حاوره: محمد نجيم
عبد الدائم اكواص شاعر ليبي برز اسمه في السنوات الاخيرة كأحد اهم الشعراء الشباب ــ او شعراء الجيل الجديد ــ في ليبيا، استطاع في فترة وجيزة ان يحتل مكانة مهمة علي الخارطة الشعرية الليبية (فهو المنسق العام لفضاء الشعر والقصة بطرابلس هذا الفضاء الذي يضم اهم الاسماء الادبية في ليبيا). وان يصل بقصائده الي اهم المنابر الثقافية العربية في الوطن العربي والمهجر.
في البداية نسأل الشاعر عبد الدائم اكواص عن بداية شغبه مع القصيدة؟
ــ انا اعتقد انه من الصعب جدا ان يحدد الشاعر بداية تاريخية لتفاعله مع زرقة البوح وكيمياء الابداع فكل قصيدة جديدة هي بداية جديدة، فالشاعر شهاب يسبح في فلك لا نهائي من البدايات، والشعر في جوهره بحث مستمر عن بدايات لنهايات آنية تؤدي ــ ربما بالضرورة ــ الي بدايات اخري وهكذا. ان القصيدة الناجحة هي تلك التي تخاطب الوجدان والصميم والعميق فينا، وبالتالي لا بد لها ــ في وجهة نظري ــ ان تنأي بنفسها ــ الي حد ما ــ عن محدودية الزمان والمكان.
تقول عن نفسك: (انا شاعر قلق، شاعر يبحث في ثنايا الكلمة عن هواء وفي غبش الخيال عن حقيقة، متجاوزا نفسه وجسده ليكمل رحلته الابدية صوب الخالد والمطلق) كيف يمكنك تفسير هذا للقارئ؟
ــ نعم انا شاعر قلق جدا، او كما قال المتنبي (علي قلق كأن الريح تحتي)، ولكنني في الوقت ذاته لا اجد في ذلك اي تميز او تفرد عن بقية الشعراء، فالشاعر بطبعه قلق ونزق، اي انه بالمعني السيكولوجي عاطفي الي درجة كبيرة، ولعل هذا القلق هو الذي يدفعني باستمرار للبحث بين ثنايا الكلمات عن متنفس او عن موطئ قلب اجلس فيه مستريحا امام بللور الحقيقة، مستنشقا رائحة الشاي الصباحي وعبير البخور الامومي اللذيذ.. انني، اذن، في رحلتي اللانهائية صوب العميق والجوهري والحقيقي، اجدني مضطرا لان اسبح في احايين كثيرة ضد ابعادي الفيزيائية، وضد احتياجاتي الفسيولوجية.
هل تؤمن كشاعر بضرورة التواصل ــ الشعري ــ بين الشعراء، وهل يمكن لهذا التواصل ان يكون رابطة يمكن من خلالها ان يتغلب الشعراء علي كل الظروف الجيوبوليتيكية؟
ــ بالفعل، فانا اري ان الرابطة الشعرية رابطة روحية وثيقة، قد تصبح في بعض الاحيان اقوي حتي من بعض الروابط الاجتماعية الموروثة، ولهذا فلو تكونت بين شاعرين، او مجموعة من الشعراء، رابطة شعرية روحية عفوية اساسها الشعر، وهدفها الابداع فانها حتما ستكون اقوي بكثير من العلاقات البشرية المادية التي اساسها المصلحة وهدفها الكسب بغض النظر عن ماهية هذا الكسب. ومن جهة اخري، فان هذه الرابطة الشعرية / الروحية/الابداعية خارجة عن كل قوانين الفيزياء، وهي بالتالي عابرة لكل المتغيرات او الظروف السياسية الاقتصادية/ المادية التي قد تعوق التواصل الجسدي بين هؤلاء الشعراء.
لم يعد احد يقرأ الشعر فهل بدأنا نكتب لبعضنا فقط؟
ــ هذا كلام يجانبه الصواب، وفيه الكثير من الاجحاف في حق الشعر والقراء علي حد سواء، فالشعر ما زال بخير ــ وهنا اعني الشعر الحقيقي الذي يخاطب العقل والقلب، ويحترم ثقافة وبيئة المتلقي، ولا يغفل ضمير الكتابة ــ اقول ان الشعر ما زال بخير، وما زال له حضوره المميز والاساسي سواء علي مستوي المتلقي الفرد، او علي مستوي المجتمعات، كما ان الشعر يمتلك مفتاحا مهما ربما لا نجده في الالوان الادبية الاخري، الا وهو التفاعل المباشر والصادق بين الشاعر ومتلقيه، ايضا فالاغاني التي تملأ حاليا الاسماع والابصار، تلك الاغاني.. الم تبن اساسا علي الكلمة؟ الا تري معي ان نسغ تلك الاغاني هو الشعر؟
ما رأيك في النظرية التي تقول بان مركز الشعر هو المشرق العربي بينما مركز الرواية هو المغرب العربي؟
ــ اولا.. انا ضد التنظير في الادب وللادب، وضد كل محاولة لتأطيره او تحجيمه او جغرفته او تجنيسه. تقول ان المغرب العربي هو مركز الرواية، اذن اين ذهب (عبد الرحمن منيف) و(حنا مينا) و(هاني الراهب) و(غادة السمان) و(ابراهيم نصر الله) وآخرون.. ثم تقول ان المشرق العربي هو مركز الشعر اذن اين ذهب (محمد بنيس) و(الطاهر وطار) و(مالك حداد) و(علي صدقي عبد القادر) وآخرون.. ثم لو اخذنا بهذا التقسيم المشرقي/ المغربي، فاين سنضع مصر بكل ثقلها الثقافي القديم والحديث. اذن هذه نظرية تحمل بين جنباتها ما يناقضها بل وينفيها.
