* كيف تنظرين الى شكل العلاقة التي تربطك بالشعر؟
الشعر هو آخر حصن أدافع فيه عن الذاكرة ضد عدو شرس اسمه النسيان. أحاول من خلاله أن أنقذ الزمن والحياة والتفاصيل وان اصرخ كلما هزمت الى السماء. ولأنه لا مجال للهزيمة القصوى في صراعي المفتوح مع الموت والنسيان فإنني ألجأ الى التحنيط ومع ذلك فقد ترتكب بعض الأخطاء، فتصنيع برهة هنا وفقدان إحساس هناك. عندها فقط الجأ الى الحلم لأقاربه بالحقيقة، لأننا في النهاية أمام مومياء، أمام الموت. الانتصار علي الموت هو حلم لا نهائي. ولكننا نحاول أن نتغلب علي بشاعته من خلال إعطائه جمالية معينة. ورغم إدراكي بأنها جمالية صامتة. فلا يتبقى أمامي إلا أن اصف حالة الموت والاحتضار متسلحة بأجواء بدر شاكر السياب وجرأة خليل حاوي وهما يواجهان حتمية الموت.
* تجربتا خليل حاوي والسياب حصرتا وحددتا من روح المفردات اللغوية لديك، فلا نكاد نرى خروجا عن أجواء التجربتين في طرحك للمواضيع، فأنت لم تغامري في مواضيع تختلف عما قرأنا في التجربتين السابقتين؟
اعترف أنهما في مرحلة ما أثرا علي مناخي الشعري، ولكنني الآن في حالة من الخروج والتجاوز لكليهما في كتاباتي الجديدة. لقد تركا تأثيرهما علي ديواني الأول، وهذا له علاقة بالفترة التي مررت بها أثناء كتابتي لذلك الديوان. بمعنى أن الإنسان أثناء بلورته لصوته الخاص يتمثل أناسا وهذا لا يعني أن يتشبه بهم، فأنت أثناء بحثك عن صوتك الخاص تحتاج لزمن حتى تصل إليه. وقد قيل أيضا بأنني متأثرة جدا بوالدي، وأنا لا انفي أي تأثير ولكن في تجربتي الحالية وأنا الآن اعد لديوان ثان يحمل تمردا ما لأنه يسير باتجاه صوتي الخاص. ديواني الأول اتخذ الصليب حيزا كبيرا منه من خلال مزاوجتي ما بين الصليب والانتظار بحيث أن صليب الانتظار ـ عنوان الديوان كان حالة تشبه انتظارنا لغودو، وهي الحالة المزمنة في حياتنا، انتظارنا لأي غودو! ولكن في برهة ما استدركت أن هذا الانتظار شكل صليبا لكل خطواتنا. قد يعبر العمر أو الزمن على كل شيء ونحن لا نزال لا نعي أن هذا الانتظار صلبنا وصلب كل الطرق التي كان من الضروري أن نطرقها. لذلك تجد إنني في كتاباتي الحالية أعيش لحظة الوعي لهذه المسألة واشعر بأنني قد تحررت من هذا الانتظار. فقد انتقلت حياتي من حالة التأمل الى حالة أكثر تجريبية، بكلمات أخرى، فالصلب هو حالة توقف وطرح للأسئلة وهذا التوقف يجعلك في حالة تأمل وانتظار وتساؤل، وفي اللحظة التي تترجل فيها عن الصليب أي ترفضه وتتحرر منه فأنت تمشي نحو إجاباتك أكثر من انك تنتظر أن تصلك وهذا لا يعني إن القلق قد ترجل أيضا بالعكس تماما، وجودك في حالة انتظار وفي حالة تأمل يمنحك رؤية واضحة للأشياء التي تنتظرها وفي اللحظة التي تفتح فيها بوابة تسمح لك أن تعبرها وتمشي يزداد القلق وتبدأ بالحنين الى الصلب! لان أي صليب، في النهاية يؤرخ لمكان والخروج منه بالتأكيد فيه شيء من المغامرة، فيه شيء من الضياع يجعلك فاقدا للأمان. ولكن في النهاية فهو أكثر حقيقية.
* هناك ترابط عضوي بين الشعر وكشف الحقيقة، ومفردات اللغة هي الركيزة لكل هذا! هل تشتغلين في قصيدتك علي اللغة ومفرداتها؟
أنا من المؤمنات بأن القصيدة عبارة عن دفقة. فلست من أنصار العمل الإحترافي على القصيدة، فأنا لا أغير في قصيدتي إلا بالقدر الذي يقتضيه كسر ما في الوزن وما تبقى اعتبره نوعا من التشويه أو كسرا للحالة الحقيقية التي ولدت فيها القصيدة. فأنا اعشق القصيدة بشكل ميلادها، بتشوهاتها، بعاديتها. اعرف أن هناك شعراء يشتغلون على القصيدة لجعلها أكثر توهجا وتستطيع إن اشتغلت علي المفردات وغيرت فيها أن تجعلها أكثر حدة وتناقضا وجمالية! ولكن في النهاية هناك شيء من الخيانة لمصداقية اللحظة. وهذا جدل دائم بيني وبين الكثير من الشعراء. صحيح إنني اشتغل على قصيدة التفعيلة التي تملك بنية معينة، ولكنني لا انتقي المفردات بشكل يعطي القصيدة جمالية أكثر كما كان يفعل الجواهري. وإذا اضطررت تغيير مفردة ما، فأنا ابحث دائما عن مرادف. وإذا لم يتوفر، أحاول صياغة نفس الفكرة بعبارة مختلفة ولكن دون أن أمس الفكرة، لأنني اعتبرها جزءا من القصيدة، جزءا من اللاوعي. وفي معظم قصائدي مؤخرا، عندما أعود وأوزنها، في المجمل تكون موزونة تلقائيا. قد تكون هناك كلمة وأحيانا لا اضطر الى تغيير أي شيء. ومع الزمن فان التفعيلة تنصقل داخليا باللاوعي، ويشكل كل الوزن والإيقاع وحدة متجانسة مع القصيدة. وبالتالي لا تشكل التفعيلة أي عائق أو قيد أمام القصيدة.
* هناك ربط بين شعر التفعيلة والنظام السياسي القائم في الدول العربية، من خلال فرض الرقابة الذاتية! لذلك نرى أن الشعراء الذين تغربوا: كتبوا النثر لخروجهم من إطار المفهوم العام والسائد وبالتالي تحررهم من العقلية الإلزامية. هل ترين إن قصيدة النثر يمكن أن تأخذ حيزا وفضاء أوسع إذا انكسر حاجز العلاقة الأبوية بين التراث والشعر؟
بقناعتي إن الشعر هو حالة إحساس وشعور ثم تكثيفهما. ولكن، كيف يأخذ هذا الإحساس أو ذاك الشعور شكله فهذه عملية تاريخية. سأقول لك بأن الكثير من الشعراء والناس لا يؤمنون الى الآن بالشعر الحديث (شعر التفعيلة) ويعتقدون بأن الشعر هو الشعر العمودي الكلاسيكي القديم. شعر التفعيلة خاض هذا التحدي، وبعد أن اقتحم حياة الناس وأغانيهم، اقتحم مشاعرهم. وبالتالي فرض نفسه لأنه استطاع أن يتزامن مع الكثير من القضايا. وفي النهاية التحدي مفروض علي أي جديد، ولا يخص قصيدة النثر فقط !
* نحن لا نزال نعيش صيغة التبشير والوعظ في الشعر العربي! لم نتحدث بعد عن صمتنا تجاه الأحداث والقضايا التي نعيشها، لم نطرح بعد أسئلتنا ولم نجب أنفسنا. كيف حدث أن ادعى شعراءونا المقدرة علي تغيير الواقع وتحريرنا من الهزيمة، فاكتشفنا أنهم أضافوا قضبانا لسجننا، الجيل الشاب من الشعراء، كيف ينظر الى هذه المسألة؟
هنا أعود معك الى مسألة التحنيط. لا يمكن أن تجد مومياء أجمل من شخص حي. لا يوجد أي فن أو أي شعر إلا وله مشاكل، تنبع من فهمنا لمهمة الشعر. لتنظر الى رسامي الفن الانطباعي، لم تكن اللوحة لتمثل لهم أكثر من مرآة عاكسة، لقد رسموا الواقع بشكل دقيق وتلقائي، وحاولوا أن يغطوا كل شيء، الحروب، الفقر، الجمال ولكن الذي حدث أن هذا الفن ترك فيما بعد مكانه للفن الفوتوغرافي التصويري. وفيما بعد تحول الفن الى مسألة رمزية، غير مرتبطة عضويا بالواقع، يلتقط برهة من الواقع، حالة، سؤال، ومضة، ولكن الشعر ليس حالة تأريخ واقعية، يُفترض منها أن تغطي الواقع بكل أبعاده السياسية، الجمالية، الفلسفية.. جميل إن هو استطاع ذلك، ولكن الشعر هو فن إضاءة التفاصيل، الشعر هو حالة لا وعي مطلقة، وأي محاولة لتحديد مهمة الشعر تبطله.
هذا هو الخلاف بين التفعيلة وبين النثر. في شعر التفعيلة لا مجال للاوعي، فهناك دائما حالة وعي تراقب، وتحدد، وتسيطر علي القصيدة. والنثر هو محاولة للتحرر منه والغوص أكثر في عالم اللاوعي لإضاءة ما هو كامن فيه. ولننظر الى تاريخ الفكر! إن أول فكرة ولدت في هذا العالم، كان الشعر هو الوعاء الذي حملها، وهو الوعاء الذي تقلب فيه كل المفاهيم وهو حامل لكل الأفكار الفلسفية. ولذلك يهيئ لي إن الشعر هو الذي يحمل المرحلة وينتقل بها الى مرحلة أخرى. فنحن نقول هو الوعاء الذي يمكن أن ينضج فيه لا وعينا الذي يفلت دائما من الوعي. يمكن لنا أن نكوّنه ونخلقه ومنحه شكلا ليتحول الى شيء واضح المعالم نستطيع التعامل معه! وأي إنسان آخر غير الشاعر لن يتمكن من التقاطه، فهو الوحيد الذي يستطيع أن يعيش خارج حالة الوعي ويغامر في طرحه وإجابته عن الأسئلة الوجودية؟
* اتفق معك. ولكن، هل تطرح السؤال لتصل الى أن قصيدة النثر لا بد لها من إلغاء التفعيلة كما ألغت التفعيلة الشعر العمودي! أنا في البداية ضد نفي أو محو الآخر. هناك حيز وفضاء كاف لقصيدة النثر. وأنا اعتقد أن أي شيء ولد فهو ضروري. لا افهم الناس الذي يرفضون هذه القصيدة لكنني افهم منطقا واحدا فقط! أن هناك من يخشى من التحلل من كافة القيود ويتحول الى نثر. هنا الخوف وهنا هو الخلاف. هناك من يرى أن قصيدة النثر عملية تحلل أكثر منها تطور.
مشكلة العقل العربي انه دائما يعيش حالة من الرخاوة للماضي، والتراث المقدس! فالتفعيلة الآن أصبحت من المقدسات ونحن لم نخرج حتى الآن من حالة المقدس لنتعامل معها بشكل عادي. لأحيلك الى شعر الفراعنة، عند قراءته تذهلي لجماليته وكثافته رغم خلوه من الإيقاع الخارجي، فهو لا يحمل إلا إيقاعه الداخلي، إيقاع روحانية الكلمة التي تحملك علي التأمل وليس علي الانفعال؟
هذه عملية تاريخية! انظر كم من الناس كانوا قد رفضوا شعر التفعيلة والجدل الذي رافقها. أنا برأيي، بموت الجواهري كشاعر، مات آخر شاعر عمودي علي وجه الأرض. فلم يتخيل أي شاعر كلاسيكي في يوم من الأيام انقراض هذا الشكل. ولكن، طالما هناك شعراء يكتبون التفعيلة أو قصيدة النثر أو حتى العمودي فلا نستطيع إلا أن نترك التاريخ ليحدد. ليس المهم رأيي في شكل الشعر فلا أحد يستطيع أن يصادر نوع الشعر وشكله. فالتاريخ في النهاية من يحدد. فإذا صمد أي شعر أو أي شكل وكان قادرا علي احتواء هذا الكم الهائل من الأحاسيس والمشاعر فهو الذي سيبقي، وهذا مرتهن بالأشخاص.
* هل يستطيع الجيل الشاب من الشعراء أن يطوف بحرية وان يثير الشكوك دون الخوف من استهزاء الكبار عند اثارتهم وتطرقهم للمشاكل. هل هذا الجيل يملك القدرة علي وضع معيار للشعر، وعلى تجاوز جيل الكبار دون الخضوع له؟
ليس كل الجيل السابق يسخر من التجارب فهناك شعراء يحترمون ويشجعون ويعطون الفرص. والمشكلة هي في كوننا نحمل مفاهيم وقضايا مختلفة. ولكننا للأسف لا نزال نعيش تحت ظلال المرحلة السابقة، ربما على الأقل لأننا لم نمتلك أدواتنا الخاصة والمختلفة التي تستطيع أن تثبت نفسها أمام الجيل السابق، ولم تتح لنا الفرص. صحيح إنه يوجد تطور ولكن نحن كجيل شاب يؤرقني إننا نعيش زمنا يختلف عن الزمن الذي عايشه الكبار.
* هل نستطيع الخروج من مفاهيم الحداثة لرؤية واضحة لقضايانا ودفعها نحو تشكيل هوية خاصة بها محتفظة بمسافة عن التشيئ للحياة، وقادرة على تحمل هذا الكم من الأفكار والمعلومات والضغوط اليومية لنتمكن من التقاط التفاصيل التي تصنع في هذا الكم الهائل من الهموم التي تزداد يوميا وبشكل مرعب؟
هذه المسافة دائما نحاول أن نحتفظ بها أو أن نخلقها، ولكن اعتقد إن المشكلة ليست فقط هذا الكم الهائل من التفاصيل اليومية أو المعلومات، بل هذا الكم الهائل من الكوارث. صحيح إن الجيل السابق عاش النكبة والنكسة. ولكن نحن نعيش كوارث إنسانية يومية. وهذه تدفعك أحيانا الى الإحساس بعدم جدوى الكتابة أو بعدم أهميتها واعتقد أن هذا هو الخطأ الذي يشكل اكبر خطر محدق بالشعر الحديث، يعني إحساسك بعدم جدوى الكتابة. لنأخذ مشهد استشهاد محمد الدرة. هذا المشهد مخيف، مؤثر تحاول أن تكتب ولكن تشعر بأنك باهت. فما بالك إذا كانت الكوارث متلاحقة ومشاهد الموت متواصلة دون توقف. وأحيانا يراودني الشعور بالتوقف عن الكتابة لأن هذا العالم ومنطقتنا بالتحديد يوجد فيها ملايين القصص والمشاهد التي تبحث عن زمن مفقود. ولكن، بالرغم من كل شيء ما أزال أحلم بيوم جديد يكون فاتحة لغد مختلف، ننظر من خلاله الى الحياة ولا نسأل لماذا يموت الياسمين.
اليوم خمر
ما وسع وجهك للندوب وللتقنع يا أبي
هذا المساء يليق أن ألقي بنفسي في توابيت المرايا
هذا المساء يجوز أن ابكي وان أشدو
وأن اغتال كل اللهو هذي الليلة
التي افتتنت بكأس الخمر
حتى يبزغ الآتي.
اليوم خمر يا أبي وغدا سأعرف أنني
ثأر لنعشك كلما فتر الكلام على
شفاه حقيقة ضمرت من الصمت
المعبر كل طرقات السلام...
اليوم خمر يا أبي اليوم آخر رقصة
غجرية في عتمة الريح البغيضة
لا تنم ـ اليوم شاركنا عشاءا آخرا
كن كل ما شاء المسيح من التذكر والبكاء.
ولا تهب هذا المجون الحي في
دمنا المعاقر خمرة الغرب البذيئة لم نعد..
نحن الذين تفرقوا في الأرض تقتلهم خيام
السبي والصلبان يجذمهم وباء النأي
لا تخفي جراحك كلما مرت صقور الأمس
تلعق جدول الماضي الجميل ولا تمت
اليوم خمر يا أبي وغدا خيامك بخرنا
سوف تصبح كل أشرعة الصواري والنحيب..
والسندباد يعد هجرته الأخيرة من
بلاد العهر نحو الأمر..
يا أبي نعود إليك ثانية.
من كل صوب نخلع الوهم المجنح والرماد
فلا طيور حلقت في غيبنا بعد السبات
اليوم خمر يا أبي..
والمومس العمياء تخرج للشوارع
ترتمي في حضن أول عابر..
قتلته رغم الجوع يا أبتي ولكن لم تمت
ستجوع طفلتها الجميلة بعد حين
وستهجر الماخور للطرقات
تفترش الحواري ريثما يمضي الغزاة
والمومس العمياء تهجر من سنين
بحث البغايا التائهين
عن كسرة الحب الدفينة في جيوب العابرين.
القدس العربي
2004/09/07