احترتُ عمّن أتكلّم في مجموعة (بريق الرماد) الشعرية للشاعر المنتحر باكراً وفتياً منير رمزي? أعَنْه في سيرته اليائسة حتى الموت وقصائده السود الطالعة من ذات مكفهرّة وكأنها أغنيات الموتى التي يقول هو فيها (رهيبة أغنيات الموتى...) أم عن كاشف الغطاء عن بريق رماد هذا الشاعر, ومؤلف سيرته بل مبدع حكايته وحكاية أشعاره ادوار الخرّاط من خلال تقديمه له تقديماً لا كأي تقديم? يكاد الخرّاط يدفعنا الى تصوّر آخر يختلف عن اكتشاف شاعر أخرجه بسيرته وقصائده من مهاوي العدم الى الضوء. يدفعنا الى افتراض حكاية إبداعية مؤثّرة, ذات أسلوب وحبكة وسيرة, ومادة شعريّة هي بقلم ادوار الخرّاط. (بريق الرماد) قصائد من أجل حكاية, و(مايسْترو) العمل بكامله هو الخرّاط, والقصائد وصاحبها الشاعر العاشق المنتحر عشقاً وشعراً, منير رمزي, وسيرته, ليست سوى مادة روائية للخرّاط ذاته, ولا يعني ذلك ان ما كتبه الخرّاط في مقدمته الثانية للمجموعة تحت عنوان (شهادة في يوميات), هو محض تخيّل وابتكار, تحت تواريخ بذاتها, وأسماء محدّدة بذاتها ايضاً, بل لعلها وقائع مستلّة من ذاكرة أيام الدراسة في الجامعة في الإسكندرية في قسم اللغة الانكليزية في أربعينات القرن الماضي (تحديداً ما بين 1943 و1945), فإدوار هو ادوار الخرّاط, ورمزي هو محمد منير رمزي كاتب مجموعة قصائد النثر (بريق الرماد) المنتحر على أثر قصة حب فاجعة في 25 ايار (مايو) 1945 وهو في العشرين من عمره, وحسن هو رفيق دراسة بعينه (إنما ضاعت من يد الخراط خيوط حياته في سنوات العمر), وسامي هو سامي علي الكاتب والباحث في مجال الدراسات النفس جسدية وهو رسام مرهف, وقدّال هو (الطبيب محمد عبدالمتعال قدّال) رحمه الله. وبدوي هو محمد مصطفى بدوي, الناقد المعروف والاستاذ المتقاعد في جامعة أكسفورد (كتب مقدمة نقدية أولى لمجموعة بريق الرماد بعنوان (منير رمزي شاعراً)). أما سميّة, قطب دائرة العشّاق الملتفين حولها في الجامعة, ومن أجلها انتحر رمزي بيأسه وعذابه, فقد آثر الخرّاط ان يحجب اسمها الحقيقي, وإن كان غير عصيّ على التحقق, كما يقول (وهي اليوم تعيش في الولايات المتحدة الأميركية لم تتزوج, وقد جاوزت السبعين من عمرها)... نقول إنّ هذا التعريف الموجز بأسماء وأشخاص السيرة الجامعية المبكّرة للخرّاط ومنير رمزي وأصحابهما وربط شهادة الروائي بيوميات بعينها مؤرخة بتواريخ محددة, وبأشعار جمعها الخرّاط لرمزي كاشفاً عنه وعنها الستار بعد نصف قرن من انتحاره... كل ذلك يظهر وكأنه تقنية روائية مؤثرة لروائي مبدع, يمزج الليل بالنهار والنهار بالليل, والسيرة بالحكاية والحكاية بالذاكرة, ويبتكر من الواقع الموثّق أشخاصه هو وسرده وحكايته... فما قام به ادوار الخرّاط, في حقيقته, خاصةً في مقدمته الثانية للمجموعة الشعرية تحت عنوان (شهادة في يوميات) هو عمل روائي بتقنية خاصة, أما الكشف عن شاعر قصيدة نثر مبكّر عاشق يائس متألم ومتأمّل, فمسألة تظهر لي وكأنها جزء من الحكاية... لماذا?
نسأل ونجيب نظراً للقيمة الإبداعية المحدودة بل الضئيلة لنصوص (بريق الرماد), على رغم إحاطتها بمقدمتين نقديتين هما على التوالي للدكتور محمد مصطفى بدوي وادوار الخراط نفسه .
