حاورتها جمانة حداد
"إذا ضربنا اللغة لا بد أن تخون وعيها المزيّف"
قريباً. هذه هي الكلمة التي خطرت لي والتي سكّنتُ بها نفاد صبري المعهود، عندما قرّرتُ محاورة الفائزة النمسوية بجائزة نوبل للآداب هذه السنة الفريده يلينيك. تلك امرأةٌ وكاتبةٌ سأعشق مجادلتها، فكّرت، وكلما قرأتُ لها ازدادت لهفتي اضطراماً. كنتُ في الواقع مدركة ان تحقيق حوار مماثل لن يكون مستحيلا، إذ اتيحت لي في فرانكفورت فرصة التعرّف الى ناشرها دلف شميث، الذي تحتضن داره الالمانية ("برلين فيرلاغ") كتبها. طبعاً، لم تبدُ الأمور شديدة السهولة في البداية، إذ اوضح لي شميت بنبرة قاطعة أن يلينيك شخصية انعزالية، وأنه لن يكون يسيراً اللقاءُ بها، خصوصا بعد النوبل وتهافت الوسائل الاعلامية عليها، مما زاد من ميلها الى "الانكماش". آنذاك اقترحتُ على الناشر طريقة اخرى: "هل تستخدم يلينيك الانترنت؟"، سألته. "طبعا، هي تكاد لا تفارق كومبيوترها. ولها موقع تعلّق من منبره على كل المسائل الراهنة". "إذا لنجر الحوار كتابةً. أسألها، ثم أعقّب على جوابها".
اقترح شميت الفكرة على يلينيك، فوافقت. أرسلتُ إليها في البدء، بواسطته، مجموعة من الأسئلة-المحاور لكي استنبط منها ردودا تمنح الحديث حيويته وعصبه. لكن الكاتبة تأخرت في الرد. أبديتُ لشميت قلقي فأكّد: "عندما تعطي يلينيك كلمتها، لا تتراجع. امنحيها الوقت وسوف تجيبكِ". وهكذا كان. بعد انتظار دام عدة اسابيع، وجدتُ في أحد الصباحات إيميلا مباشرا منها، تعتذر فيه عن التأخير بتواضع مذهل، وتعطيني أجوبتها الأولية. آنذاك بدأ الأخذ والرد بيننا، وحدث الحوار.
عندما نالت يلينك النوبل، لم اكن اعرف أن هذه مكروهة من كثر في بلدها، وأنها تُسمّى بالفاشية اليسارية، وأن عددا كبيرا من المكتبات يرفض بيع كتبها، وأن تظاهرات احتجاج تنظّم كلّما عُرضت لها مسرحية أو صدر لها عمل جديد. لماذا؟ بحثتُ واستعلمتُ وجاء الجواب بديهيا: لأن كتابتها هي الإصبع الذي ينكأ، بعنف لغوي لا مثيل له، كل الجروح: جرح فظاعات اليمين المتطرّف، جرح تدهور القيم الأخلاقية، جرح جبن الرجال، جرح صمت النساء على جبن الرجال، جرح الجنس حين يكون بديلا من الحب، جرح الحب حين لا يكفي، جرح الفحش الماثل في آفات المجتمعات الحديثة، جرح المراهقين الباحثين عن لا شيء، جرح عبثية الحروب، جرح المحسوبية والتحيّز والتمييز العرقي والجنسي والطبقي، واللائحة أطول من أن تستوعبها هذه الصفحة.
ويلينيك، المولودة في 20 تشرين الأول من عام 1946، هي ثمرة تهجين ثقافي وديني، بين أم نمسوية كاثوليكية ذات أصول سلافية رومانية، تنتمي الى عائلة بورجوازية من فيينا، واب هو عالم كيمياء يهودي من عائلة تشيكية فقيرة ولكن مثقفة. علاقتها بأمها المتسلطة والمتملكة كانت مأسوية ومدمّرة، وقد وصفت الكاتبة هذه العلاقة في "عازفة البيانو" الذي حُوِّل فيلما. كانت والدتها مصممة على أن تجعل ابنتها عبقرية من عباقرة الموسيقى، فمارست عليها ضغوطا مرعبة واجبرتها منذ السابعة من العمر على متابعة دروس في البيانو والكمان، وذلك بلا هوادة حتى السادسة عشرة. أخيرا أدركت يلينيك سقف احتمالها ومرت في أزمة نفسية خطيرة ثارت من بعدها على تسلط هذه الأم الساحقة واتجهت نحو اللغة. "اخترتُ الكتابة لأنها الشيء الوحيد الذي لم تحرضني والدتي عليه"، تقول. أما والدها فقد مات مجنونا في أحد المصحات العقلية.
يلينيك امرأة لا تحب الاضواء وتتفادى الظهورات العلنية، لكنها تتمتع بحس الفكاهة، بحسب عدد من المقرّبين إليها، وتحب المزاح على غرار معظم النمساويين، رغم ظروف حياتها الصعبة. ويمكن رصد هذه الفكاهة، وإن بوجه آخر، في السخرية اللاذعة التي تميّز كتابتها الاستفزازية. وهي ملتزمة سياسياً ومكافحة في سبيل حقوق المرأة وضد الطبقية الاجتماعية، وتعشق تحطيم الكليشيهات الاجتماعية وتستخدم ادوات اللغة استخداماً طليعياً يحتل مقدمة رواياتها القائمة غالباً على خلفية سياسية او بسيكولوجية. همّها الأول على مرّ اعمالها كان التصدّي للخطاب الذكوري المهيمن، إذ تقول: "لطالما أثارت اشمئزازي وحنقي النساء اللواتي يتمسكن بالسلطة الذكورية ويعتمدن عليها. هنّ لا يطقن، وسلوكهن يشبه سلوك النعجة التي تلتصق بالذئب. أنا لا اريد ان تؤدي المرأة دور الرجل، ولا أن تكون عدوّته، لكني أريد أن تجد كل امرأة قوتها وسلطتها في داخلها". إلا أن نضال يلينيك ليس نسويا فحسب بل هو سياسي ايضا وخصوصا، وكتابها الأخير، "عالم بامبي" الصادر عام 2003، يمثل هجوما ضاريا على الحرب الأميركية ضد العراق. لكنها رفضت الاجابة عن سؤالي حول هذا الكتاب بالذات.