هل برزت في السنوات الاخيرة اسماء لشعراء ليبيين من الجيل الجديد يمكن ان تثبت اقدامها في الساحة العربية؟
ــ قد يفترض هذا السؤال ــ ربما عن غير قصد ــ عدم وجود شعراء ليبيين ذوي حضور واضح علي الساحة العربية، وبالتالي سأقول لك ان هناك مجموعة من الشعراء الليبيين تمكنوا من اثبات وجودهم وتميزهم علي الساحة العربية منذ اكثر من عقدين وهم الشعراء: (علي صدقي عبد القادر)، (محمد الشلطامي)، (محمد الفقيه صالح)، (لطفي عبد اللطيف)، (جيلاني طريبشان).. وآخرون.
في العقد الاخير من القرن المنصرم، فانني ساقول لك: (نعم.. نعم.. نعم)، فقد ظهر في هذا العقد مجموعة من الشعراء المتميزين الذين استطاعوا في فترة قصيرة ان يتطوروا بسرعة متجاوزين عمر تجربتهم، وبالتالي ان يكتبوا قصائد كبيرة استطاعوا ان يخترقوا بها الكثير من المنابر الثقافية العربية ــ بل والعالمية ــ واخص بالذكر منهم الشعراء (خالد درويش)، (صالح قادربوه)، كذلك الشاعر (خالد مطاوع) الذي يقيم في الولايات المتحدة ويكتب الشعر بالانكليزية، هذا الشاعر استطاع ان يحدث تحولا مهما في الشعر الامريكي، وان يبلغ مكانة وسمعة يحسده عليها الكثير من الشعراء العرب الكبار. انني اراهن علي التجربة الشعرية الشبابية في ليبيا التي برزت من خلالها اسماء ستؤكد السنوات القريبة القادمة مدي تميزها وتفردها.
هل صحيح ان الشعر العربي الحديث يكتبه العراقيون؟
ــ انا ــ كما سبق ان قلت ــ ضد جغرفة الشعر او تجنيسه، فليس من مصلحة الشعر، ولا الشاعر، ان يتم حصره في منطقة بعينها، مما سينزع عن الشعر احد اهم ميزاته الا وهي دعوته الابدية للحرية والانطلاق. انا اعتقد انه لو ترك الحبل علي الغارب لخرج لنا من يقول ان (المتنبي) شاعر عراقي، او ان (ابو فراس) شاعر سوري.. وهكذا. انا اعرف مثلا ان (السياب) و(البياتي) عراقيان، ولكن هذا لا يزيد ان ينقص من احترامي لهاتين القامتين الشعريتين الكبيرتين. ان العراق كانت وما زالت ارضا طيبة اخرجت وستخرج لنا الكثير من الشعراء الكبار، ولكنني اؤمن بان الشعر ــ قديمه وحديثه ــ يكتبه الشاعر اني تكون جنسيته.
واخيرا..
ــ تتعدد المسميات والمشارب والمدارس والشعر واحد. لذا فانا شاعر وكفي، شاعر يطل من شرفة قصائده علي الافق فينحني معه للطفولة والندي والفجر، ولا اجد وصفا او تعريفا لي كشاعر افضل مما قلته في قصيدة لي بعنوان (ساكن حدس الهواء) اذ اقول:
سابح صوب القصائد،
والمعاني مشرعة..
راكض بين الدفاتر،
والثواني مسرجة..
حامل سيف الفواصل
قاطع جيد المقاصل،
نافث بوح الرياح
لاعق جرح المباح،
نائم فوق الغيوم
هائم بين النجوم،
تائه في ماضيين
ذاهل في سورتين
كائن في صورتين،
حالم والحلم ماء
ساكن حدس الهواء،
شاعر شعري سجود
وابتهال للحياة).
جريدة (الزمان) العدد 1231 التاريخ 2002 - 6 -