحسية مع استخدام سخي للجسم وأعضائه. حتى في كتابي الأخير الذي يتنقل بين عناصر الطبيعة والظواهر من أشياء المدن والمنزل ليس إلا رغبة في تبديد هذا الجسم على موجودات وعناصر، أي طموح في التخلص من الجسم وتوزيعه في كل ما حولي. أطلت الكلام هنا متحفظاً في الإشارة عن الانتقال من معنى إلى معنى في الجملة ومن الخبر إلى الإنشاء (كما كتب الصديق الشاعر شوقي بزيع عن كتابي السابق) داعياً القارئ إلى رمي كل هذه التنظيرات واستقبال النص الشعري بطريقته، إذ إنني شخصياً أحب قراءة الشعر بطريقة غريزية لأن الكتابة عندي متعة في المقام الأول ومثلها القراءة.
عندي مشروع
* إلى أي حدٍّ تقترن هذه النصوص بمفهوم الشعر ولا سيما أنها تقترب من النثر كثيراً أم تفضل تسمية أخرى؟
لم يعد عندي هاجس التسميات. بعكس ما يظنُّ الكثيرون عن أبناء جيلي متهمين إيانا بعدم معرفتنا بالشعر واللغة، فإنني وكثيرين من جيلي نكتب الشعر ربما أفضل من أسماء مكرّسة أو مشهورة في المشهد الشعري العربي. شخصياً، قرأت الكثير من التراث الشعري العربي وحفظت مئات الأبيات منه. كما أنني كتبت شعراً خليلياً في مراهقتي ولم أنشر شيئاً منه. ولم أفتخر يوماً بدراستي الأدب العربي لذلك تركت الجامعة في السنة الرابعة غير آسف. ويمكن أن تلاحظي أنني أستعمل اللغة بدقة من أحرف الجر إلى الأخطاء الشائعة. أما عن شعرية مجموعتي فأظن أن هذه إشكالية لم تعد مطروحة منذ أراد بودلير استخراج الشعر من النثر وتبعه في ذلك رامبو. ثمة لغة تقيم فاصلاً شحيحاً بين النثر والشعر. الشعر يتحقق من خلال اللغة لا من خلال الشكل. لن أتحدث هنا عن مفاهيم باتت هي الأخرى ممجوجة مثل النص المفتوح وتداخل الأنواع الأدبية والفنية. كما لن أتحدث عن الفرق بين الشعر والقصيدة بحسب البعض. كل ما في الأمر أن هذه اللغة اللامعقولة والطفولية والمرفوعة بغناء ما والمضبوطة بإيقاعات غير مكشوفة للأذن النمطية تحيل على الشعر. في كل حال، أطمح إلى كتابة تسمّي نفسها بنفسها. ولست خجولاً من التصريح بأنني أحمل مشروعاً. يضحكني أحياناً الشعراء الذين يتسوّلون الناقد والقارئ والزميل. من يرد الكتابة فعليه أن يحمل مشروعاً وإلا ما معنى هذا الشقاء. هناك من يبشر بالشاعر الأمي والشاعر الذي يتكلم بلسان الوحي من غير الحاجة إلى القراءة والشاعر الكاره للشعر والشاعر الذي يزاول الشعر كمهنة «بعد الظهر». نظرة بانورامية على الشعراء في العالم تقول لنا إن مثل هذا الشاعر غير موجود وتحديداً رامبو العارف بعصره شعرياً وسياسياً وثقافياً. أعطيت رامبو مثلاً لأنه نموذج للشاعر الضجر من الشعر وللشاعر الموهوب بلا جهد. هكذا نُقل إلينا هذا الشاعر بتشوّه. لكن من يقرأ أعماله الشعرية التي نقلها إلى العربية الصديق الشاعر كاظم جهاد فسيدرك أن الشعر كان مشروعاً كبيراً لدى رامبو ولا سيما من خلال رسالتي الرائي الشهيرتين.
