ينتمي الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور الذي ولد في "حيفا" العام 1946 إلى جيل الستينيات من شعراء المقاومة الفلسطينية، فبعد نكبة 1948م هاجر مع أهله إلى لبنان ومنها إلى سورية، حيث نشأ ودرس في مخيم للاجئين الفلسطينيين قرب مدينة "حمص". وعبر تجربته الطويلة كرّس دحبور شعره لقضية الوطن المغتصب، عبر أشكال شعرية متباينة فهو يكتب الشعر الحر، ويتراوح أحياناً بين الشعر والنثر محاولاً توليد أوزان خاصة في القصيدة الواحدة، وهو مولع بالتجريب، وقد صدر له مجموعة من الدواوين منها: "حكاية الولد الفلسطيني" 1971، "طائر الوحدات" 1973، "بغير هذا جئت" 1977، "اختلاط الليل والنهار" 1979، "واحد وعشرون بحراً" 1980، "شهادة بالأصابع الخمس" 1982، "كسور عشرية" 1992.كما أصدر هذا العام مجموعة " أي بيت " وفي العام 1998حاز على جائزة توفيق زياد في الشعر، وتولى مدير تحرير مجلة "لوتس" في العام 1988، ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وكان قد استقر في تونس منذ عام 1983، وعاد إلى فلسطين في العام 1994، ويعمل حاليا وكيل وزارة الثقافة الفلسطينية المساعد في غزة.
هنا حوار معه يرصد ملامح تجربته وآراءه الخاصة في الشعر والحياة:
* دعني أسألك في البداية عن المؤثرات التي أسهمت في تشكيل وعيك الإبداعي وقادتك إلى الشعر؟
- يمكن ان أشير إلى كتب السيرة الشعبية وإلى آثار النكبة الفلسطينية. وإلى دور معلمي الأول موريس قبق الذي أحتاج إلى نهر من الحبر لأفيه حقه. لقد أشرت في مقدمة ديواني الذي يضم المجموعات الأولى من شعري إلى ثلاث شخصيات: أمي ، وموريس قبق، والزير سالم.. وعلى ما في الإشارة من طرافة إلا أنها تتجه إلى الاعتراف بفضل الأم ودورها في تغذية المخيلة. وإلى حساسية اللغة وتقنية الشعر على يدي موريس. وإلى اكتشاف الشعر بحد ذاته، بما هو كتابة مختلفة، من خلال السير الشعبية. ويبدو لزاماً علي أن أشير إلى تربية ثقافية مركبة. فأنا ابن شيخ مسلم سني معمم. ولكنني عشت مرحلة حساسة من عمري في بيئة مسيحية. والرموز الإسلامية المسيحية واضحة الحضور في شعري. إضافة إلى أن جيلي عاش تحولات وتجارب عميقة وخطيرة وأحياناً عنيفة. فقد فتحنا عيوننا على النكبة، وعايشنا أربع حروب. وانخرطنا في الفكر القومي، وعصفت بنا الوجودية، وشغلتنا الماركسية، وشهدنا انهيارات كبرى. وخلال هذه الفترة كان الشعر العربي يتنقل بين التيارات والمدارس بسرعة الصاروخ، سواء بأشكال الكتابة من نظام البيت إلى التفعيلة إلى غير الموزون، أو بالمدارس الفنية نفسها. بعد ذلك أو قبل ذلك تأتي التجربة الشخصية. فقد خرجت من بيئة المخيم المحدودة، إلى مدينة حمص الواسعة نسبياً، فور انتهاء دراستي الابتدائية، ثم وجدتني خارج بيتنا الصغير منذ عام 1968. وتنقلت مع رياح المقاومة من دمشق إلى عمان إلى بيروت إلى درعا إلى القاهرة إلى عدن إلى صنعاء إلى عشر سنوات في تونس، وها أنذا في غزة منذ 24/8/1994.. وكان طبيعياً أن يترك هذا أثره في الشعر.
* يرى بعض النقاد إن شعرك في الماضي كان أكثر فنية وقدرة على التواصل مع المتلقي، أما شعرك الحديث فتبدو وكأنك تخاطب به النخبة من المثقفين. فإلى أي مدى يبدو هذا القول دقيقا برأيك ؟
- لم أسمع هذا الرأي من قبل. ليست هذه مكابرة للتخلص أو مناورة للتملص، لكنني فعلاً لم أسمع هذا الرأي. ومع ذلك، وما دام السؤال مطروحاً فلابد أن هناك من يقول هذا. ولكن ألا يوجد بعض التناقض في القول إن الشعر أصبح أقل فنية بدليل تراجع وصوله إلى المتلقي؟.. فالذي أعرفه أن أحد أسباب تراجع شعبوية الشعر الحديث هو أنه أصبح أكثر إخلاصاً للفن حتى أنه كف عن تملق الذوق السائد.
