الناقد المصري موروثنا الأدبي والجمالي يؤهلنا لمشاركة مرموقة في علم النقد على المستوى العالمي
ساند الناقد الدكتور عبدالمنعم تليمة تيارات الكتابة الجديدة في مصر، ودافع عنها منذ انطلاقتها الأولى في أوائل السبعينيات، وعلى وجه الخصوص جماعة "إضاءة 77" الشعرية، ولا يزال يلعب الدور نفسه، بمتابعاته النقدية والفكرية اللافتة، ومشاركاته في المنتديات واللقاءات الأدبية، إضافة الى صالونه الأدبي الذي يعقده بمنزله كل يوم خميس أسبوعيا.
هنا حوار معه عن النقد والمشهد الثقافي العربي ومدى تأثره بجملة المتغيرات التي تجتاح واقعنا على شتى المستويات.
* منذ فترة طويلة، انتشرت ظاهرة الكتابات المدرجة تحت يافطة "النص"، وهي أبعد ما تكون عن هذا المفهوم بمعناه الجمالي. فما هو النص حقاً؟
ـ في الحقيقة ان عصرنا يشهد انتقالة هائلة في تاريخ الإبداعية البشرية في طريق تدوينها وتسجيلها وتصويرها ورؤاها المتنوعة، بعبارة محددة، نحن اليوم في عصر تآزر الأنواع الأدبية، بل تآزر كل الفنون، ذلك ان تقنيات الاتصال والتوصيل قد أتاحت لأول مرة في التاريخ إمكانات هائلة غير مسبوقة، لنرى الأنواع الأدبية يدخل الواحد منها في الأنواع الأخرى، وهذا النوع نفسه الذي يدخل في غيره يغير من أساليبه وتشكيلاته، فنجد القصيدة في القصة القصيرة، ونجد القصة القصيرة في الشعر ونجد الشعر في الرواية، بل أننا إذا مددنا الأمر على خط مستقيم نجد ان الأمر في غالب الأحوال، يشمل الفنون جميعا فنجد القصيدة في الموسيقى، ونجد القصة في العمارة ونجد الرواية في اللوحة، وهكذا. وأعتقد انه لن يمضي وقت طويل حتى يغيب لأول مرة وإلى الأبد، منظر الشاعر الذي يقف بين أيدي جمهوره على منصة معزولة عن هذا الجمهور ليلقي قصيدة، ولا دور لهذا الجمهور في تلك الحالة سوى التصفيق. وسنجد قصيدة الشاعر مصحوبة بموسيقى وغناء وديكور ورقص، لن يسمى هذا العمل قصيدة، بل يسميه أساتذة النقد في العالم اليوم "نص"، فكلمة نص الآن في الوقت الراهن تعني عملا تتآزر في انجازه جملة الفنون. وفي هذا الأفق الجديد لن تجد فنا يتقدم وآخر يتوارى أو ينقرض، بل يشي ان الإبداعية البشرية تتبدى في تجليات من النصوص تعكس تآزر الفنون. والسؤال الآن هل ورات السينما منذ أكثر من قرن الرواية والقصة القصيرة؟ العكس تماما تطورت القصة والرواية تطورا ملحوظا لا أحد يستطيع إنكاره، فالتقنيات الحديثة والمعاصرة تدفع آفاق ازدهار الأنواع والفنون بشكل غير مسبوق، يزدهر التلفزيون والسينما وحضارة الصورة، وفي نفس الوقت تزدهر كل الفنون والأخرى.
* قبل فترة دعا د.عبدالعزيز حمودة إلى صياغة نظرية عربية، بعيدا عما سماه متاهة النقد الحديثة، وتنظيرات ما بعد الحداثة. كيف تنظر لمثل هذه الدعوات؟
ـ يجب أن نلفت النظر الى أمر ذي أهمية في الحضارة الانسانية، فقد كانت المجتمعات القديمة والوسيطة مغلقة على ذاتها أو شبه مغلقة، كما في الحضارات القديمة، الفرعونية، والفارسية، والهندية، والصينية، واليونانية اللاتينية. وفي العصور الوسيطة نجد أن الأمر تجاوز ذلك الى حضارة عالمية ذات خصائص ومنجزات باقية وهي الحضارة العربية الإسلامية التي صبت الحضارات القديمة في مجراها. أما اليوم فلا يمكن القول بأن هذه حضارة هندية أو مصرية أو عربية. إننا اليوم إزاء ما يسمى تاريخيا الحضارة العالمية حضارة التصنيع، وما بعد التصنيع والعقلانية، هذه الحضارة لا يمكن أن تنتسب الى مجتمع من المجتمعات، وإنما تنتسب المجتمعات إليها. والفيصل في بقاء الهويات القومية والوطنية هو مشاركة كل مجتمع في تأسيس هذه الحضارة وتطويرها، فالهنود دورهم محفوظ بعد مشاركتهم المتميزة في هذه الحضارة الواحدة، كذلك العرب والصينيون والأميركيون والأفارقة والأوروبيون. وانطلاقاً من ذلك،لا يجوز اليوم ان يقال ان هذه نظرية هندية، أو أميركية، أو عربية، أننا نقول هذه مشاركة هندية أو أميركية أو عربية في تأسيس علم للفن وأدوات وإجراءات ومناهج لنقد الإبداعات الإنسانية.
* لكن إذا صح ذلك، الى أية هوية إذن تنتسب النظريات والفلسفات؟
ـ الأفكار والنظريات والفلسفات لا تنتسب الى مجتمع اليوم، إنما ما ينسب الى هذا المجتمع أو ذاك هو وعيه بموروثه الجمالي، والتأسيس على هذه الموروثات بمشاركات مميزة تضيف الى العلم الإنساني الذي ينتقل من فلسفة الفن التأملية الى علم الفن المنضبط. هنا نقول إننا، نحن عرب اليوم، لدينا موروث هائل من الفن خاصة الشعر والسير والملاحم. وعلينا درس هذا الموروث وعلى استخلاص جماليات العربية، هنا تكون مشاركتنا في تأسيس الدرس الأدبي والفن في عالم اليوم، ندرس خصائص العربية وجمالياتها مقدمين إضافات إلى جهود الأمم الأخرى.
* في هذا السياق برأيك كيف يمكن تفعيل دور المثقف في المجتمع والشأن العام، خاصة في ظل سلبية وانسحاب المثقف؟
ـ الثقافة هي مواقف نقدية من الحياة ودور المثقف هو دور نقدي للحياة في مجتمعه وعصره. لكن مجتمعاتنا العربية التي تخرج في هذه اللحظة التاريخية من العلاقات الكلاسيكية شبه الإقطاعية الى العلاقات الحديثة المعاصرة، العقلانية والديمقراطية، لا تحتمل الدور النقدي للمثقف فتحاصره وتصادر عمله ولا تقر له بحرية التفكير وإبداء الرأي.
تفعيل المثقف يتأتي بأن ينهض المثقفون للنضال من أجل تحرير العقل وحماية حرية النقد. ولا يكون ذلك محصوراً على أحاد وأفراد من المثقفين العرب، بل في جماعات وجمعيات ونقابات واتحادات ترفع دور المثقف، ليتحقق ناقدا طبيعيا في مجتمعه وعصره. هذه الأوعية الديمقراطية تحمي الحرية وتحمي المثقف وتضمن حقه في التعبير والتفكير.
* هل تتفق مع الرأي القائل بأن كثيرا من الكتابات النقدية فقدت قيمتها كفعل ايجابي فاعل بسبب نخبويتها وعدم اكتراثها بالقارئ.
ـ نعم، فقد النقد فاعليته لأن النقد ضرب من الفكر، وأول شيء تفعله أنظمتنا الراهنة هو الذعر من الفكر ولذلك تلجأ الى الطرق البوليسية والى اغراء المثقفين وتخويفهم، أي أنها تلجأ الى سياسة "ذهب المعز وسيفه". النقد فكر بل انه في الدرجة الأعلى من الفكر، لأنه يفكك ويفسر ويوجه، وهذا كله في واقعنا الراهن مؤثم ومحرم. ولما كانت كل أجهزة الثقافة والإعلام مملوكة للأنظمة الحاكمة فإن الناقد يبدو معزولا عن الجماهير. ومع ذلك فإننا نفرق بين ضربين عن النقد: الأول النقد الأكاديمي الذي ينتجه متخصصون لمتخصصين، وهذا النقد بطبيعة الحال بعيد عن الجمهور العريض من القراء والمتعلمين. والضرب الآخر هو نقد أقرب ما يكون الى التعريف الخارجي بالأعمال الإبداعية والفكرية، وهذا يوجد في المجلات والصحف السيارة وقنوات البث المسموعة والمرئية، هذا الضرب الثاني لا يعتد به العلماء وأهل الاختصاص، وهو جماهيري ولكن الكثير منه ضار بالذائقة والعقل، لأنه لا ينهض على تخصص ودراسة.
* علاقتك مع التراث علاقة طويلة ومتنوعة.. أي الكتب التراثية أثرت في تكوينك ووعيك النقدي؟
ـ قبل ذلك، كانت قراءتي للقرآن الكريم شيئاً أساسيا في مسيرتي، إذ أخذت من القرآن علم العربية في أصوله، أو العلم القديم من ينابيعه. ثم بعد ذلك أعمال ابن جني، بخاصة عمله الخالد "سر صناعة الإعراب"، والذي افتتحه بحوالي ثلاثين صفحة كان يوازن فيها بين كل حرف من ألف باء وبين آلة موسيقية، وبهذا فإن ابن جني وضع أساسا مكينا للدرس الأدبي المنضبط والمقارن، وكذلك كتابه العظيم "الخصائص" في فلسفة اللغة ودقائق تشكيلاتها النحوية والبلاغية، ويأتي بعد ذلك إمام العربية الأكبر الشيخ عبدالقادر الجرجاني في كتابيه الخالدين "دلائل الإعجاز" و"أسرار البلاغة". لقد كان الإمام الجرجاني فيلسوف اللغة حقا، خبر أسرارها وتراكيبها الجمالية والبلاغية والنحوية بمحبة واقتدار نادرين.
الشرق الأوسط
19 أكتوبر 2004
إقرأ أيضاً: