ربما يكون عبده وازن فريداً في جيله الشعري، في قصيدة النثر التي يكتبها، فهو الذي يكتب سفراً هو محاورة مع الموضوعات الكبرى، مع الحياة والموت بلغة اقرب الى الصلاة أو الهمس وهو الذي يكتب شعرا هو مخاض كآبة تند في النهاية عن رجاء قليل لكنه رجاء، وهو أيضا يتابع مدرسة لبنانية في نخل الكلام وحسن السبك. فرادة يواصلها وازن في كتابه الأخير “نار العودة” الذي هو الثالث في ثلاثية تخوض على أنحاء مختلفة التجربة ذاتها، أين يقف عبده وازن، ما هو سؤاله القادم ويطرح علينا، وقبل ذلك كله ماذا نطرح على “نار العودة”، ذلك كان عقب حديثنا معه.
* كتابك الجديد “نار العودة” يبدو كأنه جزء من ثلاثية شعرية لا تكف عن أن تكون خاصة. ثمة اتجاهات في شعرك تجعل منه شعرا خاصا ومنفردا، فعندك الهمّ الديني وليس الميتافيزيقي فقط! كيف ترى الى هذه الاتجاهات والخصائص؟
صحيح، أردت ان يكون ديواني “نار العودة” امتدادا للديوانين السابقين “أبواب النوم” و”سراج الفتنة”. الآن أستطيع ان أقول إنني بدأت تحقيق مشروع شعري سوف يتبدّى ويتضح مع الأيام الآتية. أستطيع ان أقول إنني وجدت ما يمكن تسميته باللغة الخاصة، لغتي لا في معناها المجازي أو البلاغي فقط وإنما في معناها الوجودي أو الكينوني.
أضحت اللغة بالنسبة إليّ مسكنا أعيش فيه. غير ان هذا لا يعني ان القصائد التي سأكتبها ستكون شبيهة بما كتبت في هذه الدواوين الثلاثة. قد يكون عالمي هو نفسه، أو قد تكون مقاربتي للعالم هي نفسها، لكن اللغة ستتطور داخليا. في هذا المعنى أقول إنني أعمل الآن على قصيدة طويلة ستكون مختلفة، إضافة الى قصائد قصيرة ذات توجه مختلف. وأعتقد ان قصائدي في الدواوين الثلاثة فتحت لي المزيد من الآفاق الشعرية ولا سيما النزعة الحلمية التي ستؤدي الى قصائد هي أشبه بالنصوص الشعرية. إنني أكتب بهدوء تام، بعيداً عن الصخب وأعتبر الشعر هو من صناعات العزلة. ولذلك نادراً ما أنشر قصائدي في الصحف أو أشارك في مهرجانات شعرية. الشعر بالنسبة الى هو طريقة وجود وطريقة حياة وطريقة معرفة، علاوة على كونه صنيعاً لغوياً.
* وماذا عن النزعة الدينية في شعرك؟
كنت سأعود الى القسم الثاني من سؤالك. أجل لديّ نزعة دينية، بل قد يكون الدين من الخلفيات التي يستند شعري إليها. لكنه الدين في المفهوم الشعري، لا الطائفي ولا المذهبي ولا الطقسي. فالدين في نظري هو الحرية المطلقة، حرية المحاورة مع الذات العليا، مع الكون، مع السر، مع الغموض. فالله لا أحد يدرك كنهه، وهو ذروة الغموض والوضوح في الوقت نفسه. وأعتقد ان الشعراء هم أكثر البشر قدرة على معرفة بعض أسراره، كالأنبياء تماما، لان اللغة، بما هي كائن حي، قد تكون أداة التخاطب المتاحة. فالأنبياء يتكلمون، والشعراء يتكلمون. أعتقد ان الدين في مفهومه الفلسفي والميتافيزيقي هو من أجمل ما يملك الانسان. فالإنسان مشغول دوماً بالموت فيما يظن أنه مشغول بالحياة. والموت الذي يحيا وينمو في الذات الإنسانية هو حافز أساسي على المعرفة الدينية. إلا إنني كما أشرت، لا أستطيع ان أفهم الدين إلا شعريا، شعرياً وصوفياً. فهناك دين للعامة ودين للخاصة ولن أقول النخبة. أنا أميل الى دين الخاصة. حتى مسيحيتي هي مسيحية متحررة جدا بل مهرطقة. لأنني لا أستطيع ان أقرأ المسيح إلا قراءة صوفية وإنسانية ومجازية. في هذا المعنى أشعر إنني أستطيع ان آخذ من كل الأديان ما يناسبني وأستطيع ان أكون مسيحيا ومسلما وبوذيا في الوقت الواحد ولكن على طريقتي. أما الطوائف والمذاهب وحواراتها وحروبها فهذا ما لا علاقة لي به. إنني إنسان ديني ولكن بلا مؤسسة، إما المسيح الذي اعتبر انه ذروة التجلي النبوي وذروة المصالحة بين السماء والأرض، فهو مسيحي الخاص الذي يختلف عن المسيح الذي تقول به المؤسسة أو الكنيسة. الدين إذاً هو حريّة بنظري. حتى الإلحاد شكل من أشكال المعرفة. والله لو شاء ان يفرض نفسه على البشر لفرض نفسه. ويجب ألا ننسى ان جوهر الله هو المحبّة.
