ما من شاعر أحب الحياة وغرق فيها وعاش الشعر ووهبه حياته دون غايات, كما فعل علي الجندي, هذا الشاعر الذي اختلطت حياته بأوراقه حتى التبس أمره على الأصدقاء والأعداء منذ بداياته الأدبية أوائل الستينيات مع ديوانه الأول (الراية المنكسة).
شاعر عرفته المقاهي جيداً, وفيها عرفه الأدباء وعرفته النساء الجميلات, عبر عمر من الكتابة اصدر خلاله احد عشر كتاباً, وصدرت له العام الفائت الأعمال الكاملة.
شاعر لم يكترث ابداً بالأضواء وضجيج الإعلاميين والمهرجانات, ولم يستطب المناصب, إذ كان قد وهب روحه لهواء الحرية وقلبه للنساء ويديه للشعر...
وحين أحس ان الحياة بدأت تنسحب وتضيق كثيراً, والعالم بدأ ينكر شعراءه غادر دمشق واحتمى ببحر اللاذقية وجدران بيته الصغير...
وعلي الجندي من مواليد السلمية عام 1928. تخرج من جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة عام 1956 عمل في حقل الصحافة الثقافية ما بين دمشق وبيروت, كما وفي حقل الترجمة عن الفرنسية, وفي الستينيات عمل مديرا عاماً للدعاية والأنباء. وكان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب عام ,1969 صدرت له الدواوين التالية: (الراية المنكسة) (في البدء كان الصمت) (الحمى الترابية) (الشمس وأصابع الموتى) (النزف تحت الجلد) (طرفة في مدار السرطان) (الرباعيات) (بعيداً في الصمت, قريباً في النسيان) (قصائد موقوتة) (صار رماداً) و (سنونوة للضياء الأخير).
وفي هذا الحوار نقترب من عوالمه ندنو من هذا الكائن الذي لا يزال مصراً ان يكون مندهشاً بالحياة ومدهشاً لها.
* تمثل الصور التي اختزنتها سنوات الطفولة ذاكرة هامة في البناء النفسي والشعري, فهل بإمكاننا ان نوقظ بعضاً من هذه الصور التي تعتبرها الأهم على صعيد سيرتك الشخصية والشعرية؟
ــ يخيل اليّ إني لست بحاجة لأوقظ ذكرياتي, إنها ذكريات مستيقظة دائماً, وفي لحظة ما تستعيد نضارتها وصباها...
ليكن أبي قاسياً, ولتكن في سذاجتنا من أسباب شقاء الطفولة, حيث كان يخيل لنا ان أبي هو سبب حرماننا من طفولتنا, ولهذا كنا نلومه وحده, فلولاه كنا نعمنا بالمرح على البيادر المطلقة, والنوم تحت النجوم أو فوقها, وحتى قبل رحيله, كنا نترك الحرية لخيالنا على الأقل, فنجلب الصور الشعرية من أي مكان, وكنا قد تركنا للطبيعة ان ترفدنا بكل تلك الصور, كنا حالمين كباراً رغم صغر أعمارنا, ونطلب الصور المستحيلة, التي كانت لنا ملكاً خاصاً حاولنا ان نجسدها في صور لا تعرف الخنوع أو الالتباس, وتظل حرة ومترامية المساحات...
على خلاف أبي كانت أمي تمثل الحنان الدائم ونجرؤ في حضرتها على قول (لا)
* ومتى كانت أولى الكتابات وأول الشعر؟
ــ لا اعرف, كنت أخربش على الورق وأحب ما أخربشه, ثم كنت اقرأه على الأصدقاء فإذا بي محاصر بالشعر.
* وهل بدأت الكتابة بإلحاح ما حول خصوصية الصوت أو الأداء الشعري؟
ــ هذا ما دفعني أصلا للكتابة وبكثافة منذ عمر السادسة أو السابعة عشر, بدأت الكتابة بشكل متواصل غير مبال بشيء أو بأحد, كنت أريد ان أقول شيئاً لم يقله احد وكنت مؤرقاً بأن لا اخذ شيئاً عن احد, ربما كان هذا نوع من التوهم أو علو الخاطر, واهم شيء أحسسته إنني كنت أحب نفسي حين اكتب..
* والى أين كنت تنوي ان يوصلك الشعر؟
ــ لم أكن اخطط لشيء كنت لا أريد سوى ان أكون حراً, اكتب بحرية, وانشد بحرية متلهياً عن الدروس والواجبات والآخرين, كان إيماني ان اكتب لأني أحب ولأني أعيش, فإذا بي أجد نفسي على الطريق الذي مشيت عليه طوال حياتي, كان يخطر على بالي أحيانا ان أكون صحفياً أو ممثلاً, ولكني فشلت إلا ان أكون شاعراً. وقد حدث مرة إني ذهبت لأجرب التمثيل, ولكن النتيجة كانت بأني كتبت قصيدة.
