كانت تفصلنا سويعات قليلة عن حفل التوقيع الكبير الذي ينتظره، وبدا الروائي البرازيلي العالمي باولو كويليو مرهقاً بعض الشيء في يومه الأخير بالقاهرة، ربما أنهكته الحوارات المستمرة، مما دفعه لقصر مقابلاته في اليومين الثاني والثالث لزيارته على الصحافة المصرية والعربية فقط من دون الأجنبية. كان ودوداً، بسيطاً وعلى سجيته، يجعلك تتعجب بعد حوارك معه من عجرفة بعض مبدعينا العرب. تحدث في حوار لـ"الشرق الأوسط" بالقاهرة عن تكوينه الفكري ودور التصوف والدين فيه، وفاجأنا بإجابته عن الفلسفة، وتحديداً عن جاك دريدا ورأيه السلبي تجاهه، كما تحدث عن أسباب زيارته لمصر.
* تبدأ النسخة العربية الأصلية لمؤلفاتك المطبوعة في لبنان بمقدمة خاصة لك، تتناول فيها قصة لأحد كبار متصوفي الإسلام كما أطلقت عليه، لماذا اخترت التصوف موضوعاً لهذه المقدمة الثابتة؟
ـ التصوف مثل لي دوماً منطقة إغواء، من خلال القصص، أعني قصص التصوف. فأنا أعتقد أن التصوف طريقة مثلى لمشاركة الأفكار بدون القيام بعملية التصوف ذاتها، فالمتصوف يقص عليك قصصه، والتي منها تتعلم ما يمكنك أن تتعلمه، أو ما تريد أن تتعلمه. ولقد اتخذت هذا الأسلوب في رواياتي وقدمته للناس. ببساطة أنا أحترم التصوف كثيراً.
* هذا عن التصوف، لكن ماذا عن الدور الذي يلعبه الدين في رواياتك؟
ـ لا أحب أن يقال هناك عنصر ديني يؤثر في رواياتي، نعم أنا مسيحي كاثوليكي، لكني أفضل أن أقول ان الطابع المميز في رواياتي ليس الدين، أنا لا أبرز العنصر الديني، و إنما أبرز الصراع الإنساني، وأهم الأسئلة التي تتصارع داخل الإنسان حول وجوده... من أنا؟... ما الذي أفعله في هذا العالم؟ لكنني أعترف بأنه أحياناً تكون الإجابة الدينية هي أفضل إجابة على هذه الأسئلة. لهذا يتحدث البعض عن الدين في أعمالي. لكني أكرر أن هذا لا يجعل كتاباتي دينية أو عن الدين. مثلما هناك بحث عن الحقيقة في الخيميائي، هناك صراع إنساني حول الجنس في كتابات أخرى لي.
* أنت برازيلي ونشأت في تراث مختلط من حضارات مختلفة، كيف يمكن أن نتحدث عن دور هذا التراث في تكوينك؟
ـ الإنسان ما هو إلا حصيلة نفسه والظروف المحيطة به، لقد كان قدري أن أولد في البرازيل، حيث اختلاط حضارات واعتقد أن هذا أعطاني خاصية مهمة، لها علاقة بالتفريق بين ما هو واقعي وما هو عاطفي. ويكفي أن أقول أنني لو لم أكن برازيلياً، لما استطعت كتابة هذه الكتب.
* في لقائك بالمثقفين المصريين في اتحاد الكتاب، كذلك في لقائك بالشباب في جامعة القاهرة، أكدت أن هناك طريقتين للتعلم، واحدة يمكن اكتسابها من الكتب، والأخرى من الحياة، وأنك نهلت من الاثنتين، كما ركزت على التصوف، أين الفلسفة منظومتك تلك؟
ـ الفلسفة إذا ذهبنا إلى جذورها ككلمة، نجد أنها "فيلو صوفي"، حيث "فيلو" تعني حب، و"صوفي" تعني الحكمة أي المعرفة، وبالطبع إذا كانت للإنسان وسيلة لدخول عالم الفلسفة والتعلم من الفلاسفة ـ على ألا تكون هذه هي الطريقة الوحيدة في التعلم ـ فهذا جيد جداً. لكن إذا كان لديك الحب، أعني حب وقوة فهم تجاه العالم، فهنا يمكنك أن تتعلم من أي إنسان.
* بالحديث عن الفلسفة والفلاسفة، فقدنا أخيرا بول ريكور وقبله بفترة جاك دريدا، كيف يؤثر هذا الفقد على عالم الفلاسفة الذي نتحدث عنه؟
ـ أعتقد أن جاك دريدا كان مملاً للغاية، ولا أرى أنه أضاف شيئاً. أفضل المتصوفة، فقصصهم تضيف إلي أكثر مما يضيفه الفلاسفة المعاصرون. أما عن بول ريكور، فطبعاً حينما نفقد مفكراً فنحن نفقد الكثير. لكن لم أكن أحب دريدا، لقد عقد الحياة والعالم كثيراً، عقد ما هو في حقيقته بسيط.
* إذا كان دريدا عقد ما هو بسيط، إذاً ما هي الفلسفة الخاصة بالحياة في نظرك؟
ـ أعتقد أن الحياة بسيطة ومركبة، والصحراء كذلك. هناك من يذهب للصحراء وينظر فيها فلا يجد شيئاً، وهناك من يذهب لينظر فيها فيجد كل شيء، ومن هنا نتعلم كيف نحترم الصحراء، فهي تساعدنا على أن نفكر. وهذه هي في رأيي فلسفة الحياة، فنحن نفكر في ما هو مركب من أجل تبسيطه لا من أجل تعقيده.
* ألا تجد تشابهاً في أسلوبك الروائي، كما يردد البعض، وهذا الخيميائي الذي يمزج المواد ببعضها؟ ألا يعتبر أسلوبك مزجاً بين عدة أساليب أخرى؟
ـ لا...لا...لا(صارخاً) أسلوبي الروائي ليس مزجاً بين أساليب مختلفة كمزج الخيميائي. أسلوبي هو أسلوب الصحراء، بساطة لا تتحول إلى خرافة. وبالنظر إلى محتوى ومضمون روايتي "الخيميائي"، سنجد رحلة إنسان نظر حوله يميناً ويساراً متسائلاً حول ما يرى. هذا أيضاً أسلوبي في الكتابة.
* نعرف انك متأثر كما تردد دوماً بألف ليلة وليلة، كما تؤكد على التصوف. لكن ماذا عن تأثير التراث العربي الشفهي في رواياتك؟ لقد زرت مصر والمغرب، لم تتحدث عن هذا المؤثر أبداً؟
ـ لا أعتقد أنني اعرف عن حضارتكم أكثر مما تعرفون، وما أتعلم منه ليس من الماضي فقط وإنما الحاضر أيضا، وحقيقة لدينا أشياء مشتركة بيننا وبينكم. لكنني لم أكرس حياتي للتعلم حول الماضي ومؤثراته، لكن بالطبع حاولت أن أتعلم عنكم بكل الطرق الممكنة.
* إذاً هل تتضمن كتاباتك رسائل محددة للقارئ؟
ـ رسائل محددة، لا. لكن هناك جملة واحدة تلخص ما أريد قوله
للقارئ عبر كتاباتي: عليك أن تكون مختلفاً، حارب، لا تكون جباناً. مؤكد لديك مخاوف، لكن لا تجعل هذه المخاوف تشلك.
* اسمح لي ونحن بصدد الحديث عن القارئ، لقد أكدت مراراً أنك تحب مصر كثيراً، لهذا تزورها الآن، لتلقى البلد الذي تحب والقارئ المصري. لكن هل هذا هو السبب الوحيد، أم أنك تريد بهذه الزيارة أن تحول من دون قرصنة كتبك بها، وهذا سبب قوي دفعك للقدوم الآن؟
ـ نعم جئت للسبب الذي تتحدثين عنه أيضاً، أي للسببين معاً، لكن ليس لأن ذلك يضيف لحسابي البنكي، بل لأن الناس هنا يقتنون كتبي بأسعار مرتفعة، وترجمة سيئة. ما أريده هو أن يحصل الناس على ترجمة جيدة وأسعار قليلة. لا أستطيع أن أقول إنني نجحت كفاية، لكنني تلقيت وعوداً. الناس أخبروني بوجود ترجمات مصرية سيئة لأعمالي، لكني أستثني منها ترجمة الخيميائي التي قام بها الروائي المصري بهاء طاهر، فالجميع من قراء ومتخصصين أكد أنها ترجمة ممتازة، لكن
لم يعجبني عنوان"ساحر الصحراء" الذي أعطاه للرواية، وقد تحدثت إليه بخصوص هذه المسألة.
* ولماذا لم يعجبك هذا العنوان، هل لأن له علاقة بالسحر؟
ـ نعم، فهذا يعطي للقراء انطباعاً آخر عن الكتاب لم أقصده. فهذا الكتاب ليس عن السحر، إنه عن واقع، عني وعنك وعن كل إنسان. وأنا لا أريد للناس أن تنفصل عن الواقع. لذا أعتقد أننا سنغير العنوان لكن سنستخدم هذه الترجمة، أما الترجمات الأخرى فأنا لست مكان القارئ لأحكم عليها، لكن أكد لي المتخصصون أيضاً انها سيئة. إذاً أكرر وأقول ان أحد أسباب زيارتي لمصر أن يحصل القارئ المصري على ترجمة جيدة بسعر معقول.
* هناك طبعة عربية ثانية مترجمة بإذنك من روايتك الخيميائي، إصدار ـ دار نشر مغربية، فهل ستستمر في ترجمتين عربيتين مختلفتين؟
لا، كان هذا في البداية، قبل أن آتي لمصر وأتعرف على ترجمة بهاء طاهر التي سنستمر مستقبلاً بها.
* لقد رفضت تعبير الديني والسحري، لوصف أحد مناحي أعمالك، بماذا تصفها إذاً؟
ـ سأستخدم تعبير "الالتزام بالحياة"، كل ما كتبته عن الالتزام بالحياة.
* لقد وجهت إليك أسئلة أثناء لقائين لك في مصر، لم تجب عنها، كسؤال عن البنك الدولي ودوره، فهل تخرج بالحديث عن السياسة أحياناً عن هذا الالتزام؟
ـ لا مطلقاً، لقد اعتبرت أن هذا السؤال عن البنك الدولي يخص الاقتصاد لا السياسة، وهو حديث ممل، فأنا لست هنا لأخوض مناقشة اقتصادية، لكن عن السياسة فقد قلت هذا في اللقائين، وأود تأكيده، بأن علينا أن نفرق بين بوش كرئيس للولايات المتحدة الأميركية وبين الأميركيين، فلا نستطيع لوم الأميركيين جميعهم على أعمال بوش، كما لا يجب أن نلوم كل العرب على أعمال بعضهم.
وهنا انتهى حوارنا وتركت كويليو ليستريح ثم يستعد للقاء مرتقب، حيث كان ينتظره من الساعة الرابعة عصراً قرابة المائتين معظمهم من الشباب، وصل تعدادهم لحوالي الضعف في السادسة مساء موعد بدء حفل التوقيع، ثم زادوا على ذلك.
وقد عاد كويليو إلى بلاده صبيحة اليوم التالي، لكن التساؤل يظل قائماً مع تصريحه حول دريدا وريكور، ترى ألم يعتبر كويليو، الذي رفض تعبير الديني وصفاً لأعماله، فقدان ريكور خسارة للفكر بسبب المسيحية الملتزمة التي انتهى ريكور إليها، بينما صب غضبه على دريدا كونه رائد التفكيكية التي يمكن تطبيقها على كل النصوص حتى الديني منها؟ سؤال ربما يجيب عنه كويليو نفسه في مؤلفات مقبلة.
الشرق الأوسط
29 مايو 2005