الشكوك
أنت تتحدث عن الدين فيما الحال الإبداعية والثقافية الراهنة تنحو الى أخذ الطابع الشكوكي، أي طابع الشكّ في كل شيء! كيف تبرر هذه الظاهرة لديك؟
هل تعتقدين ان التجربة الدينية في معناها الحقيقي هي تجربة مملوءة بالطمأنينة والفرح؟ هذا انطباع غير صحيح، مع أنه شائع أو رائج. اعتقد ان التجربة الدينية هي أكثر التجارب قلقاً واضطراباً. يكفي ان نقرأ المتصوفة، مسلمين ومسيحيين. ألم يتحدث الحلاج عن عذابه مع الله؟ ألم يعبّر سان جان دولاكروا عن عمق الليل الذي كان يغرق فيه؟ والأمثلة الأخرى كثيرة جدا. يقول هيدغر بوجوب وجود الدين في قلب الشعر وألا فقد الشعر ناره. والدين هنا لا يعني به دين العامة أو الطقوس، بل التجربة الوجودية العميقة. اعتقد ان الدين كما أفهمه هو من أكثر التجارب قلقا لأنه مرتبط بمعنى الموت والأسرار والماوراء. حتى الإلحاد هو في وجه من وجوهه تجربة دينية. ونيتشه حين أعلن في زرادشت نبوءته الجديدة القاضية بموت الله كان طالعاً من جحيم التجربة الدينية. حتى صموئيل بيكيت أشعر أنه كان على حافة هذه التجربة. وكذلك كافكا، وسأكتفي بهذه الأسماء وإلا فإن اللائحة ستطول بدءاً بأفلاطون وانتهاء برينه شار الهيراقليطي النزعة.
إنني أحيا دوما في حال من الشك أو في ما يُسمى ب”اللاهوت السلبي”. والشك هو الطريق الوحيد الى المعرفة أو الى إمكانية المعرفة. فالشعر هو سرقة للنار كما قال الإغريق. وسرقة النار تُحرق. والأثر الذي يبقى منها هو الجوهر. وقد تكون قصائد ديواني الجديد “نار العودة” هي من أشدّ القصائد اكتئاباً وقلقاً حتى وإن بدا بعضها ذا طابع ميتافيزيقي أو ديني. أقول في إحدى المقطوعات: “كل عبث الحياة أننا نتوارثها من غير ان نملكها”. في هذا المعنى تبدو الحياة مشروع موت مثلما عبّر الصوفيون. ولعل القصيدة التي أهديتها الى الصديق عباس بيضون تعبّر كثيرا عن حال مرضية من الاكتئاب. أما موضوعة أو تيمة الغربة فهي تمثل الكثير من القصائد. فالإنسان في نظري ليس النموذج الأرقى للغريب الذي يعبر وكأنه لم يعبر بل كأنه لم يكن...
* عبارتك منمّقة وجميلة وأنيقة أكثر مما يجب، وفي معنى آخر تبدو عبارتك كأنها جوهرة متكاملة وكذلك يبدو شغلك على الشكل في حال من التمام البعيد عن العفوية! ما رأيك؟
يفهم من كلامك موقفان متناقضان، كأنك ضد هذه العبارة المنمقة ومعها في الحين نفسه، وهذا ما أفرح به. ففي النهاية الشعر اقتراح لغوي وجمالي وليس أمرا يفرض فرضا. ولكنني أعترف ان شعري يجمع بين الصنعة أو الشغل وبين العفوية. فأنا أكتب القصيدة بحال من البراءة التامة، أو العفوية التامة أو الآلية التامة ثم في مرحلة لاحقة أبدأ العمل عليها. والعمل قد يطول وقد يغير القصيدة كلها ولكنه يحافظ على روحها. إنني أؤمن تماما بما يقول بول فاليري عن أن الوحي يأتي الشاعر من البيت الأول أو السطر الأول وليس على الشاعر إلا ان يعمل من ثمّ، عليه ان يخلق. والشعر فعل خلق في كل ما يعني من ألم وعذاب وفرح وامتلاء. إنه محاكاة لأفعال الخلق الكبيرة وربما لفعل الخلق البدئي. وشخصياً لا أحبّ الركاكة ولا الضعف ولا البشاعة ولا الحشو ولا التفسير، لكنني أيضا لا أحب البلاغة ولا الفصاحة لكنني أحب السِحر في اللغة والومض والإشراق. كانت الفصاحة مرحلة من المراحل التي اجتزتها وقد تجلّت خصوصا في كتابي “حديقة الحواس” وقد تقصّدتها من أجل غايات ما ولأثبت ان الجسد في اللغة العربية يمكنه ان يكون قمّة الفصاحة والبلاغة على رغم كل ما يكال له من تهم ويُنسج له من محرّمات وممنوعات. إما في الدواوين اللاحقة (أبواب النوم، سراج الفتنة، نار العودة) فإنني تخلّيت عن البلاغة لمصلحة القصيدة. لكنني لم أتخلّ عن الجمالية ولا عن المتانة والشفافية والاقتضاب. وركزّت كثيرا على الصورة الشعرية وعلى التشبيه إيماناً مني بأن وراء التشبيه، كما قال النفري، “حقيقة” لا تُعرف إلا بالتشبيه.
