حاوره: فاضل سوداني
يعد المغربي الدكتور عبدالرحمن بن زيدان من النقاد والأساتذة القلائل المختصين في البحث والنقد المسرحي. فلا يقتصر الأمر بالنسبة له على الكتابة عن النص أو التنظير للمسرح وإنما يهتم عادة بتحليل العرض المسرحي وتفكيكه واعتباره منطلقا بصريا لفهم ظاهرة المسرح ونظرية العرض دون ان يتجاوز أهمية النص ودوره في تكاملية الفن المسرحي. فهو صاحب وجهة نظر واضحة في تكامل مكونات المشاهدة المسرحية التي يحاول أن يجعل منها متعة من خلال تحليل وكشف الأسرار المسرحية اعتمادا على الموضوعية النقدية والتحليل العلمي للنص والعرض في آن واحد، وبهذا فانه يدين جهالية بعض نقاد المسرح العربي الذين يعتمدون العجالة النقدية استنادا على مشاهدة سريعة للعرض أو النقد الموبوء الخاضع للمزاج والمحاباة. وقد تأسست تجربته بن زيدان النقدية اعتمادا على المختلف في الفن، والانفتاح على نظريات الدراما والمسرح الغربي والعربي، ونظريات علم الجمال والتاريخ والفلسفة، ولهذا فان أسئلته ترتكز على هذه الآفاق.
إن د. عبدالرحمن بن زيدان يحاول دائما التنظير والدعوة للتجريب المسرحي وذلك من خلال مجموعة الكتب التي ألفها و طرح فيها الأسئلة الجوهرية لمعالجة الكثير من الإشكاليات في المسرح المغربي و العربي مثل كتاب من قضايا المسرح المغربي. والمقاومة في المسرح المغربي. كتابة التكريس والتغيير في المسرح المغربي، أسئلة المسرح العربي. قضايا التنظير في المسرح العربي من البداية إلى الامتداد، خطاب التجريب في المسرح العربي، التجريب في النقد والدراما وغيرها. لذلك فان محاورتنا له لم تقتصر على الحديث عن سكونية المسرح العربي بل عن آفاق تطوره أيضا.
سكونية المسرح العربي
* تكمن إشكالية المسرح العربي في ثبوتيته و سكونية أسئلته.و يشكل هذا بالتأكيد خطورة كبيرة على المسرح لأنها خطوة تدخل ضمن منطق جاهزية الفكر عموما. أسألك من هذا الطرح: أين تكمن ديناميكية المسرح العربي؟
- لا أريد تقديم أحكام جاهزة في إجاباتي، ولا أريد أن أعرض قراءة سريعة تحكمها الانتقائية في اختيار الرؤى واختيار التأويلات التي تفصل ـ أثناء تحليل الظاهرة المسرحية العربية ـ بين مكونات المجتمع العربي، لوضع حدود وهمية بين الأنساق والعناصر والمنظومات التي تحكم مسار ما هو عربي فكريا وفلسفيا وسياسيا واقتصاديا وأدبيا وفنيا ضمن السياق العام والكلي الذي هو العالم.
إن الفصل، أو الانتقاء الذي يبعد التقاطعات والتفاعلات والتكامل والصراع العربي، والصراع العربي مع الآخر المحدد جغرافيا والمجرد فكريا لا يمكن أن يغني القراءة والفهم، لأن هذه التقاطعات والتفاعلات في المسار العربي تقدم عمق الواقع وعمق الرؤى وعمق المخاضات التي تبصم سيرورة هذه العناصر وتجعلها ناطقة بعمقها وبدلالاتها السطحية والعميقة في تجلياتها وفي تمظهراتها، سواء تعلق الأمر بتجليات هذه التقاطعات في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية وما تنتجه من إيديولوجيات، أو تعلق الأمر بالانزياحات التي تحققها الإبداعات العربية عن الثابت كاستجابة موضوعية لكل متطلبات المرحلة التي تحمل الثقافة على إبداع كل أشكال المغايرة بعيدا عن التطابق مع الأحكام الجاهزة التي يكرسها هذا الانتقاء أو هذا الفصل القسري بين مكونات المجتمع العربي وبين علاقاته الداخلية أو الخارجية.
إن القراءة المتأنية لشكل الوجود الذي يوجد عليه العالم العربي، يعطينا موضوعه الذي هو موضوع القراءة، ويحدد لنا التيمات التي بها تتحدد إشكالية الوجود العربي في صراع يبدأ بما هو محدد ومحدود، ضمن الخارطة العربية، في حدودها في حدود تراثها وتاريخها وثقافتها وحضارتها وماضيها وحاضرها و مستقبلها لينتقل إلى ما هو أشمل وأعقد وأوضح، هو الصراع الحضاري أو الصراع بين الحضارات، هذا الصراع الذي يفرز دوما أشكالا متعددة من المواجهات تبدأ بإشكالية الموقع العربي ضمن هذا الصراع، وتبدأ ـ أيضا ـ بموضوع الهوية وموضوع الثقافة وأشكال الحوار مع العالم وطرق الدخول في زمن الحداثة أو ما بعد الحداثة بشكل يضمن لهذا الموقع خطابه المثقف ضمن وجود خطابات أخرى تحكم العالم وتسيره.
