في الديوان الثاني للشاعر والناقد السوري عهد فاضل "تأبين البحر" ثمة شهية مفتوحة للتبدد والتفكك، فكل شيء ينحل ويتفكك، الطريق والجسد والأقوام، من جهة هذا السعي إلى التبدد رافقه تبديد للجملة الشعرية المتماسكة والحاضنة حتى لشبهة معنى واضح ومتكامل، كمحايثة شعرية للتبدد في الواقع. أيضا يمكن للقارئ ملاحظة أن الشاعر يضيق بالمعنى، المعنى الميت الذي يفوح بروح العطن، فكان النص لديه ضد المعنى، ضد التبنين حتى في بناء يمكن له أن يحيل إلى معنى، وبدا أن جملة الاهتمامات والانشغالات الجمالية التي يضيئها الديوان، هي جملة ما ينشغل به عهد فاضل الناقد، الذي كان لنا معه هذا الحوار:
* من خلال نصوص "تأبين البحر" نلحظ حضورا للمعنى، وكأنه يحظى بمفهوم خاص لديك، فهل يمكن أن تضيئه؟.
ـ المعنى بطبيعته، ذاتيّ. والتفريق بينه وبين المضمون ضروري. المضمون هو الحمولة الدلالية للكلام، للأشياء، بعامة. أي إن المضمون يجسّد المستوى التداولي للواقع. أما المعنى فهو المستوى المجازي، الخارجي. حصل خلط كثير بين المعنى والمضمون على خلفية التشابه السريع بينهما. لكن، في الحقيقة، إذا تجاوزنا الظاهر، يكون المعنى إضافةً والمضمون وصفاً. في ظل هذا التباين تأرجح الحديث عن المعنى بوصفه وظيفة اللغة، والمضمون بوصفه المعنى. وهذا يحتاج إلى إعادة قراءة، والانتقال من التداول إلى الإضافة، من الوظيفة إلى التكوين. أي ضرورة الانتقال من المضمون إلى المعنى. عند هذا الحد يقع اللبس، فما يبدو غير منجز يكون كاملا، وما يبدو مستقلا يكون تراكميا. هذه مشكلة، بالمعنى المنهجي للكلمة. هذا طرف من كتاب نقدي، أشتغل فيه على فكرة "زمن المعنى" وفيه أقرأ الشعر العربي، منذ بغداد العباسية إلى الآن، على خلفية تناقض المعنى والمضمون، على أن الأول تكويني إضافي، والثاني تداولي وظيفي. وكيف يمكن فهم الفارق بين أن يكون الحد اللغوي تعريفا بالشيء أو صوغا له. هذا يرتبط بالصورة، بالشعرية عموما. عندما يعجبنا شيء يكون في العادة قد تجاوز المعادلة من التداول إلى الإضافة، من الوظيفي إلى المختلَق. ما يمكن أن يعبّر عنه أبو نواس مثلا:
* غير أني قائلٌ ما أتاني من ظنوني. مكذّبٌ للعيانِ
آخذٌ نفسي بتأليف شيء واحدٍ في اللفظ شتّى المعاني داخلٌ في الوهم حتى إذا ما رمته رمتُ معمَّى المكانِ وسواها من دلالات.
* هناك أيضا تأبين لكل شيء، للإنساني وغير الإنساني، لكنه تأبين أشبه بتلمس للروح وللبحث عن خفقة حياة في الخراب وفي الموات، كيف ترى ذلك؟
- قد يكون موت صديقي بلال صالح (الذي أشرت إليه في أول تأبين البحر) السبب في هذه المسحة المأسوية، ولهذا أسميت الكتاب "تأبين البحر"، لأننا من منطقة واحدة على البحر المتوسط في سوريا. التأبين، بلى، شمولي. والبحر هو ظاهرتنا وهو ما يجب أن نكتشفه دائماً. وتأبين البحر، هو تأبين لظاهرتنا، لموت المعنى وولادة المضمون. نحن، الآن، ثقافة مضمون، لا ثقافة معنى.
* أنت واحد من جيل طرح تجربته من خلال مجلة (ألف) التي عبرت عن حساسية شعرية مختلفة وتبنت طرح العديد من القضايا والإشكاليات المتعلقة بالكتابة الجديدة، كيف يمكن لك أن تقيم تجربة (ألف) وأعضاءها وفاعليتها في الساحة الثقافية في سوريا، وهل يمكن أن نعتبر أن مشروع المجلة قد انتهى بتوقفها؟
- كانت تجربة هامة. فهي الأولى التي تولى سوريون تحريرها، بعد قطيعة طويلة مع العمل الصحافي بسبب قمع قانون المطبوعات للمبادرات الفردية غير المنتمية إلى ثقافة الحزب الواحد. طرحت المجلة ثقافة تتناقض مع السائد، على أكثر من مستوى، السائد الأدبي الذي كان عبارة عن مجموعة من الإيقاعات المتكلفة المسمّاة بالتفعيلة. والسائد السياسي الذي كان طبولا ومباخر وانعكاسا للالتزام السياسي الذي يشبه أثره أثرَ دخول هولاكو إلى بغداد(!). والسائد الاجتماعي الذي لم يكن أكثر من تحجر وانغلاق وفقدان ثقة. دخلت "ألف" إلى هذا السائد، وسواه، وطرحت عليه أسئلة، بل خرجت، عنه، بالكامل في بعض المجالات. وتركت أثرا مازال صداه يتردد إلى الآن. لم ينته مشروعها لأنها توقفت. توقفها عن الصدور له أسباب مادية في المقام الأول، وغَرَضها مازال مفتوحا.
* برزت أسماء شعرية شابة عديدة في المشهد الشعري السوري، خلال السنوات الماضية، وكرست لنفس شعري جديد، هالا محمد ومنذر المصري، أكرم قطريب، عهد فاضل، لقمان ديركي، عابد إسماعيل، ومرام المصري، وعلي سفر وأسامة أسبر وغيرهم، إلا أنه من الملاحظ عدم وجود أسماء سردية لها نفس الحساسية الفنية وبالذات الروح التجريبية.. إلى أي مدى تعتبر هذه الملاحظة صحيحة؟
معك حق. السرد بحاجة إلى ناجين ليسردوا. دائما تحتاج الحكاية إلى ناجٍ من الطوفان ليقول ما جرى. وإلا كيف سنعرف كيف اكتسح الماء كل شيء؟ ثمة ناجون أقل لدينا في الموجة الجديدة. نحن جزء من الطوفان ولم نصعد أي سفينة. البقايا قد تفي بالغرض. هذا سر "ربما" لغياب السرد: لا يوجد ناجون. عندما يخضع البحر لعملية تأبين هذا يعني أن لا سفينة ولا غرقى ولا طوفان ولا ناجين. لا شيء. من سيخبر حكاية لا يعرفها؟.
* تقيم في بيروت وتكتب في صحفها، هل المناخ الثقافي والأدبي هو الذي يدفعك إلى الإقامة، وهل ثمة مكاسب أو خسارات من أي نوع ترافق هذه الهجرة القريبة من بلدك؟
أنت تعرف أن لبنان يجسد إلى حد كبير مختبرا أدبيا. لأسباب عديدة. منه دخوله المبكر إلى الحداثة وأنه احتضن جدل الحداثة في الشعر العربي منذ البداية مع مجلة شعر، وأنت تعرف آثار هذه المجلة، بعد انتقال المختبر الشعري من مصر بنهاية الـ"ديوان" و"أبولو". الخسارة أفهمها وجودياً. نحن شركاء في خُبزها. المناخ في سوريا بحاجة إلى تأسيس شامل. لقد أدت الثقافة السياسية التي سادت فيها ما يقرب الأربعين عاما إلى عزل سوريا عن موجات الحداثة وأظهرت الثقافة السورية وكأنها ثقافة ميتة، وهذا صحيح إلى حد كبير. لكن الأفراد فيها أقاموا نظام تواصل مع الفكر الجديد والحداثة، خذ مثلا مجلة "ألف" والعديد من الكتّاب الذين اشتغلوا على تجاربهم واخترقوا ثقافة الالتزام التي هي ثقافة الموت. الأفراد، أحياناً، يعيدون تكوين تاريخهم، يشكلون خلاصاً. لكن سوريا مازالت بعيدة عن هذا الخلاص الأدبي لأن المؤسسات الإعلامية فيها مازالت مشغولة بكتب النحو والصرف وجباية الروح (!). لا يوجد صداقة بين المؤسسة الإعلامية السورية وبين أغلب الكتّاب. هم ينشرون فيها لكنهم لا يعتبرونها النموذج الصالح. وهذا حقيقي.
* من خلال اشتغالك النقدي واهتمامك بقضايا الشعر الجديد ما الذي تمكنت من ملاحظته على هذين المجالين النقد والشعر على الصعيد العربي طبعا؟
هناك مَيْل إلى التفاصيل، أو الشعر اليومي. ربما ردّا على شمولية ما كانت تتردد على لسان روّاد الحداثة. كان الأخيرون نتاجا، بمعنى ما، للشمولية السياسية التي رافقت خمسينيات القرن الماضي. مع استثناء أنسي الحاج ومحمد الماغوط. لكن يبقى هناك من لا يستجيب للمعطى الخارجي ويكتب في سبق خاص متخلصا من الراهن، في تجارب الكتّاب الجدد، مثل أحمد النسور وأحمد السلامي وخضر الآغا وناظم السيد وعلي مطر وعابد إسماعيل وأحمد الأحمد وفراس سليمان محمد وسواهم كثير، لست في معرض ذكر الجميع. لكن على مستوى النقد فهناك مشكلة كبيرة في هذا الشأن. النقاد المكرّسون كجابر عصفور ومحمد بنيس لا يتصلون بالتجارب الجديدة، ربما لنوع من التعالي أو عدم الاكتراث. أنا من أنصار أن يقرأك ابن جيلك، هذا أفضل. أهل مكّة أدرى بشعابها!.
* في دمشق أقام عدد من الشعراء والمثقفين العراقيين وكان لتجربة دار المدى، بحسب البعض، وما دأبت على تنظيمه من أسبوع ثقافي لأكثر من عام دورا ملحوظا في توجه الأنظار إلى دمشق، فهل يمكن القول إن هؤلاء الشعراء والمثقفين أضافوا شيئا إلى هذه المدينة وإلى شعرائها أو مثقفيها؟
مشكلة العراقيين تشبه مشكلة السوريين، جدا. الطرفان كان لديهما مؤسسات إعلامية جامدة وبطيئة. والطرفان خضعاً لنظام سياسي إيديولوجي واحد، لكن ثمة من أقام حلولا فردية هامة، أو خروجاً من الصورة. من الكتّاب العراقيين نجد باسم المرعبي وجنان جاسم. هؤلاء خرجوا من إعراب الجملة إلى الأدب ! كذلك فإن السوريين والعراقيين يربطهم ثقلٌ واحد وهو الموروث. فالاثنان متصلان بالموروث بحدة. وهذا خفف من سرعة التعامل مع المؤثرات الخارجية. هذا طبعا إذا اعتبرنا أن هناك قطيعة بين زمن السياب وزمن ميشيل عفلق(!) السياب كان يجسد هذا الدخول السريع في الجدل الشعري. لكن ميشيل عفلق أعادنا إلى إعراب الجملة! وضاعـت "أنشودة المطر" تحت وطأة "الرسالة الخالدة". تصوّر: هذا العراق الذي كان مسؤولا، في زمن ما، عن الشعر العربي بأسره، وعن اللغة العربية بكل قوانينها وأدبها، هذا العراق تم اختصاره بجحيم يراه الآخرون الآن، أي يرون نتائجه الآن. لا أعتقد أن وجود الكاتب العراقي في سوريا يجسد إضافة لأن الاثنين يحتاجان إلى الأمر ذاته. الاثنان يعملان كأفراد خارج المؤسسات.
الوطن - 27 سبتمبر 2003