وكذلك أركز دوماً على الموسيقى الداخلية للغة وللجملة الشعرية، وهي في رأيي أهم كثيراً من موسيقى التفاعيل. وأتذكر هنا ما قال بورخيس نفسه عن هذه الموسيقى الداخلية معتبرا إياها أهم من العروض وموسيقى القوافي لأنها موسيقى النفس.
قصيدة النثر
*أي أنك منحاز الى قصيدة النثر انحيازاً نهائياً؟
قصيدة النثر هي حاضر الشعر ومستقبله. لكن هذا الرأي لا يعني ان ليس هناك من شعراء يكتبون القصيدة العمودية والقصيدة التفعيلية. لكن التحولات الشعرية بل التجليات الشعرية التي شهدها العصر الحديث بدءاً من الخمسينيات الماضية حصلت داخل قصيدة النثر لا في العالم العربي فحسب وانما في الغرب أيضا. وأعتقد ان الكلام السجالي الذي يثار حول قصيدة النثر أصبح من موروثات الماضي. لا أحد اليوم في العالم يتحدث عن المشكلة القائمة حول قصيدة النثر. أصبحت قصيدة النثر أو الشعر النثري وهو ما يسمّى بالشعر الحر عالميا أفق الشعر ألما بعد حداثي. وعندما نتكلم أمام بعض الشعراء الغربيين عن مثل هذه الأمور يفاجأون حقاً. تصوري ان يسمّي الفرنسيون سان جون بيرس أو رينه شار أو هنري ميشو شعراء قصيدة النثر! علما ان رامبو ووالت ويتمان ولوتريامون وسواهم من شعراء العالم كتبوا قصيدة النثر أو شعر النثر من غير تردّد وتجلوا فيها. ثم هناك مصطلح “الشعر الحر” الذي أُسيء فهمه عربياً. فالشعر الحر في الغرب يعني شعر النثر الموزّع أسطراً شعرية والخالي من الوزن والقافية مثل شعر بول اليوار وبيار ريفردي وتزارا وحتى الشعر الاميركي وسواه.
عندنا دمج بعض النقاد أو الشعراء وفي مقدمهم نازك الملائكة، بين الشعر الحر وشعر التفعيلة والصحيح ان الشعر الحر يختلف عن شعر التفعيلة في خلوّه من الوزن والقافية.
أما بالنسبة الى الشعر الموزون والمقفّى فهو أصبح من تراثنا وقد انتهى مع آخر شعراء المقلب الثاني من عصر النهضة. والأصوات الكلاسيكية التي تحاول ان تبرز اليوم تبدو تقليدية جدا ومقلّدة ومكررة لتجارب السابقين. الشعر التفعيلي اليوم يعيش أزمة فعلية على الرغم من بروز شعراء كبار يكتبونه وهم قد استفادوا ويستفيدون من فضاء قصيدة النثر أو شعر النثر: أدونيس، محمود درويش، محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، جودت فخر الدين، وهناك أحيانا سليم بركات ونزيه أبو عفش وسعدي يوسف وبعض الشعراء العراقيين الذين يسعون الى تطوير الشعر التفعيلي، وأعتقد ان الشعر التفعيلي هو وجه من وجوه الشعر الموزون والمقفّى والشاعر لا يملك الحرية التامة في التخطي، فالأوزان تفرض عليه بعض التراكيب الجاهزة وكذلك بعض الحشو و”الإطناب” تبعاً لضرورة الوزن والقافية.
* قصيدة النثر أو لأقل شعر النثر هو شعر الحرية. فلماذا اقتصار الشعر على لعبة التفاعيل فيما الموسيقى الداخلية، موسيقى الكلمات والأحرف، موسيقى القلب والروح والجسد، تتيح الكثير من الحرية للتعبير أولا ثم للإبداع الشعري والخلق اللغوي؟
على كل حال، كل شاعر حر في أن يكتب ما يشاء وأن يختار الطريقة التي تناسبه. فالمهم هو الشعر أولاً وأخيراً.
(السفير اللبنانية)
أقرأ أيضاً: