استباحت فعل الكتابة والاقتراب من الوهج كما تفعل فراشة مهيأة للاحتراق والتلذذ بهذا الفعل. آمنة الربيع تُعد واحدة من أهم التجارب المسرحية الجادة والطليعية في السلطنة، تجربة فريدة تتسم بالعمق النوعي، والجرأة في تناول القضايا لثيمات البيئة الخليجية، ورفض بعض الواقع المعاش بأسلوب لا يخلو من النقد الاجتماعي.
لغة آمنة الربيع أشبه بدراما شعرية، وحواراتها مكثفة عميقة، وبعيدة عن الترهل والثرثرة، حتى أنك تذهل أمام التراكمات المعرفية لهذه الكاتبة، وكيفية استغلالها في خلق أسلوب ولغة متميزة وفريدة.
أصدرت عن دار الرؤيا للنشر مسرحيتها (الطعنة-1996م) ثم (الحبل-1997م) ثم عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر مسرحيتي: (الذين على يمين الملك، ومنتهى الحب..منتهى القسوة-2000م) والتي حصلت على خمس جوائز أثناء عرضها في مهرجان المسرح العماني، وحصلت مسرحية الجسر عن جائزة المسرح في الجزائر، كما صدر لها مؤخرا (البنية السردية للقصة القصيرة في عمان-2005م) آمنة الربيع التي جعلت يقيني ثابتا أمام الفعل الثقافي الراهن ووحدها الأنثى التي آمنت بها وذهبت إلى حديقتها لحظة القيامة، وفي مقارباتها النقدية التي كنا نطالعها أسبوعيا في شرفات، من منَّا لم يتساءل: ما الذي تريد آمنة الربيع أن تهيئ له في الفضاء النقدي الأدبي والمسرحي؟؟؟
* فعلا ما الذي تريدين أن تصلين إليه من خلال هذه المقاربات التي تلم بنظريات نقدية قديمة وحديثة وبأسلوب لا يخلو من التمهيد (لمقاربة) نظرية خاصة بك؟
- الوصول إلى نظرية خاصة بي أمر يحتاج إلى وقت أطول يتجاوز المقاربات النقدية التي نُشرت في شرفات، لكن ولا شك أنني كنت أقوم بعملية التمهيد التي أشرتِ إليها. في واقع الأمر، إذا تتبعنا رحلة النص الإبداعي عبر التاريخ، نجده قد وقف في البدايات على المؤلف، وتساءل النقاد من هو المؤلف الذي يقع وراء النص، كما استقرت النظريات حول السياق ونظرية هيبوليت تين تشير إلى ذلك، فالمهم برأيها هو المجتمع والعالم الذي بداخل النص، مع تأجيل النظر إلى المؤلف. ولكن النقد الجديد حين جاء، أراد التركيز على القارئ، ومن هنا بدأت رؤيتي. حين أقرأ بعض الأعمال الإبداعية أو أتأمل شكل لوحة تشكيلية ما، أو أستمع لموسيقى، غالبا ما أسأل عن شكل القارئ الذي نوجه إليه النص الأدبي أو العمل الإبداعي؟ وهذا بالضرورة يقتضي أن نبحث عن تاريخه وظروفه التي ساهم هو في تشكيلها وإنتاجها؟ وهذا الأمر يُعنيني بالدرجة الأولى، فأنا لا أركز كثيرا على المؤلف بقدر تركيزي على اللحظة الحرجة والمنعطف الذي ساهم في توليد العمل الأدبي، لأنني عل اعتقاد بأن مناطق التوتر هي الأكثر مجلبة للبحث وربما أيضا للسعادة! وما كنت أسعى إليه من تلك المقاربات أو التأكيد عليه هو أن الأثر الأدبي الحي لا يموت، قد يموت المؤلف، ولكن الأثر يبقى خالدا، وهذا الأثر لا يُبقي عليه إلا القارئ، الذي من وظائفه البنيوية تعبئة الفراغات التي قد تكون متوفرة في النصوص، ويبقى السؤال حاضرا: هل القارئ الذي تتجه إليه النصوص هو قارئ حرّ وغير مقيد باشتراطات خارجية، هذا القارئ في بحثي غير موجود، وهو إن وجد فيُعد قارئا متعاليا، لا شكل له ولا اسم ولا هوية، وهذا مُحال، فمهما بلغ طموح النص إلا أنه ينطلق من مكان وزمان، ويتجه إلى قارئ كوني.
* يقول سماء عيسى: (مسرحنا الذي ما زلنا نتقاذفه ككرة مثقوبة بدأ يتساقط في الهشيم، وما ثمة شيء يوقف هذا الفتور سوى الإنصات إلى صوت البدايات..) لو طبقنا هذا الكلام على مسرحنا العماني، ما هي البدايات التي تستحق أن نستوحيها وننصت لها، وهل تعتقدين أن مسرحنا بعد كل هذه السنوات منذ ما قبل السبعينات إلى الآن قد بلغ رشده وما الذي ينقصه في رأيك؟
- بدايات المسرح في السلطنة معروفة، لكن البداية الفعلية إنما بدأت مع مسرح الشباب، ثم الفرق الأهلية ومسرح الجامعة. وكل تجربة من هذه التجارب، تنظر إلى نفسها بمنظار أنها تُقدم مسرحا وثقافة، وأنها بما تقدمه من تجارب تتقدم وتتطور وتنمو وتسجل علامات مضيئة في الساحة، وهذا منظورها يجعلها ترى نفسها فوق النقد!
أتفق مع الشاعر سماء عيسى في جزء بسيط من سؤاله، أما حكاية الإنصات إلى صوت البدايات فهذا كلام يقوله شاعر، بينما واقع الأمر أننا ينبغي أن نجيب أولا عن هذا السؤال الوجودي والمصيري: هل نحن كمجتمع عماني حديث الولادة في حاجة فعلية وجوهرية إلى المسرح في حياتنا؟ إذا نظرنا إلى واقع الفعل الثقافي نجد أنه واقع لا يمنحني أنا شخصيا تفاؤل كبير، هل لك أن تتصوري أن فرقة مسرحية تشتغل على النص لمدة شهر في بروفات ومعالجة للمنصة وكافة الأدوات المتعلقة بالتمثيل والإخراج، ويوم العرض، تقدم عرضها ليومين أو ثلاثة؟! فهل هذا معقول؟ حتى الآن ليس لدينا تقاليد فنية في تعاطي الفرجة المسرحية، وتلك الأزمة المفتعلة عن غياب النص المسرحي لا تزال تلاقي قبولا وعرضا، وهذا هراء واضح. أزمتنا الحقيقية هي أزمة ثقافة وغياب الوعي الحقيقي بأهمية الحراك الاجتماعي الصحيح، والشيء الذي لن ندركه في لحظته ونستفيد منه، فلن ندركه إلاّ بأجيال.
* في مسرحياتك الأولى ركزت على فردية العنوان (الحلم-الطعنة-الحبل) بينما تغير اتجاهك إلى العنوان الطويل (الذين على يمين الملك) و(منتهى الحب00منتهى القسوة) ما الذي تغير في أسلوب آمنة؟ كيف يتحول الكاتب من التكثيف (في العنوان) إلى ما هو تكثيف في المعنى؟
- المعنى حاضر حتى في العناوين الفردية، وأعترف لك، بأن العناوين الأولى كانت مباشرة لدرجة تثويرية. في العناوين الطويلة اشتغلت على المعنى والدلالة والتأويل، كأنني انتقلت من ساحة المعركة، إلى ساحة أخرى، وهذا شأن ينبع من القراءة المكثفة لمجريات الواقع بكل تحولاته، فنحن على سبيل التشبيه نحيا في منعطف تاريخي بليد، وهذا واضح تماما، فشكل الكتابة المباشرة هي ردة فعل ثقافية لهذا المنعطف غير الأخلاقي، أما الكتابة الأخرى، فلعلّها تستشرف أو تنبئ بمآل ما، وعلى الأديب الذي لديه مشروع يؤرقه آناء الليل والنهار، أن يفهم بذلك ويعيه، وإلا تمرغ في الوحل.0 أشتغل على نصين مسرحيين، الأول قد كتبته في 1999م وأهملته لظروف إخراجية، والآن أعود إليه لأجدد في بعض الحوارات والأطروحات والمشاهد، وهو نص عنوانه ثلاث كلمات مأخوذة من القرآن الكريم، وهي ذات خطاب دلالي مهم، أما النص الثاني فيتكون من كلمة واحدة، وكلا النصين ينشدان المعنى، لأنهما يغوصان في مناطق التوتر والحساسية والشد والجذب، وهذه هي مهمة الفن عموما وواقع الكتابة التي أطمح إلى تحقيقها.
* (الموضوع) هو بطل في بعض مسرحياتك، هل هذا يلغي دور الشخصية في النص المسرحي، أم أن الشخصيات المسرحية هي التي تصنع بطلها؟
- طبعا العملية تبادلية. القارئ أو المتفرج يعقد اتفاقا ضمنيا مع النص أو العرض، لا يوجد قارئ متعال، يوجد مثقف جيد أو قارئ جيد أو عادي، ولكن يوجد ناقد متخصص. ما الموضوع وما الشخصية! هذه تصنيفات إجرائية لا مكان لها عندي. أتعامل مع النص ككتلة واحدة، قد تجدين مواضعَ يكون فيها السرد أكثر وفرة من الفعل، أو العكس، ولكن يصعب فصلهما0 والتعامل مع النص المسرحي كنص للقراءة، يختلف كلية وتمامية حين يتحول إلى عرض حي.
* يقول سعدالله ونوس (إننا محكومون بالأمل) هل تعتقدين بهذه المقولة، أم أننا (نحن مخدوعون بالأمل) كما تقولين في لحظة كتابة ذات مرة؟
- نعم نحن مخدوعون بالأمل وبالحب. ولكن علينا أن نناضل إنسانيا وإبداعيا؛ بمعنى، يجب أن لا نتوقف عن الحب والبحث، فحياتنا قصيرة جدا، فإما أن نكون، أو أن نكون. شخصيا لا أفكر في الرجوع للوراء، ولا أجيد التفكير بطريقة الناس السلبيين. أنا لا أجد نفسي إلا العمل.
* في كتابك (الحبل) والذي يتضمن مسرحيتين (الجسر) و(البئر) ما الرابط بين العنوان والمسرحيتين. ما هي المضامين الرمزية لهذا الاستخدام؟
- هناك حادثة طريفة لهذا العنوان. الربط أثناء الكتابة لم يكن حاضرا أبدا، فلم أخطط لأن يخرج الكتاب بذلك العنوان الذي أستوقف الكثيرين. كنت أتحدث عن النصين معا مع إحداهن، وكان النص لا زال في المطبعة، وبعد النقاش سألتني عن الاسم المقترح للكتاب، فأخبرتها أنني أجد مشكلة كبيرة بعض الأحيان في اختيار العناوين. في اليوم التالي أجدني أتصل بالرؤيا وأخبرتهم عن رغبتي في ربط البئر بجسر، أو العكس، وهكذا تم كل شيى.. لكن سؤالك عن المضامين الرمزية له دلالته، فالذين قرأوا الكتاب يشعرون بأن المسألة لا تخلو من رمزية، والقارئ هو الذي أنتج هذه القراءة، لأنه ابن مكان وزمان ولغة وثقافة تسكنه.
* هل هناك علاقة بين إهدائك في مسرحية الجسر للروائي عبد الرحمن منيف وبين روايته (حين تركنا الجسر)؟
- العلاقة بسيطة جد.. حين قرأت النص ناقشت أستاذي إبراهيم السعافين في المحاضرة، وقلت له أن حين تركنا الجسر مناخها عمل مسرحي، وفي المسودة الأولى للمسرحية حين نشرتها كانت هناك على لسان الشخصيات حوارات وأفكار وأجواء مناخية مستوحاة من الرواية، لذلك للأمانة الأدبية، وجهت الإهداء لعبد الرحمن منيف رحمه الله. وبالمناسبة؛ هذا النص من النصوص الأثيرة جدا إلى قلبي، وأتذكر أن بعضا من القراء والنقاد والمخرجين قد ركزوا علي هذا الربط، من بين النصوص الأخرى التي صدرت مؤخرا، وأرجح سبب ذلك، أن ثيمة العمل مسرحيا قد طرحت أسئلتها ومشكلاتها ومواقفها في حركة تعبيرها عن الواقع العربي.
* في المسرحية الثانية (البئر) قال أحد النقاد: (إن مثل هذا العمل في حاجة أن يظهر فوق خشبة المسرح العماني، وأن يُهيأ له مخرج قدير يستطيع أن يبرز قيمته الجمالية ويضيف إليه أبعادا فنية جديدة) ما هو مشروعك تجاه هذه المسرحية التي وظفتِ فيها التراث الشعبي والرقصات الشعبية، خاصة وأنها تمثل لك حال خاصة من خلال الإهداء؟
- بداية أنا أختلف معك حول مسألة توظيف التراث؟ فماذا نقصد بتوظيف التراث؟ هل عندما يقوم الكاتب بإدخال الرقص الشعبي والفلكلور في النص؛ معنى ذلك أنه وظف التراث! أعتقد أن المسألة أعقد من ذلك بكثير. هذه مسألة تتوقف على شعورنا بالزمن الذي يحتضننا، كما وينشغل بمجموع ومخزون الذاكرة الجمعية التي نتحرك بها، فاللحظة الآنية ستنقضي وتمضي، فهل تدخل بذلك المعنى في الماضي أو في التراث0 في هذه المسرحية بالذات كنت أسعى إلى تأكيد المنطوق في يومنا وحاضرنا، فنساء المسرحية يرددن أغان تفيض بالحياة والقهر والخوف والموت، وهذه أبعاد ليست من التراث أو الماضي، بل هي لحظات آنية موحشة في العمق0 وما يجعلني أختلف مع بعض المسرحيين في السلطنة، أنهم يجعلون من التراث زخرفة وديكور مُكمل أو لوحة حاملة للعرض المسرحي، وبرأي أن تجاوز هذا الأمر، بحاجة لفهم معنى كل حركة وكل رقصة بالوقوف على تاريخيها0 مثلا: لدينا في محافظة ظفار فن شعبي من أجمل الفنون هو رقصة الربوبة، وهذا الفن يجسد صراعا دراميا بين منطقين مختلفين؛ منطق الذكورة ومنطق الأنوثة، ومقدار التجاذب والتنافر ما بين الخطابين تكشف عنه ضربات الرجال بأقدامهم على الأرض والتواءتهم المتكررة صعودا وهبوطا، بينما حركة النساء تكشف عن الخُيلاء والكبرياء والاعتزاز بالنفس، وإذا أمعنا النظر والتفكير في المقولة المركزية لهذا الفن، سنكتشف بعدا اجتماعيا وثقافيا يتداخل فيه الإبداعين: الواقع الاجتماعي، والفني المتخيل.
أما سؤالك عن مشروعي لهذه المسرحية، فقد سعت فرقة أوبار لإجازتها للعرض منذ سنة لتشارك بها في مهرجان المسرح العماني الأول، ولكنها رفضت، ولا بأس، لعلّها ترى النور مرة. تذكرت حديثا مطولا مع المخرج عوني كرومي في زيارة له منذ سنة للسلطنة، تحدثنا كثيرا حولها، ووعدني خيرا.
* يقول ميشيل فوكو: (السلطة في كل مكان) كيف تتجاوزين دور السلطة بمعناها الشمولي وليس الرقابي فقط؟ كيف تكتبين حريتك في وسط غابة من الرقابات والدوائر المتشابكة من الأعين والسلطات؟
- هذا سؤال كبير، ولكنني سأكتفي بالقول أنني لا أملك شيئا في هذه الحياة إلا حرية عقلي وتفكيري وخياراتي الشخصية، ولن أسمح لأحد أن يُصادرها0
* يقول رولان بارت: (المؤلف يقيم ويسكن في النص).. إلى أي مدى تسكنك مسرحياتك؟
- ليس لدرجة كبيرة. هناك نصوص أحبها كثيرا، ونصوص أخرى حين انظر إليها بوعي الحاضر أُهملها، ولكني لا أرفضها، فهي كانت مرحلة، وقد سكنتني وسكنتها، وطلاق المؤلفة عن نصوصها، طلاق غير جائز ومرفوض جملة وتفصيلا. لا أخفيك بأن بعض النصوص تسكنني فترة من الزمن، كنص الجسر مثلا، والنصوص الأخيرة لا أزال أحاورها، لكنني على قناعة بأن الحل العملي للتجاوز هو الإيمان بوجود قارئ ومخرج يستطيعان قراءة النص ويساعداني على التجاوز.
* يخلط (إسلن) الأنواع الأدبية ويلغي بذلك الضلع الثالث في العملية المسرحية وهو (المتفرج) ويلغي فعل الحضور واحتفاليته وهي أساس المسرح...هذا التفكيك الرهيب للمسرح كمفهوم أدبي، كيف تتعاملين معه-إن كنتِ توافقين عليه أصلا-؟
إلغاء عنصر المتفرج من العملية المسرحية هو كلام عشوائي. بالأساس العمل المسرحي موجه كما ذكرنا لقارئ أو متفرج، وهو أحد العناصر الرئيسة للعملية فكيف يمكن أن نستغني عنه؟ حاليا يوجد ما يسمى بالمسرح التفاعلي، وهذا النوع من المسرح يعتمد بالدرجة الأولى على تفاعل المتفرج والشخصية مع العرض. وحتى تنجح هذه الممارسة التفاعلية ينبغي على المسرح أن يغادر المنصة التقليدية باتجاه الشوارع والحدائق والمزارات السياحية والكنائس والمساجد والقلاع والحصون. وإذا ركزنا نجد أن العمل كله يعتمد على المتفرج الذي له مطلق الحرية في اختيار الوقت والزمن والمكان ليشاهد العرض فيه.
* (ترفض الحداثة كل مشروع ماضوي وتحاول إضفاء الشرعية على رفضها لهذا المعنى وتستهين بالخيارات التي يقدمها الماضي والحاضر معا، بينما تفعل ما بعد الحداثة العكس، هي تحاول إقامة علاقة بينها وبين الماضي) هذا ما يقوله أحد المفكرين من خلال مناقشته لثلاثة عشر مقالا لكتّاب حول هذه المفاهيم-حسب هذا الاستنتاج هل أصبح الماضي بكل ترهلاته هو الخيار البديل للحداثة بمفهومها النظري المحدود في ظل غياب اشتراطات مجتمعية لا تتيح للمشروع الحداثي مجالا للتحقق؟
فهمي للحداثة ينطلق من فهمي للتحديث في المجتمع، سواء العربي والخليجي بعمومه والمجتمع العماني على وجه خاص0 على صعيد السؤال، ليست القضية ماض وحاضر فقط، إنما كيف نفهم اللحظة والشروط التاريخية التي مررنا بها؟ للمفكر غوته عبارة مهمة تقول الذي لا يتعلم دروس الأربعة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة! الحداثة بهذا المعنى ليست اختيارا والماضي كذلك، لأننا في رهان مفتوح بسبب ظروف المرحلة التي تضغط علينا وتشكل وجداننا ورؤيتنا وحساسيتنا للأشياء وللعالم من حولنا. سأهتم بجانب آخر في الحداثة وهو الجانب الخص بالكتابة والسرد والإبداع. أنا مع النص الذي يشاكس ويسأل ويدين ولا يكتفي بالوقوف عند الجوانب الرسمية أو المعلنة لأنها لا تعني كل شيء، وكون الحداثة رهان مفتوح على أسئلة تتعلق بالماضي وبالحاضر وبالمستقبل، فأنا معنية هنا بالدخول في تلك المناطق المعتمة. في مجتمعنا وعبر قراءة نقدية لبعض السرود، لا يوجد ما يسمى بقطيعة مع الماضي، الماضي يحضر بقوة وهذا لا يعني أن حضوره هو اختيار نهائي للمبدع، بل هو محاولة منه لارتياد آفاق بكر للكتابة الإبداعية، وهذا هو التحدي الحقيقي للحداثة، أو هذا هو ما أقصده بالرهان المفتوح.. لقد توفر شيء من التمرد والبحث عن الانعتاق في بعض السرود الحديثة، وهي مغامرة قد نظن أنها جديدة تماما، ولكنها قد تواجدت في عصور ومؤلفات قديمة. الشاعر العماني جمعان بن ديوان النوبي، يؤرخ ويقول شعرا جميلا في بعض نصوصه الشعرية متسائلا ومعترضا على كثير من الأحوال، حتى أنه قال شعرا في مهمة الشاعر لا تخلو من توتر0 حين اقرأ لبعض الذين يكتبون الشعر الآن في الساحة العمانية، فإن شعرهم لا يلامسني ولا يصيبني بتوتر، وهذا المثل أضربه لأشير إلى أن الحداثة في جوهرها هي حساسية وطاقة دافعة لتغيير وللتمرد.
* كل الكتابات السيميولوجية حول المسرح تهتم بالمتفرج بوصفه صانع المعنى (معنى العرض المسرحي) لأن المسرح وإن قام على النص لا يتحقق إلا من خلال العرض.. هل تعتقدين أن العرض المسرحي غاية يسعى إليها الكاتب؟
- طبعا من دون شك؛ فإذا لم يقدم النص على المنصة فعلى المؤلف أن يهدم سقف السماء قبل أن يشنق نفسه! كلنا يعرف أن العرض المسرحي يختلف تماما عن النص الأدبي، النص المسرحي لم يكتب من أجل القراءة وحسب، بل لا بد من فرقة مسرحية مدربة وطموحة ومثقفة وفوق هذا كله، أن تكون فرقة جسورة، تأخذ النص وتعيد إنتاجه على المنصة من جديد.
* في مسرحياتك تعبرين كثيرا عن (جوانية) المواطن العربي المقموع وكشف الحقائق وتعرية الواقع. واستحضر هنا مقولة سعدالله ونوس : (عندما نقدم عرضا ينبغي أن نُشحن لا أن نُفرغ) .. معظم المسرحيات العربية تفرّغ احباطات هذا المواطن البسيط... هل هذا (التفريغ) يفرّغ فعل التحريض المسرحي أم هو فعل هامشي غير مقصود في العمل الفني بشكل عام؟
- كل كتابة إبداعية تنطوي على رؤية تحريضية، أو تستبطن في داخلها هذا الحس التحريضي، ولكن الطرح هنا نسبي، فهناك عروض يندم المتفرج على مشاهدتها، لأنها لم تقدم له طرحا مغايرا، بمعنى لم تستفزه، وللأسف هذه النوعية من الأعمال هي الغالبة.