بدأت يلينيك بكتابة الشعر ثم اتجهت الى الرواية فالنص المسرحي، ولكن لم يزل من الصعب تحديد طبيعة نصوصها، اذ تراوح هذه بين الشعر والقصّة، وتحتوي في شكل شبه دائم على مشاهد مسرحية. بدأت شهرتها مع روايتها "العاشقات" عام 1975، تبعتها "المستبعدون" عام 1980، ثم "عازفة البيانو" عام 1983 وهي رواية "مزعجة" و"فضائحية" عن علاقتها بأمّها. أما روايتها التالية الشهيرة "شبق" الصادرة عام 1989 فلا تقل فضائحية عن السابقة، إذ اتُهمت يلينيك بسببها بالبورنوغرافية الرخيصة. هذا العمل وضعها في مصاف جورج باتاي، وحاولت فيه قلب معادلة السلطة بين الرجل والمرأة واختراع حس انثوي بالفحش. أما "ابناء الموتى" الذي صدر عام 1995، فرواية-استعارة تنبش فيها التاريخ النازي لبلادها التي ترزح تحت ثقل ماضيها المدفون. "أنا لا اريد ان اعاقب أحدا"، تقول عن هذا العمل، "بل أن اكون قادرة على قول ما حصل بحرية". بسبب انتهاكها عددا كبيرا من المحرمات السياسية والجنسية، جُرجر اسم الفريده يلينيك في الوحول، وقد شن اليمين المتطرف عند وصوله الى الحكم في النمسا حملة شعواء ضدها.
طبعت يلينيك آداب اللغة الألمانية ومسرحها في أواخر القرن العشرين أكثر من اي كاتب آخر، إذ نجحت في نحت لغة خاصة بها، تستخدمها كسلاح ضد شوائب المجتمعات الحديثة وعيوبها، وخصوصا ضد سوء استغلال السلطة وكره الاختلاف والتقاليد المستبدة والنزعة الى التدمير الذاتي: لغة متطرفة ومهشّمة وعنيفة هي بمثابة مونتاج السني يعكس عوالمها السوداوية والغريبة. وقد اتجهت خلال الاعوام الاخيرة نحو كتابة المسرحيات حصرا، التي تعرض في اهم المسارح على غرار الـ”بورغ تياتر” في فيينا، وإن بإيقاع غير كثيف. أما ابرز اعمالها المسرحية فنذكر منها "عندما هجرت نورا زوجها" و"كلارا س." و"مرض أو نساء عصريات" و"رغبة وإجازة سير" و"في بلاد السحاب". وتقف يلينيك في فلك الآداب النمساوية في محاذاة كبار من امثال كارل كراوس وتوماس برنارد وبيتر هاندكه، وهي مثلهم اتهمت بالخائنة وتلقت تهديدات خطيرة من جهات مختلفة، كونها تذكّر بحقائق يفضل ابناء بلدها نسيانها.
إليكم الفريده يلينيك، عسانا نتذكر معها، نحن ايضا، بعضا من تاريخ نحاول نسيانه. وهو ليس بالقليل.
***
لنبدأ من الحدث الأحدث: جائزة نوبل التي نلتها هي الأولى للنمسا والعاشرة التي تحوزها امرأة منذ تأسيس الجائزة عام 1901. لكنّـكِ عند تلقيك نبأ ركونها إليكِ قلت إنها بمثابة "عمل عدائي" يُرتكب ضدّك، رغم شعورك بالامتنان ازاء منحك إياها. فهلا شرحتِ لنا "امتعاضكِ" هذا، الذي وصفه البعض بامتعاض المتخمين؟
انا لم أسع يوما الى النوبل، لكني لا أنكر أن هذه الجائزة شرف كبير لي، لا بل هي شرف كبير "عليّ" في الوقت الحاضر، اذ من غير المعقول أن اجد نفسي فجأة في محاذاة عظماء على غرار بيكيت وهمنغواي مثلا. إلا أنها من ناحية أخرى قد اخترقت في شكل مفاجىء عزلة حياتي، ولذلك هي تمثّل، في شكل ما، فعل اجتياح "عدائيا"، ونوعا من التدخّل أو "التطفّل". يكفي أنها رمتني بين أذرع الجماهير رغما عني، وأنا لا استطيع احتمال الاهتمام والانتباه والفضول الذي يرافقها لا محالة. أحيانا جلّ ما ارغب فيه كإنسان هو الاختفاء، ولذلك اخشى أن تحوّلني الجائزة ما لم أرغب قط في ان أكونه يوما، أي شخصيةً مشهورة. لستُ مؤهلة فكريا ومعنويا لاستيعاب أمر مماثل، فأنا أعاني منذ أعوام، وبانتظام، رهابا اجتماعيا يجعل من الصعب عليّ أن أطيق الحشود. طبعا أدرك في الوقت نفسه أنني محظوظة جدا بنيلها، خصوصا لأنها ستعطيني قدرا هائلا من الحرية، رغم قيودها: حرية أن اكتب ما اشاء أو أن آخذ وقتي ولا أكتب شيئا على الإطلاق طوال سنة كاملة مثلا، وذلك الترف هو بمثابة نعيم حقيقي لأي كاتب.
هذه في أي حال ليست التكريم الأول الذي يستهدفكِ، فقد نلتِ جوائز أدبية كثيرة في حياتك، رغم أن المرء لا يملك إلا أن يشعر بالحيرة إزاء الفجوة بين هذا التكريس العام، وبين واقع الصحافة الأدبية التي غالبا ما تحارب أعمالكِ نقديا...