نستطيع ان ننتخب جُملاً شعرية ذات قوّة صورية وايحائية لا تتجاوز عدد أصابع اليدين, من أصل ستة وثلاثين نصاً هي القصائد. لكنّ ما يسلك النصوص بصفة رئيسة, ارتباك العبارة وضعف التجربة الكتابية والميل الى الإنشائية, ما يجعل النصوص أقرب الى بوحٍ فطري ناجم عن تجربة نفسية عاصفة خاضها الشاعر هي تجربة عشق يائس, ومن ثمّ تحطّم ذاتي بالانتحار, بعد تسجيل كتابات ونصوص ناجمة عن هذا العشق القاتل. كل عشق ليس بقاتل ليس عشقاً. فالعشق والموت صنوان, والشعر والعشق والموت لا ينفصل الواحد منها عن الآخر. كان مجنون بني عامر يقول, كما ورد في الأغاني للأصفهاني: (نحن من قومٍ إذا عشقوا ماتوا). لكنّ هذه المسألة التي عاشها منير رمزي بل ماتها, أمر, والشعر الذي كتبه أو القصائد المحققة, أمر آخر. أعني ان القصائد ليست في حجم المسألة. هي, مثلاً على نمط ما يكتب في نصّ بعنوان (الحبّ في معبدي): (لمَ لا تحثّين خُطاكِ إلى معبدي / وتتنفّسين الهوى في جوّ صومعتي? / أتخافين أضواء الشموع? أم قد ملأتِ رئتيك بأنسامٍ من الوادي? / سترمقين لون الحب في معبدي وتحسّين الحبّ ملء فؤادك / حُثّي خُطاك إلى معبدي / وارشفي الحبّ حيث لا نسمات من الوادي / وانظري إليّ بالعيون التي تملأها الأكاذيب المنغّمة / فما زلت أعبدها / ثم اهتفي في صمت صومعتي / يا حبيبي الحب ملء جفوني/ كم هي جميلة تلك الأنغام / أنغام الأكاذيب التي أعبدها / فليس هناك سوى الحب يملأ معبدي / ما عدت أمقت رسول الزمن تدفع أنفاسه ذبالة شمعتي / فتتراقص غير شاعرةٍ باللحظات التعسة التي تحترق في رقصاتها...) ما أعنيه هنا هو أننا جميعنا نعرف, أننا أمام نصّ إنشائي ضعيف, وأنّ مجموعة النصوص المنشورة, لا تبتعد كثيراً عما أسلفنا, وأنّ في إمكاننا معاً الإشارة الى جمل بعينها ذات ألق نفسي أو سطوة صورية, إلا أنها ليست القاعدة في المجموعة, بل الاستثناء, كقوله: (إنّ زهوري قد ماتت / وما زالت تئنّ في قدميك), وقوله: (بعْتُ القمر والأنجمَ نومي), وقوله في ما يشبه النسق اللوترياموني (نسبة للوتريامون) من دون تركيز على هذا النسق بل من طريق المصادفة: (إنه جميل لكل زائف / ذلك البريق الذي أوقدته نار الفجر ولم تطفئه ظلال السماء / وما زالت الأشلاء الممزّقة ترقص بأرديتها الجميلة المنسقة / ترقص في جنون على وقع ضربات الموجة الأولى / ضحكاتها المعتوهة تزداد خفوتاً...)... وقد اختار الخرّاط على كل حال, منها ثمانية مقاطع في مقدمته, منها (حلقت طيور الفجر على بحيرات الدماء) و(إني ألمس في عينيك حلماً جميلاً شائكاً في جماله) وأشواك الفجر والبثور البيض المتناثرة فوق اللجّة... وهي مؤشرات لصور أدنى من السريالية وأعلى قليلاً من الرومانطيقية, إلا ان المتفق عليه هو ان نصوص بريق الرماد أقرب في مجملها الى الرومانسية... وإن كانت عبارتها دون العبارة الرومانسية. خطاب العناصر في الطبيعة, الرياح, البحر, المراكب المسافرة, الشمس, القمر, الغيوم, هو خطاب رومانسي. كذلك الحب والموت. إنها على كل حال, عدّة شعراء رومانسيين كبار في التاريخ, من شيلر وكيتس ونوفاليس الى جبران... وهي عدة منير رمزي ايضاً مع فارق النوعية وهو فارق جوهري. يقول رمزي في نصّ مبكّر له كتبه وهو في السابعة عشرة من عمره (كم أنت جميل أيها الموت), كما هو سوداوي ويكتب ما يشبه النصّ الأسود والانتحاري في (قابر الأحلام): (إني أحسّ بالرعدة تقتلني / وأنا أرمق الدماء المتسابقة من أظافري / وأنا أنبش كالمجنون في الأرض باحثاً عن أحلامي...), لكنّ ما يسميه الخرّاط بالسَرَف الرومانطيقي هو الغالب على نصوصه... نضيف الى ذلك سَرَفاً إنشائياً في العبارة التي تظهر غير مدرّبة وغير مصقولة بثقافة واسعة ووعي لغوي, ذلك ان ثمّة فارقاً كبيراً ونوعياً, على سبيل المثال بين منير رمزي وجبران خليل جبران ولو أنّ المقارنة صعبة لكنها ضرورية لكشف ميزان العبارة والقوّة التأملية للرومانسية - وما زالت النصوص كتبت أو كتبها صاحبها منير رمزي ولو فتياً, فالأمر انتهى الى موضوعه, أعني لا مجال للتذرّع بصغر سنّ الكاتب, لتبرير ضعف العبارة لديه. يقول مثلاً: (أنظر الى الطبيعة من خلال دموعي / فلا أرى سوى صور مادتها الأحلام / صور متعلق مصيرها بمصير تلك الدمعة الحائرة) فلنلاحظ الصيغة معاً ولننتبه لضعف النسيج اللغوي والبُنية التعبيرية... ذلك لا يمنع من ان نختلف في القيمة الإبداعية لهذه النصوص المبكّرة المكتوبة بين العامين 1943 و1945, فنرى فيها تأملات وجدانية حزينة ضعيفة العبارة, ولا صلة لها بقصيدة النثر العربية, في حين ان الخراط يحاول ان يبحث من خلالها عن جذور مبكرة غير مكشوفة لقصيدة النثر... ونحن نبحث عن وجه الخرّاط الحكائي الجميل.
جريدة الحياة
(20/7/2002 )