* في محاضرة لإبراهيم غلوم في النادي الثقافي قال أن ليس هناك تجريب مسرحي عربي بمعنى التجريب المنهجي... وهذا كلام يوافقه الكثيرون00هل هناك قصور في فهم التجريب لدى المسرحي العربي00أم أن العقل العربي يحتاج إلى أفق أوسع من الحريات كي يدخل فضاء التجريب؟ وما هو تفسيرك لهذا التقييم-إن كنتِ توافقين عليه بالطبع-؟
- أولا أرجو أن لا يُفهم من جوابي أنني لست مع التجريب. الإشكال أننا ننظر للتجريب منفصل عن حضارة وقيم وأفكار أنتجته وساعدت على ظهوره0 التجريب موقف ثقافي وفلسفة، وليس بهرجة وزخارف.إذا نظرتِ إلى جوهر الذين تمردوا على هنريك أبسن، ستجدينهم تمردوا في الشكل والمضمون0 التمرد شمل الكتابة والحياة والموسيقى، كما شمل عمل المخرج وأفكار الممثلين، وخير تمثيل على هذا الشكل من التمرد هو مسرح العبث0 أما تجريبنا المسرحي العربي، فلا وجود له إلا ضمن استثناءات قليلة جدا ومتعسفة، والمحاولات الموجودة التي رأيتها، كلها تدل على التمزق والشتات0 لكن هناك جانب آخر يمكن أن ننظر منه للمسألة، طبعا لا يجب أن نحكر على أية تجربة مهما توسل بها الكاتب والمخرج إرضاءً لغرورهما، فالكل عليه أن يطرح تجربته، وأنا لا أقلل من شأن التجارب، وإنما أوجه اللوم لهذه المهرجانات العربية التي لم تستطع حتى الآن أن تعرف ماذا تريد أن تقول! وحين تقولين العقل العربي أشعر كأن هذا العقل عبارة عن مفازة بعيدة، نحن أمة قد ضحكت من جهلها وتعاستها الأمم0 عقلنا العربي ما هو؟ ولماذا كل هذا التركيز على العقل العربي والتراث العربي؟ أنا أعجب من الذين يقولون بنظرية البنية الثابتة للعقل العربي، لا بالتأكيد، لا عقل عربي وآخر غربي وآخر أسيوي أو أفريقي، حتما هناك خصوصيات مهددة، فلنشتغل عليها بالبحث والحفر والنقد0 لننظر للواقع وعلاقة المثقف والمجتمع بالسلطة، وعلاقة السلطة معهم، لنبحث عن المجاميع التي ناضلت وواجهت، ولتنبع هذه المجاميع من بيئتنا العربية وليس من عبثيات اللامعقول0
* حين ينتهي الأديب من كتابته التي تصبح فيما بعد ملكا لتداعيات أفكار وأراء الآخرين ما الذي يهتم ويعنيه فيما بعد00كيف نخلق قارئا ناقدا؟
- هناك تركة كبيرة من المناهج والأدوات والمشكلات النقدية نحملها فوق أكتافنا سواءً شئنا أم أبينا، والقارئ الناقد موجود عموما ولكنه يعيش ضمن مستويات مختلفة من التلقي0 وأرى أن أزمة القارئ الناقد هي جزء من أزمة النقد عموما، لذا يبقى القارئ العادي موجودا، كما يظل القارئ المختص موجودا، والسؤال الذي كان ينبغي أن يُطرح هو السؤال عما إذا كان النقد العربي قد أفرزا صوته وموقفه في حركة الواقع والمجتمع، وبناءً عليه يمكن البحث عن ذلك القارئ الناقد والمبدع في آن0
* ما الفرق بين النقد والقراءة التي تتناول النصوص الأدبية بدلالالتها وجمالياتها؟؟ ولماذا لا يزال الكاتب يشكو غياب النقد؟
- سيظل الكاتب يشتكي غياب النقد حتى لو قيل عن كتابته أنه المبدع الوحيد في العالم، وكاتب مثل هذا لا أهتم به كثيرا، لأنه لا يضيف لي شيئا جديدا0 أما عن تناول النصوص بدلالتها فهذا هو عمق وجوهر الفعالية النقدية، أما القراءة فتظل مجرد قراءة، وأنا عموما أراوح ما بين الأمرين0
* ظهور المدارس النقدية الجديدة (التفكيكية لدريدا، والبنيوية لرولان بارت) أوجد خلطا في المفاهيم النظرية وأحيانا تضاربا وتصادما.. برأيك كيف نصنع نظرية عربية نقدية تستند إلى موروثاتنا الفكرية والثقافة.. ولماذا لم يبتكر الناقد العربي منهجياته الحديثة بعيدا عن سياقات ثقافية منقولة؟
- أختلف معك جزئيا، الناقد العربي حاول أن يبتكر، ولكنه لم ينجح نجاحا شاملا، وهذا فرق كبير بين المحاولة وعدم المحاولة، فكيف نقرأ تجربة طه حسين وشكري عياد وإحسان عباس وإدوارد سعيد مثلا؟ الجميع حاول، ولكن الدرس النقدي الحديث في الجامعات، لم يتطور، أحدث القطيعة النقدية وأخذ يستلهم المدارس الجديدة في النقد0هناك أيضا المشكلات السياسية التي فرضت حصارا كبيرا ولا زال على المفكر والمبدع والناقد0
* إذاً.. كيف تطور آمنة الربيع فضاءها النقدي وكيف تثري أدواتها النقدية؟
- أنا ما زلت أتعلم وأبحث، وفي رأي أن الحياة لا تكتمل إلاّ بعنزة تعزف على الكمنجة! يعني المزيد من القراءة المختصة في النقد، والإطلاع على بعض الإصدارات الحديثة والجيدة في الرواية والمسرح والشعر، وقراءة كتب في التراث من الأمور المهمة والمساندة، إلى جانب سماع الموسيقى الكلاسيكية ومشاهدة السينما إذا توفر الوقت0
* ماذا قدمت آمنة الربيع في كتابها الأخير (البنية السردية للقصة القصيرة) وما هي المعايير النقدية التي استندت إليها في تقييمها للتجربة القصصية في السلطنة؟
- آمل طبعا أن أكون قد قدمت شيئا مفيدا، أما المعايير النقدية التي استندت عليها فقد ركزت على النص القصصي وأوليته الأهمية الكبرى0 لم أتطرق لكل شيء في القصة القصيرة، لكنني أحسب نفسي بأنني قد قدمت شيئا، وأشير إليه بعجالة : في اعتقادي أن القصة القصيرة كجنس أدبي ستشكل حضورا في المستقبل وسيظهر عدد كبير من المهتمين بها، لأن إيقاعها يتقاطع مع إيقاع التحولات والمتغيرات والخطابات. ولكن إذا شكلت القصة هذا الحضور وأخذت كل هذا الاهتمام، فماذا عن الرواية وماذا عن المسرح والسينما والأغنية؟ من النتائج الأخرى التي حصلت عليها هو شكل السارد وشكل القارئ في خطاب القصة القصيرة يكاد أن يكون متشابها، فالراوي غالبا عالم بكل شيء ومعرفته واسعة لكل ما يجري من حوله، وأشكال قرائه تتشابه مع أشكال الشخصيات التي تحدث عنها إلى حد ما، شخصيات للأسف مستلبة ومترددة وخائفة ويسكنها ذعر كبير منطق العقلية الذكورية التي تنظم الحياة والقوانين! هناك شخصيات أخرى متمردة تشير إلى قراء متمردين، لكنهم سلبيون0
* هل هناك قطيعة حقيقية بين المثقف والمؤسسة00وما هو المطلوب كي نستطيع تجسير هذه العلاقة وإيجاد مناخ صحي قابل للتطبيق والفعل الثقافي الحقيقي؟
- القطيعة موجودة، ولكنها غير حقيقية تماما، فكل المثقفين يعملون في مؤسسات الدولة ويتقاضون راتبا نظير أدوارهم الوظيفية، والذين لا يتقاضون شيئا، فهم يعددون الأيام ويمضون في الحياة بشكل أو بآخر، وإذا قرأتِ التاريخ، ستجدين أن المثقف أو صاحب الرأي المختلف هو في محنة مع السلطة بكل أشكالها، لذا لا ينفع العطار ما أفسد الدهر، ولكن ينبغي التمييز ما بين المبدع وغير المبدع، وهذا التمييز غير موجود عندنا في السلطنة، لأننا كما ذكرت منذ قليل، (نُعدد أياما ونقبض راتبا)!
* نقترب من (مسقط عاصمة الثقافة العربية) ما هي الشروط التي يجب توافرها في خلق العواصم الثقافية؟
- أترك إجابة هذا السؤال للمسؤولين، فهم يعرفون ما لا نعرف، ويقدرون ونحن لا نقدر، لأنه ببساطة كمثقفين ليس لدينا قضية ولا مشروع جماعي نلتفت حوله، قد أكون غير متفائلة كثيرا؛ ولكن هذا هو الواقع، وهذا الواقع لم تصنعه المؤسسة فقط، بل ساهم فيها الجميع، ولا أستثني مننّا أحدا.