فعلا، أنا أدرك اللاتناسق الفادح، وأكاد اقول المضحك، بين الاعتراف العلني والعالمي بي، والمتجسّد في الجوائز وغيرها من أشكال التكريم، وبين الاستقبال الذي تخّصني به الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات، والذي يقوم في معظمه على منطق تدمير شخصي وكتاباتي، على نحو طافح بالازدراء والاحتقار. ليس عندي أي تفسير لهذه الظاهرة. قد يكون السبب مرتبطا بلجان التحكيم التي تمنح الجوائز، والتي غالبا ما يكون اعضاؤها من رجال العلم لا الأدب. كم كنتُ لأحبّذ أن يأخذني الصحافيون على محمل الجد وألا يجعلوني أبدو سخيفة باستمرار بسبب مواقفي السياسية. طبعا انا لا اعني بذلك أني أريدهم أن يمدحوني، لكني احبّ أن أؤخذ في الاعتبار في شكل رصين. ولدي في الحقيقة فضول لأعرف هل سوف يحصل ذلك من الآن فصاعداً بسبب النوبل.
أخترع نفسي للإعلام
لا بدّ أنك تشعرين ايضا من جهة ثانية بمسؤولية هائلة تثقل كاهلك في "عهدك الجديد" هذا. هل يزعجك ذلك؟
حسنا، يجب أن أعتاد أن تنتقل كل كلمة الفظها علنا الى صفحات الجرائد في اليوم التالي. لم أستوعب الأمر بعد. ينبغي لي أن أزن كل جملة، بل كل كلمة بعناية ودقة. وهذا لأمر مربك الى حد ما، لأني لطالما كنتُ من النوع الذي يخاف الآخرين أكثر مما يخيفهم. وكما ذكرتُ للتو، جل ما أصبو إليه أحيانا هو ان اعيش بعيداً عن العالم، أن أُترك وشأني. فالسعادة الكاملة بالنسبة لي تكمن في احظات العزلة والهدوء. لذلك عندما وصلني خبر نيلي الجائزة، كان رد فعلي الأول أن قلتُ لنفسي: "إنه لأمر عظيم أنكِ نلتها يا الفريده!"، خصوصا أن اللجنة أكدت لي أني حصلت عليها بسبب تقديرها أعمالي لا بسبب كوني امرأة، كما يشيع البعض. لكني فكرت أيضا في اللحظة نفسها: "سوف تأتي هذه الجائزة بتغييرات هائلة الى حياتكِ، وبسببها سوف تصبحين ما تكرهين: شخصية عامة".
لكنك كنتِ شخصية عامة حتى قبل حيازتك إياها، فأنت حاضرة في الصحافة باستمرار...
دعينا من تسميته "حضورا"، فمن الأصح أن نقول إنه سلسلة من الكوارث الصحافية التي ألمّت بي على مرّ الأعوام، وأنا الآن أريد اجتنابها بأي ثمن وبأفضل طريقة ممكنة. كما قلتُ لكِ، أحيانا أتساءل كيف نلتُ جائزة بهذه الأهمية، في حين أن بعض المراجعات النقدية لأعمالي مرعبة في سلبيتها. فضلا عن نعتي باستمرار بالمتعجرفة والمتعالية، لا لسبب سوى لأني أعيش في عزلة. تلك تفسيرات سخيفة وسطحية لسلوكي. ثمة ايضا دافع آخر وراء نفوري من الظهورات العلنية، إذ يخامرني شعور حميم وحسّي للغاية عندما أكتب نصوصي، حدّ أنني إذا قرأتها لنفسي بصوت عال أشعر أنني أتعرى. وأنا لا أريد الوقوع في حلقة الاستعرائية والتلصص المنحرفة والمفرغة.
أفهم ذلك، فأنتِ غالبا ما توصفين بالغامضة والمتحفظة، ويقال إنك غيورة جدا على حميميتكِ. ولكن يجب أن تعترفي أنك ككاتبة لا بد تعتمدين على الاعلام باستمرار، واعني على "النقل الاعلامي" لأعمالكِ.
صحيح، فللإعلام والجمهور حقّ على نصوصي، أي لهم أن يقرأوا تلك النصوص وينتقدوها، ولكن ليس لأحد حق على شخص الكاتبة. الكتابة عمل مستوحد، نجلس خلاله بمفردنا مع أداة الكتابة، ومن حقي أن ارفض تعريض نفسي للجمهور. لو كنتُ اريد أن أكون شخصيةً عامة، لكنتُ اخترت أن اعمل في ميدان السياسة أو التمثيل. أنا لا أرغب في أن اكون نجمة: لكل منا رغبته وأسلوبه وبنيته الخاصة. ولستُ أعني هنا أني أريد أن أفصم نفسي عن المجتمع، بل أنا أود أن أراقبه من الخارج. ذلك هو الموقع الصحيح، لا بل الموقع الصحيح الأوحد بالنسبة لي. إذا كنا في وسط المجتمع، منغمسين فيه حتى آذاننا، لن نتمكن من مراقبته ولا من وصفه وتقويمه كما يجب. في ما يتعلق بي، افضّل الامّحاء والابتعاد لكي ارى كل شيء من مسافة مطمئنة ودقيقة. لا أحد يعرف ما انا عليه حقا، إنني أخبىء ذلك في شكل ممتاز. أخلط التخييل والواقع، الرواية والتأريخ، السيرة الفنية والسيرة الشخصية حتى تمحي الحدود بين الحقيقة والتزوير، وبين الصح والخطأ. تذهلني فعلا براءتي الأولى في التعامل مع هذه المسألة، إذ كنت قبلا اقع في الفخاخ الاعلامية باستمرار. لكني أدركت أخيرا مرحلة بتُّ "أخترع" نفسي فيها للاعلام، وإن لم أنجح بعد في جعل الآخرين أبطال اختفائي الخاص.
