منذ زمن "ليس بعيداً جداً" وأنا أقراء لآمال موسى وأعرف أنها شاعرة تونسية تحتفي بنصها المعبر عن الذات بصدق اكبر وأكثر من حميمي، كان ذاك النص يستغرق روحي حيث الكلمة أنثى تتفنن في ملامسة الجمال.
وفى ملتقى صنعاء الأول للشعراء الشباب العرب حيث كنت ضمن الشاعرات العربيات المدعوات تعرفت إليها إنسانيا ولم تختلف حكايتي مع الإنسانة عن تلك الشاعرة.
صدر لها: أنثى الماء وخجل الياقوت وهاتان المجموعتين ترجمتا إلى اللغة الإيطالية.. وإلى جانب ذلك حظي ديوان "أنثى الماء" بثلاث أطروحات جامعية.
يا أيها الشعر الشعر
أمنحك كلي
لتعود حكمتي المجنونة
- لماذا الشعر ؟
بقدر ما يبدو السؤال بسيطا بقدر ما يتراءى لي عويصا وصعب الاقتحام. إضافة إلى أنه يتضمن تشكيكا في دور الشعر ومكانته.
أظن أن الشعر يمتلك مبررات تاريخية وقديمة لوجوده. بالنسبة إليّ الشعر هو الوجود الحقيقي لذاتي. وفى كل المجالات الأخرى المجاورة للشعر أي الحياة اليومية بكل ما تحتويه من لهث ومن انخراط طوعي وقسري، فإني أشعر بغربة، ولا أكاد أدرك وجودي والصور العديدة التي تلتقط لي. إني لا أستعيد علاقتي بذاتي إلا في فضاء الشعر. أراني بكل تفاصيلي وخطوطي العريضة. فالشعر لدى ليس مجال تحقيق الذات بقدر ما هو الذات نفسها.
وأعتقد أنه كلما صار الواقع أكثر جفافا وقسوة وشراسة وحيوانية، كلما ازدادت قيمة الفن عموما والشعر خصوصا، وذلك كي نحلم على أنقاض واقع يطارد أحلامنا، وكي ننحت العالم الذي يجعل منا بالفعل فاعلين ومتربعين بكامل بهاء إنسانيتنا في مركز العالم الشعري.
قلبي بسيط
كأمي
تكفيه نبضة حب من رجل غير بسيط
ليضيء
- تكتبين بحس الأنثى أم بحس الأنثى الشاعرة ؟
لا أعرف فرقا بين الحسين، أو لنقل أنى أكتب بحس الأنثى وبحس الأنثى الشاعرة وبحس الإنسان الكامن في داخلي بلفت النظر عن الهوية الجنسية، ثم أنه لا ننسى بأن الشعر هو الأنوثة الكبرى وبالتالي فإن الشاعر نفسه يكتب بحس الأنثى القابعة في أعماقه ولقد قال محيى الدين ابن عربي ما لا يؤنث لا يعول عليه.
ومن جهتي أفهم الأنوثة بأنها منتهى العمق ومنتهى الرقة والشفافية، والشعر ذاته لا يخرج عن هذا الفهم. أما إذا كنتِ تقصدين بحس الأنثى، هو التساؤل عن مدى تدخل حس المرأة في كتابتي الشعرية أقول
أؤمن بتلك الخصوصية الخاطفة التي تتميز بها قصيدة الشاعرة رغم أنى لا خلاف لي حول إنسانية الفن وترفعه عن الفوارق الجنسية وبأن المهم في الشعر هو الشعر.
ولكن عندما نتأمل قليلا المدونة النسائية الشعرية سنلحظ أن هناك فرقاً بين من تكتب بحس الرجل وبوعي الرجل وبين من تكتب ذاتها وجنسها ورؤيتها الخاصة للعالم وللموجودات.
وكثيرا ما وجه نقاد الشعر انتقادات مستبطنة لبعض التجارب الشعرية النسائية ورأوا أن هناك من تكتسح قصائدها فحولة يعسر أحيانا العثور عليها في قصائد الشعراء الرجال.
لذلك فإن توصل الشاعرة إلى الكتابة بحس أنثوي، هو دليل انتصار يحسب لفائدة الشاعرة إذ يعنى بأنها قد أطاحت بالقناع وأحجمت عن لعبة التخفي وراء فحولة كاسحة.