* لاحظت اعتناءك باللغة إلى جانب الشعر. هل تعتقد أن الشعر لا يستقيم من دون لغة معتنى بها؟
لأوضح أولاً أن الاعتناء في اللغة لا يعني تجهمها ولا تقعّرها. هناك لغة بسيطة هي نتاج اعتناء ودربة وتمرين وحذق. وسأغامر وأقول إن البساطة غاية الاعتناء في اللغة. اللغة المعجمية واللغة الصلفة واللغة المتعالية هي أسهل أنواع اللغات. حين أقرأ سركون بولص أو وديع سعادة أو بسام حجّار ومن قبلهم محمد الماغوط أدرك أن ثمة اهتماماً باللغة يفوق أولئك الذين يغطون جهلهم اللغوي بالتقعير والتقعيد وربما جهلهم الشعري أيضاً. تلفتني لغة حسن عبد الله البسيطة رغم أن ذائقة حسن كلاسيكية بسبب حفظه آلاف الأبيات من الشعر العربي القديم. لكن حسن حين يكتب يضع جانباً هذا المخزون الكلاسيكي ويصنع جملته البسيطة رغم أنه يكتب قصيدة تفعيلة. شخصياً، أميل إلى هذه البساطة معتقداً أنها ـ أي البساطة ـ فن شاق وصعب. أنا من الناس الذين يتذوقون اللغة بالمعنى الحسي لهذه الكلمة. أهتم بها وأجرّبها في رأسي وأدندن بالكلمات والعبارات حتى أهتدي إلى صياغة ترضيني. أحب حروف اللغة العربية وتراكيب الكلمات والجمل لكني أختار أبسط التعابير للوصول إلى معنى أريده. أتذكر هنا «معجم العين» للفراهيدي الذي قال إن مخارج الحروف كلما ابتعدت عن بعضها بعضاً كلما كانت حسنة في اللفظ كما في مفردتي «حب» و«أم» على سبيل المثال، وكلما اقتربت هذه المخارج من بعضها بعضاً شاب النطق قبح كما في مفردة «قلقلة». حين يكون المرء عارفاً باللغة يصبح له «مونة» عليها: يلويها، يكسرها، يدوّرها، يجعلها قاسية أو لينة. لا أحب اللغة «العضلية» التي تمارس سادية تجاه القارئ. لهذا أقول إن بعض العرب يتعامل مع اللغة العربية بوصفها لغة عدو، في إحالة على عبارة «من عرف لغة قوم أمن شرَّهم».
إعادة تقييم
* لا تعتمد الغرائبية التي يعتمدها البعض بل تشتغل على فكرة بسيطة بعبارات جد بسيطة، ومع ذلك نتفاجأ أننا أمام شعر حقيقي؟
كما أخبرتك أميل إلى إنشاء لغة بسيطة. في بساطة اللغة شيء من الخبث. إنني أخدع القارئ وأمارس عليه تواضعاً مزيفاً. أوهمه بأنني أتحدث بلغته في حين أنني لا أفعل شيئاً سوى كتابة جملة تروقني وأحس بها. أحلم في كتابة جملة أختفي وراءها تماماً. يغويني هذا الاختفاء في اللغة وفي الحياة لو أستطيع ذلك. حين أكتب أنطلق دائماً من فكرة تجول في رأسي أو من مشهد يفاجئني أو من ذكريات وصور تبدو لي الآن هياكل مشهدية ناقصة. لا أبدأ الكلام من لغة، أي ليس عندي هذا الشغف بالعمارات اللغوية التي تقوم على نفسها في فضاء سديمي. أحب الجمل التي تقف على رجليها. أقول هذا رغم أن البعض يتهمني باللغة، وهؤلاء يخلطون بذلك بين معرفتي النحوية والبلاغية باللغة وبين ممارستي اللغوية داخل النص الشعري. أحياناً يبدو لي أنني أكتب نصاً يثأر من هذه المعرفة التي جاءتني بلا قصد بسبب عدم توافر فن غير الشعر القديم في مراهقتي. كان لدي كتب الشعراء الجاهليين والأمويين والعباسيين وغيرهم فقرأتهم وأخذت عنهم ما يُسمّى البنية ثم رحت لاحقاً أنتقم منهم بجملة تسلس أمام القارئ. أحب في الشعر تلك الحسية التي تجعلنا نقبض (من قبضة) على الكلمات بأيدينا. الوضوح مع الإدهاش، البساطة مع العمق، فن القول مع النجاة من التصريح، إتيان المعنى مع الحرص على عدم اكتماله، الصرامة مع قدرة على الاحتياط، الراديكالية مع حسبان الهوامش، هذه كلها طموحات أرغب في تحقيقها.
* هناك قرب من بسّام حجّار أحياناً. هل هذا الشاعر موجود في حياتك الشعرية؟
بالطبع. بسّام شاعر أحبّه رغم أنني لا تربطني به علاقة صداقة قريبة. أحب جملة بسّام حجّار السهلة والمخادعة والشفافة والعاطفية، هذه المفردة الأخيرة التي باتت محلَّ ابتذال في الشعر. حين يقول باشلار «متعة القراءة انعكاس لمتعة الكتابة» أفهم هذه الجملة على أنها إعادة تقييم للعاطفة. لقد أتاح لي بسّام حجّار كتابة ممكنة عن العائلة. أظنه من فتح لي هذا الطريق. وهنا أتذكر أن كافكا كتب طوال حياته من هذا المحيط الضيق الذي يُدعى العائلة ومع ذلك كانت رواياته مصدراً لتأويلات غنية وكثيرة.
السفير
6-11- 2007