لربما عملية "تنظيم" الاختفاء هذه أسهل على الرجل منها على المرأة؟
لا مفرّ من ان نفترض ذلك. مما لا شك فيه أن دفق التلصص المنصب على النساء أغزر بكثير من ذلك المنصب على الرجال، وفعل "الرؤية" حق مطلق للرجل بكل ما يتضمنه من اعتداء سادي. أنا اجد اصلا أن ما يطالب به الجمهور المرأة مختلف عما يطالب به الرجل. المرأة هي "المنظور إليها"، وهي تحتاج، إذا كانت تريد أن تنسحب من المشهد، أن تجرد عنها صفتها الجنسية وأن تكتسب حضورا "قوس قزحيا" سهل التبخّر. وهذا فعلا ما تقوم به المرأة عموما عندما تدخل مجال الانتاج الأدبي أو الفني، لكي يُنظر إليها نظرة جدية، فيما على العكس من ذلك يزيد الرجال من حضورهم وتوترهم الجنسي في نتاجهم الإبداعي.
الكتابة انفعال شهواني
أعتقد أن هذا ليس دقيقا مئة في المئة، فالنساء أيضا يصبحن فعليا مشحونات بالطاقة الايروتيكية عندما يخلقن، وأنتِ نفسك قلتِ- وأجد ذلك التعبير رائعا لأني أشتغل بالطريقة نفسها- إن الكتابة عندك استجابة لنوع من الغريزة الفيزيكية المهيمنة. فماذا عن ذلك؟
يمكن القول إني "مذنبة" بالتفاعل مع غرائز وانجذابات لاواعية وفطرية على هذا المستوى، فالنبض المحرّض على الكتابة عندي شبيه بذلك المحرّض على الفعل الجنسي، وهو تاليا خاضع لـ "الليبيدو" أو الطاقة الشبقية، وعندما أكتب أجد نفسي في حالات تحرّق ورغبة يمكن تشبيهها الى أقصى الحدود بلحظات التوتر واللذة التي تسبق النشوة أو هزّة الجماع. الكتابة تتطلب انفعالا شهوانيا، وهي متنفس للدماغ، الذي "يقذف" كي لا ينفجر، تماما كما يحصل لحظة الذروة الحسية. ولكن عموما الرجل هو الذي يبثّ هذا الدفع الايروتيكي في انتاجيته الابداعية، والمرأة هي "موضوع" هذا البث ومتلقيته، لا العكس.
ماذا عن كتابكِ "شبق" إذا، وأنت كنتِ تنوين بكتابته أن تخترعي بورنوغرافيا أنثوية بغية قلب معادلة الشهوة النمطية والتصدي لمازوشية المرأة الجنسية الناجمة عن الهيمنة الذكورية؟
تلك كانت نيتي فعلاً. أنا ملتزمة الى حد بعيد البورنوغرافيا، واعني الأدبية منها لا التجارية. ومن المؤسف أن تكون طريقة تلقي "شبق" ذهبت في الاتجاه الخاطىء، اذ عنونت الصحف يومذاك: "بورنوغرافيا فاشلة بقلم امرأة". الشيء نفسه حصل مع "عازفة البيانو". كنتُ أريد أن يتحوّل العنصر المنظور إليه فاعلا ناظرا بدوره، لذلك "شبق" هو بمثابة نقد حاد وعنيف للمجتمع، ونموذج يفضح آليات العبودية الحديثة.
لكنكِ اعترفتِ انك فشلتِ في خلق "حس أنثوي بالفحش".
نعم، أخفقتُ في مسعاي. كنتُ اريد أن اكتب بورنوغرافيا، ثم اكتشفتُ أن تلك مهمة مستحيلة بالنسبة لي. وأعني تحديدا، بالنسبة لي كامرأة. الرجل هو من يصنع البورنوغرافيا، أما المرأة فهي على الأكثر الهدف الصامت للنظرة الذكورية. لا معادل أنثويا لـ "قصّة العين" لجورج باتاي، فهذا الكتاب لا يمكن أن يُكتب سوى بقلم رجل، وإلا فسيكون نفيا لمعطيات تاريخية واجتماعية لا لبس فيها. لقد اكتسبتُ ببساطة رؤية أكثر "يأسا" عن المرأة، وغالبا ما اشعر أن الرجال يحاولون جاهدين إنقاذ أسطورة المرأة كما اخترعوها. انا لن اساهم في ذلك. حتى امرأة باتاي لا أراها امرأة: المرأة لا تملك نفسها لكي "تهرق" هذه النفس أو تبذّرها، لذلك فإن هذه الصورة هي انعكاس محض ذكوري في رأيي. إنها مسألة تركيبة اجتماعية، تركيبة سلطة. لماذا ليس ثمة أسماء نسائية بارزة في الأدب البورنوغرافي الجدير بالذكر؟ "قصة أو" لبولين رياج (أو لـ آن ديكلو وهو اسمها الحقيقي، أو دومينيك أوري وهو اشهر أسمائها المستعارة) تعكس نظرة ذكورية بامتياز في تجسيد شهوانية المرأة. حتى أناييس نين فشلت فشلا ذريعا في ذلك المسعى رغم كل ما يُحكى عن جرأتها، وأنا أعتقد شخصيا أن مذكرات طفولتها هي أجمل ما كتبتْ. الأدب البورنوغرافي اخترعتْه وكتبتْه المخيّلات الذكورية، وهو للمرأة توق مستحيل.
المرأة راغبة لا مرغوبا فيها
أشعر في خطابك بضغينة ما. هل تكرهين الرجل؟
لا، لن أذهب حدّ قول ذلك. لكني سأقول إني أكره السلطة التي يمثلها الرجل. أنا ضحية على غرار كل النساء. قد لا أكون ضحية رجلٍ يضربني أو يغتصبني، لكني ضحية الثقافة البطريركية الأبوية، التي لا تقل عنفا عن الفرد المعتدي، إلا أنها توجه ضرباتها بخبث وسلاسة. سيظل هذا واقعنا طالما أن ميزان القوى في المؤسسة الاجتماعية هو على هذا النحو. أنا معرّضة على غرار الجميع لهذه الثقافة، التي لا تتوقّع انجازات فنية أو ادبية عظيمة من المرأة.