إن من أسهل الأمور على شاعر تتوافر لديه الحرفية المجردة، أن يهيج الجمهور بكليشهات جاهزة تجعل القاعة المغلقة ترقص على رجل واحدة. ولكن سيكون الشعر هو الغائب الأكبر. ليس معنى هذا أنني أضع قياساً سلبياً يعطي علامات للقصيدة بقدر ما تبتعد عن المتلقي. ولكنني أعترف بأننا كلما ذهبت القصيدة في البحث والمغامرة فإنها تفقد بعض مفاتيحها المتاحة لأبواب الثقافة الموروثة التي لا تريد غير ما يشفي غليلها. وعلينا التمييز دائماً بين الشعب بما هو صانع التاريخ وبين عينة من جمهور محشور في قاعة مغلقة بأعصاب ملتهبة. ولا أظنني وحيداً في مأزق الالتباس بين ما يريده هذا النوع من الجمهور وما يريده الشعر. لقد كففت منذ فترة -ولست وحدي- عن تلبية الكثير من الدعوات السياسية المبهرجة بالشعر الاحتفالي. ولكن إذا كان لابد من ذلك، لأسباب غير شعرية طبعاً، فإنني أفضل أن أقرأ قصيدة مكتوبة منذ ربع قرن على كتابة قصيدة الآن بأدوات ما قبل ربع قرن.
ليس معنى هذا أن القصيدة الحديثة تخاطب نخبة من المثقفين. بل إن المشكلة تقع في الفعل "تخاطب". ذلك أن الشعر الذي اشتقه العرب من الشعور، يبدأ من الذات أساساً، أما الدور المؤثر للشعر فيأتي نتيجة ما كان يسميه جان بول سارتر حضور الشاعر في العالم. أي أن الشاعر يكتب من ذاته إلى ذاته، ولكن بقدر ما تكون هذه الذات محتشدة بالآخرين، بالحياة العامة، فإن القصيدة -وهي الذاتية- ستجد صداها وتأثيرها في الآخرين. أما إذا كتبت القصيدة من ظهر قلبي لإرضاء الذوق السائد فقد أفوز بالتصفيق ولكنني أخسر الشعر بالتأكيد.. من يصدق أن المرحوم السياب -وهو من هو في تاريخ الشعر العربي- وجد نفسه أمام هذه المعضلة حرفياً، وعبر عنها بمقالة جرت عليه المتاعب قبل أربع وأربعين سنة؟ كانت المقالة بعنوان "الالتزام واللا التزام في الشعر العربي الحديث"، وقد لاحظ يومها أن زملاءه الشعراء الرواد -وليس هو وحده- قد سئموا من الكتابة حسب الطلب، إلا أن كتاباتهم الذاتية لا تعني، ولا يجوز أن تعني الانصراف عن الشأن العام..
* يقال أيضا إنك ابتعدت بشعرك عن توظيف الفلكلور والتراث الفلسطيني، وأصبحت تميل إلى التجريب وما ينطوي عليه من رموز وغموض. ما هو تعليقك على هذا الكلام؟
- يا سلام.. وهل استخدام الفلكلور والتراث كان بعيداً عن التجريب؟ أم أن للتجريب مواصفات ملعونة سرية سيقع من يذهب إليها، في الدرك الأسفل من النار؟.. إن المعاناة الشعرية عملية متجددة باستمرار، وليست مراوحة عند لحظة نجاح أو خطوة في أرض مضمونة.. ما زلت أذكر سخرية ناقد تقليدي جليل من استخدامي جملة عامية في قصيدة لي قبل خمس وثلاثين سنة. كنت يومها مغامراً مجرباً.. وأظن أن التجربة نجحت. لكن النجاح لا يعني إيقاف عقارب الساعة.. وما يكتبه الشعراء الجدد المجددون الآن من شعر متوتر قائم على القطيعة مع السياق السائد، يقابل، بالمعنى النسبي، ما كان يحدثه استخدام الفلكلور وما إلى ذلك قبل عقود من الزمن.. ليست المسألة في إضافة هنا وحذف هناك، بل إن الشعر عملية صعبة متجددة مسكونة بالدهشة والمفاجأة، تخدمها التجربة والثقافة وحسّ المغامرة من غير أن يكون ذلك على حساب الرؤيا أو المشروع..
إن كل ما سبق لا ينفي حقيقة أن هناك شعراء يتراجعون ويضعف تأثيرهم. لكن ضبط هذه المسألة يتعلق بأدوات النقد والمتابعة وليس بالأحكام المسبقة..