إن الكتابة بحس الأنثى يعنى التوغل في لعبة حقيقية مع اللغة والانتقال إلى مرحلة الهندسة والتشكيل الخاصين في اللغة.
أسئلة الذات
- القصيد لديك يقول نفسه خارج الأبعاد المرئية، ألا تعتقدين أن ذلك قد يدخلها دائرة التفاصيل والعموميات؟
في البداية أريد أن أشير إلى أنني لا أعتقد أن هناك دائرة واحدة يمكن أن تجمع التفاصيل والعموميات معا.
وإذا ما كنت قد فهمت السؤال جيدا فإنك تقصدين بالأبعاد المرئية ما هو محسوس ومادي وبالخصوص ما يطال الواقعي واليومي. لا أنكر أن قصيدتي مهوسة بالفكرة أكثر من المادة إلا أنى لا أؤمن بالفصل بين المرئي وغير المرئي. فالعلاقة الجدلية القائمة بينهما تفرض وجودهما المزدوج مع غلبة جزء على الآخر حسب الحالة والوضعية.
ومع ذلك فما يعنيني هو الذات في أسئلتها القديمة والجديدة المتعلقة بالطفولة والحب والموت والوجود وطريقتي في ذلك تتمثل في الإنصات للتفاصيل، لأنها وحدها معينتي للقبض على ما هو حميمي و خاص.
تجليت أنثي
تكحل السهاد
تكسو طائرها ريش الأهداب
- القصيدة النسوية متهمة بأمنها مجرد انفعالات ووجدانية، لذلك هي متأرجحة بين الارتباك حينا والثرثرة حينا آخر؟
إن هذه التهمة ناجمة عن ثقافة تتغذى من التمييز الجنسي. وأظن أن الحديث عن الإبداع من السخف جدا أن ينطلق من إطلاق التهم جزافا، وتدعيمها بحجج مردود عليها. والذي ينسف مثل هذه التهمة هي تهمة أخرى ترى في قصائد عديد الشعراء الرجال مجرد انفعالات وخطابة وحماسة مباشرة وصاخبة. لذلك فإن التعاطي الصحيح يجب أن يتجاوز "النسوي" و"الرجالي" ليتمكن من طرح قضايا حقيقية يعانى منها الشعر.فأنا لا أنكر وجود عديد من التجارب النسائية المحسوبة على الشعر خطأ والتي تعانى من ضعف في الوعي الفني وسذاجة في التعبير ولكن هذا الاعتراف يمس جزءا من الخريطة الشعرية النسائية بينما نجد في الأجزاء الأخرى تجارب لافتة وذات نبرة خاصة ومتميزة. وإذا ما أردنا تتبع التسلسل التاريخي المعاصر سنجد أن الشعر الحر الذي أحدث ثورة شعرية هائلة في الستينات، قد تزعمته امرأة شاعرة وناقدة هي نازك الملائكة.
وفى نفس الفترة تقريبا ظهرت شاعرة فلسطين الراحلة فدوى طوقان وأثبتت ذاتها في زمن تكتب فيه الجريئات باسم مستعار. أيضا في العراق ظهرت الشاعرة الكبيرة لميعه عباس عمارة وأعتقد أن ديوانها "لو أنبأني العراف" يشهد بشاعرة فذة وقوية.أما في الوقت الحالي توجد عدة أسماء انخرطت بوعي مغاير في الحداثة الشعرية ونذكر على سبيل المثال لا للحصر، وفاء العمراني وميسون صقر ولينا الطيبي وسلوى النعيمي وسعاد الكواري وأشجان هندي وهدى أبلان ونبيلة الزبير وظبية خميس توجد عدة أسماء انخرطت بوعي مغاير في الحداثة الشعرية ونذكر على سبيل المثال لا للحصر، وفاء العمراني وميسون صقر ولينا الطيبي وسلوى النعيمي وسعاد الكواري وأشجان هندي وهدى أبلان ونبيلة الزبير وظبية خميس ونجوم الغائم و ربيعه الجلطي و فضيلة الشابى ومرام المصري وإيمان مرسال.
لذلك من المغالطات نسف كل هذه التجارب الواعدة و المغامرة و التلذذ باجترار علكة سخيفة تدل على جهل وعدم متابعة وغياب الجدية في التفطن للتجارب الجميلة والواعية و المختلفة.
إعادة تشكيل
- برأيك كيف يمكن الوصول إلى حداثة شعرية تسعى إلى ارتياد فعل التجريب في هذا العالم المتغير والمرتبك ؟
إن هذا العالم المتغير والمرتبك هو الذي يدفعنا إلى ارتياد فعل التجريب والتفكير في مغامرة فنية أخرى تواكب حالتي التغيير والارتباك، فالفن هو خلاصة زمنه أو على الأقل حاملا لإيقاعه. فقط ما هو جدير بالانتباه والحذر هو أن ارتياد مغامرة التجريب من الضروري أن تخضع لاعتبارات تولى أهمية للخصوصية الثقافية كي لا يتحول التجريب إلى تغريب وقتل للذات. إن التجريب مهم وضروري ويفتح آفاقاً واسعة أمام المبدع العربي، لكنه ليس في متناول كل من هب ودب، والمتمكنون من أبجدية التجريب وحدهم القادرون على ممارسته وعلى إثراء الثقافة العربية من خلال إحياء رموزها المتنوعة واستثمار أساطيرها وكمها المعرفي ومنحه حياة جديدة من خلال تجريب يهتم بالموروث ويعيد تشكيله كما الصلصال يتخذ أشكالا كثيرة.
أنثى الماء
- فز بمائي، لونى الماء، نهر اليدين. لماذا ترتدى خطواتك هذه المادة "الماء" عديمة اللون والرائحة ؟
أليس الماء هو سر الحياة فكيف يكون عدما! لقد اخترت الماء تيمة لي وعنصرا من عناصر قصيدتي. فمقاربة الذات تجعلني وجها لوجه مع الماء وأمواجه، لا سيما وأن الجسد أحد أهم أبعاد الذات ومكوناتها يخفق بالماء. وللماء معان لا تقف عند بعدا واحدا هناك ما يتصل بالحياة. وهناك ما يتصل بالجنس وهناك ما يتصل بالموت أيضا.
يا أيتها النار
ما الذي يطفئك؟
قطرة مني
أم شعلة في .
- ترجمت بعض نصوصك إلى لغات أخري
إن الترجمة وسيلة لتحقيق عدة أهداف، أولها امتحان مدى قدرة النص على العيش في لغة أخرى والانسجام مع رموز ثقافة أخري. فالنص "البيتوتي" والذي لا يغادر لغته ويرفض الاندماج حتى لو تمت ترجمته فذاك دليل إما على قصور المترجم أو برهان على محدودبة ما في النص الأصلي ذلك أن ما يعبر عنه اليوم بكونية النص الشعري تتأتى بالخصوص في نجاح في امتحانات الترجمة وفى محافظة النص على وهجه ودهشته وعمقه متى سافر إلى لغة أخري.
وبالنسبة إلى فقد تمت ترجمة مجموعتي "أنثى الماء" إلى اللغة الإيطالية قدمها الشاعر الإيطالي جوزبي دى كونت بنص طويل يمهد سريان قصيدتي في ذائقة القارئ الإيطالي.
ولقد صدر الكتاب المترجم عن دار سان ماركو دى قويستيانى بجنوة في إيطاليا.
ولعل أول ما تضيفه لي هذه الترجمة هي كسب قارئ جديد وأرجو أن تساهم ولو ذرة واحدة تلك المجموعة المترجمة في إعطاء صورة مغايرة عن تلك الصورة التي يحملها المخيال الغربي عن المرأة العربية ذلك أن نصوصي التي تحتفي بالذات وتتغزل بها وتلتف حول نفسها التفاف التوحد، قد جلبت انتباه الآخر الإيطالي لأنها قدمت بالنسبة إليهم علاقة مختلفة تعيشها المرأة العربية مع ذاتها.
الإبداع العربي اليوم بحاجة أكيدة إلى الترجمة كي تصل أصواته إلى الآخر وترسم صورة أخري، علها تنصفنا قليلا.
في البيت القديم
يلبسنا الحب جبة
فيكبر صحن الدار
مرتين .
مما يتشكل العالم الذي تحلمين به ؟
- العالم الذي أحلم به يتشكل من المفردات الموجودة في قصائدي. أنا أكتب العالم الذي أحلم به وشعري أصدق منى في وصف العالم الحلم. ثم أن هذا العالم نفسه في طور التشكل، ذلك أنى ما زلت في طور اكتشاف العالم الذي أريده. فالحلم لا يقل غموضا عن الحقيقة.
العرب اون لاين
4/2005