وكيف تسعين الى تحطيم تلك الافتراضات او زعزعة هذه الدوامة التمييزية؟ الهذا السبب تصرين على صورة الكاتبة الفضائحية، وتتطرقين لمسائل تقع في نطاق التابو، حتى في بلاد متطورة كبلادكِ؟
لطالما واجهتُ مشكلات مع قرّاء الشرحات التقليدية من المجتمع بسبب كتاباتي، وغالبا ما اجهل السبب، لأني لا أتجاوز حدودا لم يتجاوزها سواي. لكني أميل الى عزو ذلك الى واقع أن وصف العلاقة بين الرجل والمرأة، حتى في النطاق الجنسي، بحسب النموذج الهيغيلي للعلاقة بين السيّد والخادمة، لا بد ينتهك محرمات من نوع آخر، أكثر خطورة وخبثا. إن طريقتي في وصف الجنس كأنه سلوك يخضع لقواعد السلطة ومعادلاتها، رغم أنه أكثر العلاقات حميمية، تثير على ما يبدو الكثير من الحنق واللافهم. لكني واثقة من أنه طالما لم تصبح المرأة فاعلة لذتها وباعثتها، طالما ليست راغبة بل محض مرغوب فيها من جانب الآخر، طالما ستظل رائجةً ظواهرُ التعرّي والاغراء السطحي وتشييء جسد الأنثى واعتماد هذه الأنثى على جسدها، لن تتغير العلاقات بين الرجال والنساء وستبقى هذه العلاقة مرصودة للفشل الجمالي.
ماذا عن الحب، هل يكون جزءا من هذا الفشل الجمالي الذي تتحدثين عنه؟ الا تعترفين بأن ثمة أزمة حقيقية على هذا المستوى، بما أن "التنديد باضطهاد الرجل للمرأة يتصادم مع رغبة هذه المرأة في هذا الرجل رغم كل شيء"، كما تقول الكاتبة الأميركية كايتي رويف؟
مما لا شك فيه أن ثمة أزمة، لا بل هوة مرعبة من التناقضات. أنا أؤمن في الواقع أنه إذا كان للمرأة اي نصيب في الحب على الاطلاق، فهو يكمن في حبها لأولادها. أؤمن في ذلك رغم أني شخصيا لم انجب. للأسف لا يمكنني أن أطرح احتمالات ايجابية عن الحب في إطار الدونية الذي لم تزل المرأة عالقة فيه. ولا شيء يثبت هذه الدونية أكثر من العدد الهائل من الكتب التي تعلّم المرأة كل شيء عن الرجل: الرجال لا يشترون كتبا مماثلة، فالسيّد لا يحتاج الى تعلّم اي شيء عن ذاته، وتلك مهمّة تؤول الى خدمه. إنه توق الى اختراق الرجل يدل أكثر ما يدل على وظيفة القضيب القمعية.
لكنكِ ذكرت للتو أن الحل يكمن في أن تصبح المرأة راغبة بدل ان تكون محض مرغوب فيها، في حين أن أمثلة كثيرة أظهرت أن نموذج المرأة الراغبة والمبادرة يخيف الرجال...
في ظني أنه ليس خوفا من رغبتها بقدر ما هو خوف من امرأةٍ تطالب بأكثر ما قرّر النظام الأبوي أن يعطيها. الرجل يحتاج الى أن يكون هو الذي يبادر ويهاجم وينقضّ. لا بل هو عاجز عن الازدهار في نظام محايد ومسالم.
النضال النسوي مبرّر
المرأة بدورها ليست ربيبة سلم، وقد أُثبِت ذلك: يكفي التأمل في بعض المجتمعات الأمومية القديمة... يبدو كأننا ندور في حلقة مفرغة من الشكوى: أعطني تصوركِ عن طريقة تصحيح نصاب هذه العلاقة.
تصوري الوحيد قائم على البحث عن "ايجابية الرغبة". لا الرغبة مثلما يتبناها ويستثمرها او على الأصح "يستغلها" النظام الرأسمالي، أعني ليس في بعدها الاستهلاكي والمكاسبي. الماركيز دو ساد اشتغل على ذلك. كانت لديه رؤى اجتماعية. المهم لدى ساد، وراء المشاهد الجنسية الصادمة، هو رسمه لوحة أخلاقية عن مجتمعه. لذلك كان ساد كاتبا أخلاقيا خفيا، على غراري. النسوية ايضا مهمة وأساسية على مستوى تصحيح النصاب.
ولكن كثيرا ما يُردد في ايامنا هذه أن النسوية سوف تصبح قريبا من الماضي. وربما هذا لحسن: ألا تعتقدين أن ثمة وراء هذا السعي الى "المساواة" لهفة الى قمع الآخر لا تقل غدرا وخبثا عن القمع الذكوري؟
الأكيد أنه لا يمكن المرء أن يقول إن كل شيء بات افضل من خلال إصلاحات التيار النسوي. مثلا، بعض أشكال الفصل الناتجة من النسوية تغيظني: لماذا توضع كتبي في محاذاة كتب نساء اخريات ليس لهن علاقة بقضايا النساء، كما لو أنها مجموعة عصافير لجذب الانتباه؟ طريقة التصنيف هذه مهينة وتافهة. لكنّ النسوية تناضل من أجل أن تصبح المرأة فاعلة، والتحوّل فاعلا لا يعني إلغاء الاخر، بل يعني أن تصبح المرأة كيانا كاملا، حرا، مستقلا. إنه لمن المهين للمرأة أن تعتمد على الرجل.
ماذا تقولين إذا عن واقع أن ثمة في أوروبا 57 وزيرة مقابل 515 وزيرا، وأن نسبة 2 في المئة فقط من الاداريين العاليي المستوى هم من النساء، وأن ثمة امرأة واحدة في اكاديمية اللغة الاسبانية وثلاث نساء فقط في الأكاديمية الفرنسية؟ هل يمكن عزو هذا اللاتناسب الصارخ فقط الى القمع الذكوري، في بلاد مشهود لها سعيها الى ترسيخ حقوق المرأة؟
لا أعرف سبل تفسير ذلك، قد يعود السبب الى عدم اهتمام المرأة بالميادين التي ذكرتِ، ولكن للقمع دور أيضا في ذلك بالتأكيد، حتى في اشد البلدان تقدما على مستوى الحقوق. إنه لا توازن تاريخي في ميزان السلطة، وطالما لم يتغير ميزان السلطة هذا على نحو جذري، سيظل ثمة مكان ومبرر للنضال النسوي. فضلا عن أن هذا النضال أثبت حتى الآن أنه أفضل تدخّل من داخل الهرمية التي نشكل جميعا جزءا منها.
أكرر: لا بد ان تكون مشاركتك في عملية التغيير تتخطى مستوى فضح المشكلة فحسب. هل تعتقدين أن كتابتك يمكن ان تساهم في هذا التغيير؟
وا اسفاه، لا أنتظر الكثير من الأدب، وهو بالتأكيد عاجز عن تغيير العالم أو المجتمع في المعنى الذي يقصده ماركس مثلا في المانيفست الشيوعي. أقصى ما يمكنه فعله هو شحذ الوعي وتسنينه. وهو ما أحاول التوصّل اليه بواسطة السخرية والتهكّم. تلك هي وسيلتي واسلوبي لوصف الاختلاف، لسبر الهوة بين الرمزي وبين الواقع الاجتماعي. لكي نفهم السخرية، يجب أن نعيش في الاختلاف، تماما مثلما ينبغي لنا أن نشعر بالقطيعة مع العالم لكي نستطيع ان نرصد هذه القطيعة في لغة كاتب ما. ولكن غالبا ما لا تُفهم سخريتي، خصوصا في ألمانيا، حيث يؤخذ كل ما اقوله بحرفيته، بدل ان يُفهم كهجوم على الكليشيهات الاجتماعية القائمة.
الارتياب من اللغة
هلا شرحت لي مراحل تكوين هذا الهجوم؟
أحاول أن انزع الأقنعة عن هذه الكليشيهات بواسطة اللغة. إذا ضربنا اللغة بالقدر اللازم من العنف، لا بدّ من أن تخون ايديولوجياتها وطبيعتها الكاذبة ووعيها المزيّف. واللغة الألمانية تحديدا تتفاعل الى حد بعيد مع "سوء المعاملة" الألسنية، بينما اللغة الفرنسية اقل مطواعية لأنها تقليدية جدا ومبنية في شكل متين، لذلك يبدو كل تلاعب بكلماتها وتراكيبها مربكا و"غير فرنسي". نقد الكليشيهات ليس متاحا بواسطة كل اللغات، بل ثمة لغات تفرض علينا ايجاد ادوات اخرى. وذلك هو تحديدا سبب صعوبة ترجمة اعمالي الى لغات أخرى. انها حواجز ناجمة في شكل رئيسي عن التقاليد الموروثة في اللغة المنقول اليها. ثمة مثلا في "شبق" جناسات وتلاعبات بالالفاظ و"اختراعات" شديدة التعقيد...
ينبغي أن يكون لدى مترجمك حس ابتكار ألفاظ جديدة.
نعم، فضلا عن انه يجب أن يكون متحمسا للنص في شكل مطلق وإلا فسوف ييأس لا محالة. تحدثتُ للتو عن صعوبة ترجمتي الى الفرنسية لأني أتكلمها واعرف المشقات التي عانتها مترجمتي.
لكن التجريب ليس غريبا على اللغة الفرنسية: يكفي أن نتذكّر الأوليبو وتجاربه المبالغ فيها مثلا.
نعم، ولكن أي تجارب تخاض مع اللغة الفرنسية تُعتبر قطيعة: هكذا يتلقاها النقاد والقراء، حتى اكثرهم انفتاحا. دريدا نفسه تغنى باللغة الفرنسية وبتقاليدها الجميلة ووعد أن يفعل كل ما في وسعه لـ"حمايتها والحفاظ عليها". في حين أن موقف الارتياب من اللغة التقليدية منتشر ومألوف جدا في النمسا، فهي بلاد ذات تاريخ في نقد اللغة، واذكر على هذا المستوى ويتغنستاين وكارل كراوس و"مجموعة فيننا" الشعرية في الخمسينات. واعتقد ان الارتياب النمسوي ازاء اللغة التقليدية ناجم عن تجربة الفاشية التي لطالما استغلت هذه اللغة واغتصبتها.
انت بدورك تكسرينها!
أجل أكسرها. أنا شغوفة باللغة، وغالبا ما تصبح هذه اللغة في كتابتي عامل تصعيد، حتى لتلغي موضوع الكتاب وتحل مكانه. لكني أرغب في الوقت نفسه ان أتعامل مع اللغة عن مسافة، رغم التناقض الكامن في هذا الخطاب. ذلك أمر طبيعي عندي لأني اتعاطى مع اللغة الألمانية، في حين أني نمساوية ونصفي يهودي ونصفي الآخر سلافي. لطالما مثّـل المفكرون الألمان الكبار بالنسبة لي شيئا أعجز عن الوصول اليه ولكنه يجذبني. ولطالما اشتغلتُ على اللغة الألمانية، منذ صغري. مثلما تحب اللغة الألمانية أن تراقب الغريب من فوق، احببتُ أنا ان انحني على الألمانية "كغريبة". وأشعر أني أكثر ما جسّدتُ ذلك هو في مسرحي.
نصوصي مدن مفتوحة
في الحديث عن المسرح، أنت تدافعين عن رؤية للمسرح مرتكزة على الرفض: تنبذين مسرح التعبير والمسرح-الحقيقة وتفصلين الجسد عن الصورة واللغة. ولكن رغم انك كاتبة مسرحية شديدة الأهمية، نادرا ما تُعرض مسرحياتك على الخشبة.
ثمة صعوبة في عرض مسرحياتي. أجد شخصيا ان المسرح افعل بكثير من الرواية. وعلى غرار إعادة نظري الدائمة والدؤوبة في اللغة، اعيد النظر باستمرار في المسرح، وذلك على كل المستويات. لقد فكّرتُ في أحد الأيام اني أريد مسرحا من نوع آخر، إذا كنت لأظل أكتب للمسرح. أردتُ أن امنح المشاهد مساحة حرية، بغية ايقاظ قدرته على الربط ما بين الأشياء. ليس على المشاهد ان يتوقع ان يجد على الخشبة ما يسمعه. وإن اللاتناغم بين الحركة والصورة واللغة تتيح امكان تغيير الأدوار وتغيير المنظار. توزيع الحوار على شخصين في شكل روتيني، حيث الأول يسأل والثاني يجيب، تبدو لي جماليةً قديمة وتقليدية يجب تجاوزها في المسرح، وهذه الأنا المتنقلة بحرية هي ما يفرّق المسرح عن السينما.
بما انك ذكرت السينما، ما رأيك بـ "عازفة البيانو" فيلما؟
أرى أن إخراجه جاء ممتازا. عندي فضول دائم لاكتشاف كيفية تقاطع مخيلة فنان آخر مع مخيلتي. إنه تشابك مغن ومثير للاهتمام. ذلك هو اصلا احد الأسباب التي تدفعني الى كتابة نصوص للمسرح. فمسرحياتي نصوص مفتوحة، لا بل مدن مفتوحة يمكن الآخر غزوها واجتياحها وتحويلها شيئا مختلفا تماما. وهذا الشيء المختلف يهمني دائما، حتى اذا لم يكن ناجحا. ذلك هو أحد معاني الكتابة بالنسبة لي.
ومعانيها الأخرى؟
هل تصدقيني إذا قلتُ لكِ إن فكرة الشروع في الكتابة تنهضني من سريري صباحا؟ أصلا أنا احب أن اعمل في الصباح الباكر، قبل أن افعل أي شيء آخر، مباشرة بعد ان "أمشّط" دماغي. الكتابة بالنسبة لي؟ لعبة تبادل مستمرة بين الأنا والآخر بواسطة اللغة.
هذه الأنا، هل صحيح أنك تستعيدينها من كتاب الى آخر؟
في "عازفة البيانو" أناي واضحة طبعا. وأنا حاضرة أيضا من دون شك في الكتب الأخرى، ولكن في طريقة مرمّزة. لا احد يستطيع أن يعثر عليّ، لكني موجودة فيها كلّها، حتى في "أبناء الموتى".
هذا هو في رأيكِ كتابكِ الأهم: من أين تجيئكِ ذلك اليقين، في حين أن الكاتب نادرا ما يملك الموضوعية الكافية لتأكيد مسألة كهذه؟
بكل بساطة، أرى اني كتبتُ مع "أبناء الموتى" الكتاب الذي لطالما رغبتُ في كتابته. كل ما انا قادرة عليه في الأدب يدرك ذروته في هذا العمل، وقد كان في وسعي أن أكفّ عن الكتابة بعده. لقد كتبتُ "كتاب الكتب" الخاص بي، وذلك شعور مطمئن ومريح.
الا يشلك هذا الاطمئنان من جهة ثانية؟ اين الوقود الذي يمثله تحدي تجاوز الذات؟
هو لا يشلني لأني سأظل مدفوعة الى الكتابة بمحفّز قوي هو اللذة الخاصة التي أجنيها منها. كل شيء كتبته قبل "أبناء الموتى" وبعده كان محض تمرين مقارنة به. لقد قلتُ فيه ما اردت قوله، وخصوصا الخبث النمساوي اللامعقول حيال التاريخ. موتى عائلتي هم الذين دفعوني الى كتابة هذا الكتاب عن النمسا.
لستُ وطنية
انت على علاقة ملتبسة وجدلية بهذه النمسا، اذ تقام تظاهرات ضدك أحيانا، وبعض المكتبات ترفض بيع كتبك، وحزب اليمين المتطرف لم يتردد في تنظيم حملة قدح ضدك يوما بواسطة لافتات اعلانية كبيرة في جميع انحاء البلاد كتب عليها: "هل تحبون يلينيك، أم الفن والثقافة؟". حدثينا عن ذلك.
العلاقة بيني وبين النمسا انكسرت على نحو غير دبلوماسي، إذا صح التعبير. لقد أنهكتُ نفسي في محاربة هذه البلاد ومواقفها الكاذبة اللامحدودة إزاء تاريخها (الذي لم يزل مستمرا حتى اليوم). تعبتُ واستُنزِفتُ وحان الوقت لكي يتابع آخرون هذا النضال. الصحافيون الآن هم الأكثر اهتماما بهذه المسألة. ويا ليتهم شرعوا في الاهتمام في وقت مبكر، إذ لكانوا جنبوا المثقفين مشقة فعل ذلك، خصوصا أن هؤلاء غير موهوبين في هذه القضايا وغالبا ما يضطرون الى دفع ثمن شيء تقع مسؤوليته على أطراف أخرى. نضرب الرسول بغية تفادي التعامل مع الرسالة (مثلما حصل مع توماس برنارد وسواه). لقد اضطررنا نحن المثقفون المنتمون الى الجيل الأول لما بعد الحرب للقيام بمهمة توضيح التاريخ، لأن لا أحد سوانا كان يريد فعل ذلك. لذلك اتُهمنا بأننا ارهابيون معنويون، حتى من جانب أشخاص ينتمون الى صفوفنا ويؤمنون بمعتقداتنا. لقد انهكني هذا النضال شخصيا، ولذلك وضعت حدا لمهمة التوضيح هذه في ما يتعلق بي. طبعا انا اعشق فيينا وبعض الأمكنة الأخرى، لكني لا املك شعورا وطنيا إزاء بلادي. إنه لأمر مؤلم، وربما من ذلك الألم والقلق استمد توتر الكتابة.
كثر يقولون في أي حال إن السعادة والطمأنينة ليست مادة أدبية.
مما لا شك فيه أن ثمة كتّاب يجيدون وصف السعادة واليوتوبيا والحديث عنهما، لكني أتحرك في مكان آخر، وليس لذلك اي علاقة بطرقي. أنا كامرأة، اي كعضو من طبقة ملغاة في المجتمع، لم تدرك حتى الآن صفة الفاعل وغالبا ما تُعامل كشيء، اشعر بهذه التناقضات وبهذه المظالم الاجتماعية في احشائي، حرفيا، لأن المرأة يحددها جسدها في الدرجة الأولى، وذلك ما عليها نقله كتابةً، وهو ما احاول فعله.
بما أنك عدتِ الى موضوع المرأة والجسد، ترددين أنك تخشين التقدم في السن وأنه يجب على كل إنسان أن "يقتل نفسه في الوقت المناسب". كيف تفسرين علاقتك الشائكة هذه مع الزمن؟
لأني امرأة، يجب عليّ في الدرجة الأولى، وفي المقام الأول، أن "أكون جسدا"، بما أن مساحة الرمزي والتخييلي يحتلها الرجال. تاليا أنا اشعر بشيخوخة الجسد على نحو اقوى وأشد وطأة من الرجال. لدى الرجل فرصة التعويض عن تراجع جاذبيته الجسدية بواسطة منجزات ومفاخر فكرية وفنية أو مادية، وذلك مستحيل للمرأة. المرأة مقيدة بجسدها منذ ولادتها وحتى النهاية، وسوف يظل لممثلة جميلة أو لعارضة أزياء في العشرين قيمة أكبر من امرأة حازت نوبل الآداب في الستين من العمر، وذلك مهما زعمنا العكس واعترضنا واستهولنا الواقع. ينطبق ذلك خصوصا على مجتمعات مثل مجتمعاتنا، تعبد الكمال الجسدي حد الهوس، اي الجسد واداءه، وتزدري الفكر، رغم الاستثناءات القليلة. أما في ما يتعلق بقولي أن على كل انسان ان يقتل نفسه في الوقت المناسب، فذلك يعود الى كوني اهتممتُ بأمي المريضة في آخر أيامها، وذلك حتى وفاتها عن 97 عاما، وكانت تعاني نوبات بارانويا مرعبة. وقد التصق بي منذ تلك المرحلة خوفٌ مرعب من التقدم في السن...
جهة الأقوياء ليست جهة الأدب
كانت علاقتك صعبة مع والدتكِ، وقد تطرقت لهذه العلاقة في عازفة البيانو. حدثينا عن عائلتك.
كان والدي عالم كيمياء تشيكيا يهوديا، يعشق المناقشة والتحليل، وأعتقد ان الفضل في كوني كاتبة يعود اليه جزئيا له، فقد أظهر لي باكرا لذة التعاطي مع الكلمة. أما أمي فكاثوليكية ذو اصول رومانية والمانية. عندما ولدتُ كان ابي في الثامنة والأربعين ووالدتي في الثالثة والأربعين، وكنتُ أنا ابنتهم الوحيد: أب اشتراكي وام بورجوازية، عالمان يتصادمان وأنا أنسحق بينهما. أمضيت طفولتي في فيينا وقد درست الموسيقى، البيانو والكمان والأرغن. وفي الجامعة تابعت دراسات في تاريخ الفن وفي المسرح. بدأت بكتابة القصائد التي كانت تُنشر في أبرز مجلة طليعية نمساوية، هي "بروتوكول". علاقتي مع والديّ ملتبسة: كنتُ قريبة حد الاختناق من أمي، في حين أني لم اقم يوما علاقة حقيقية مع والدي. كان ذا شخصية ضعيفة وسريعا ما فقد توازنه العقلي. لقد قضى مجنونا في مصح عقلي عام 1968، وانا نادمة لأني لم أعتن به.
يقول جيل دولوز: "كلما ارتكبنا أخطاء أكثر في الحياة، كلما نزحنا الى إعطاء الدروس". اي دروس قد تعطين في هذه المرحلة من حياتك؟
سوف أعطي دروسا لنفسي فحسب، فأنا لم اتعلم بعد أن أتخطى عيبي الأبرز، وهو قلة الصبر. غالبا ما احكم واتصرف بتسرّع. ثم عندي الكثير من ردود فعل الانسان الاستبدادي المتسلط، وعليّ ان اكافح باستمرار هذه الغرائز فيّ. اكثر ما اكرهه هو العجرفة والغرور. أما خوفي الأكبر فهو الأشخاص المتعصبين. ولذلك اراقب بقلق صعود المتطرفين الاسلاميين مثلا، وهو صعود له اسباب كثيرة لا مجال لشرحها هنا، ولست أصلا متخصصة فيها، رغم اني اقرأ الكثير عن الموضوع. لي الحق في الدفاع عن مُثُل قرن الأنوار وقيم الديموقراطية والمساواة بين الرجل والمرأة، حتى إذا كانت هذه القيم لم تتحقق بعد تماما في بلداننا. أريد أن افعل كل ما في وسعي لفضح كل أشكال التمييز في العالم، لأننا عندما نكره الآخر نكون نكره ذواتنا خصوصا. وعندما اكتب، أحاول دائما ان أكون الى جانب الضعفاء. جهة الأقوياء ليست جهة الأدب.
(عن ملحق "النهار" الأدبي)
joumana333@hotmail.com
www.joumanahaddad.com