* صورك الشعرية تتميز بغرائبية المشهد, وتنفتح على أكثر من سؤال وتأويل وتفيض إحساسا بالغربة والألم, وأود ان أسألك عن لحظة الخلق الشعري, وكيف تفصل فعلها في لملمة مفردات هذا المشهد وهذه الأحاسيس؟
ــ لحظة الخلق الشعري, لحظة تختلط فيها أشياء العالم, ويشعر الشاعر انه ينزلق من بين اللاشيء, ولا يدري كيف يهيئها, فلحظة يراها هامدة وفي اللحظة التي تليها يتولاها النشور, وهكذا حتى تصل اللحظة الشعرية الى الانكفاء على ذاتها.
حالات الجنون ليست غريبة على العابث مع الشعر, هدوئي الظاهري يتحول في تلك اللحظة الى فوضى يجمعها ويشتتها شاعر لا يدري كيف...
* ألهذا تنساب الدموع من ثنايا قصيدتك؟
ــ نحن نبكي كي ندافع عن وجودنا الهش..
* وتظل المرأة في هذا الوجود الهش والمشهدية الغرائبية, صورة الرحمة والحظ الذي يمنح قصيدتك ألوان الحياة والخصب, أليس كذلك؟
ــ مرة أخرى أفاجأ باللحظة الشعرية, أمام أكثر من بوابة, الحب العميق والموت, رعشة الانتهاء والرغبة في التدفق من خلال هذا العالم, تأتي الحالة من خلال اختناق في داخلي وابدأ في البحث عن مفتاح, ويتجسد العالم بامرأة تغير كل طبيعة الأشياء فإذا هي النعمة والحب الذي يمنح قصيدتي ألوان الخصب وشكل الخلق الكامل, وكيف تريدينني ان أجد خلاصي الا بامرأة...
كانت المرأة منذ طفولتي نعمة, وكنت أحاول بها ومعها لتخطي قسوة الأب, وكنت انهل من بين يديها الهمومتين كل رائحة الشفافية والمتعة, وكانت قصائدي تمتلئ حياة ورغبة في ان تكون.
* وكانت بيروت محطة مهمة على صعيد تعريف القراء بتجربتك الشعرية, واخص بالذكر هنا مجلة (شعر) فماذا تحدثنا بهذا الخصوص؟
ــ صحيح... في بيروت التقيت ببعض الأصدقاء الذين نشروا لي أول قصيدة (شكراً يا وطني) وهي غير موجودة في كتبي التي نشرتها فيما بعد. أما ديواني الأول (الراية المنكسة) الذي لا أحبه, رغم أني اعرف ان الكثيرين يحبونه, لا أقول انه نشر هناك غصباً عني, بل بشيء من الغصب.
في مجلة (شعر) نشرت كل قصائد ديواني (في البدء كان الصمت) وكان الجميع أصدقائي, ولكني لم أكن اشعر بأني واحد منهم فقد كانوا رغم ظهورهم بمظهر الديمقراطيين, يمارسون سيطرة وتشنجاً اتجاه شعرهم وأفكارهم, ومع ذلك فقد أحببتهم واحترمتهم جميعاً.
* رغم الشهرة التي نلتها لم يعرف عنك يوماً حب الظهور أو المشاركة في المهرجانات والأمسيات الشعرية, فما هو سبب هذا الموقف؟
ــ وجهة نظري ان هذه اللقاءات تفسد أكثر مما تصلح, لم اشعر يوماً شعوراً طيباً في أي مهرجان, وكنت أشارك سابقاً مضطراً, واعتقد انه يجب ان يكون هناك تفكير بعلاقة الجمهور مع الشاعر والبحث عن علاقة صحيحة.
* لماذا هجرت صخب دمشق واعتزلت في اللاذقية؟
ــ أنا تعلقت بالحياة منذ ما بعد الطفولة, ورحت أداوم على حبها والتشبث بأذيالها, لكني كنت اشعر دائماً وكأنني واقع في هوة, أحاول القفز حتى يكاد الخلاص يكون قريبا, واكتشف أنني اقفز في مكاني, هربت من السلمية, وكان ظل يلاحقني, وعندما ظهر الظل مرة أخرى في دمشق هربت من جديد, وقلت أداري عن الخلق منظر حزني واختناقي.
البيان الثقافي
الأحد 24 ديسمبر 2000-