وضمن إشكالية الوجود العربي كما تنطرح في صراع الثقافات، وضمن التطلع إلى مستقبل عربي مشرق تندرج المسألة الثقافية العربية والفكر العربي والفلسفة العربية كوعي بالوجود يستجيب لكل متطلبات العصر في أسئلة مقلقة ووجودية حول النظم التي تضبط العلاقات في العالم وتحكمها وتوجهها وتقسم مواقع النفوذ والسيطرة حسب أهداف توسعية لا تقتصر على ما هو اقتصادي أو عسكري بل تصل سلطة هذا النفوذ إلى الثقافي والفكري برموزه الرائجة في العالم بهدف تمجيد النمط الغربي كنموذج وحيد وأوحد في العالم.
من هذه النظرة الشمولية للوقائع التي قدمناها نضع إشكالية المسرح العربي ضمن الخصوصيات التي يولدها السؤال في رحم هذه التناقضات وهذه الصراعات التي تختص بها المغايرة والتميز الذي يعبئ هذا المسرح بدينامية القراءة والكتابة والإبداع والإجابة عن كل الأسئلة العصية في الزمن العربي.
أسئلة تأصيل المسرح العربي
* لكن المسرح نشأ في الثقافة الغربية، اذاً ما هي أسئلة المسرح العربي المعاصر؟
- تكمن في ديناميته، لأن الدينامية هي نقيض السكونية، ونقيض تكرار الأنساق السابقة والمغلقة.إن الدينامية حيوية متدفقة تسير نحو المستقبل لتجاوز اهتراء البنيات المكونة للمادة الأدبية في النص المسرحي العربي، وهذا التدفق لا يعني في بعده الإبداعي، سوى خلخلة الوصف المنظم والقراءة المنظمة والرقابة العقلية المنظمة التي تجعل النتاج مرآة تعكس عالما واضحا سهل القراءة، واضح السمات والعلاقات والعلامات، منظم البنيات في سكونية قاتلة تصادر كل حيوية يمكن أن يتميز بها الإبداع.
الدينامية حيوية تمتلك رؤيتها المتحركة حين تتمثل في إبداعها الدهشة المتخيلة، وتتمثل غرابة المتخيل المسرحي الذي يصير بالضرورة الضفة الأخرى للواقعي حين يقدم واقعا يمسرح به أشكال الصراع والتناقض بين الذات والآخر / الغرب.
هذه هي إشكالية المسرح العربي وهو يختبر وجوده بإيقاع هذه الدينامية, ويقيس أنفاس إبداعه إما بأجوبته الجاهزة، وإما بأسئلته اللافحة التي تعيش حرقتها بلذة ومتعة أدبية تنبع من المغاير الذي تؤسسه، وتولده من المختلف الذي تكونه حين تنفتح على العام لتبدع الخاص، تحاور الشامل لتخاطب موضوعها وذاتها والعالم في هذه الدينامية.
ومن التوزع بين الثابت والمتحول، وبين الأجوبة الجاهزة والأسئلة المطروحة، وبين الصدى والصوت، تنفتح باستمرار، مسارب جديدة لتفعيل وجود المسرح في الثقافة العربية والواقع العربي، ويبدأ فعل تجديد الأسئلة في تقديم محتمل وممكن لهذا المسرح ضمن رؤيته المستقبلية، وهذه أهم خاصية لدينامية المسرح العربي، وهي ارتباطه المتين بالأسئلة الصعبة التي تسيره، الأسئلة التي بها يعطي الكاتب المسرحي العربي لخطاباته ولتقنيات إنتاجه حساسية جديدة هي حساسية الدينامية التي تهب للنص المسرحي العربي مواضيع لا تعرف الوضوح أو السكون أو المباشرة، بل إن هذه المواضيع تصبح ناطقة بتعدد الخطابات فيها لأنها عمق في الأعماق، وسؤال في الأسئلة، وحيوية في الحيوية، ورؤية في الرؤية للعالم التي يقدمها المسرح العربي المختلف في تعدده بحيوية تؤكد دوما وجود المسرح العربي الذي يبحث دوما عن حريته منذ أن أعلن عن تاريخ ميلاده.
ضمن هذا الكل المتغير كان المسرح العربي يعيش بداياته التابعة للمسرح الأوربي، وكان وما يزال يحيا امتداداته المتغيرة في تجريب الكتابة النصية بعيدا عن الاقتباس أو النقل الحرفي للتجارب، وهو ما يعطينا إمكانات الحديث عن وجود دينامية حقيقية لهذا المسرح وهو يوسع من دائرة متخيله، ويضع في كل الآفاق الممكنة خطابات غير جاهزة، وغير ثابتة، وغير معلبة، وهذا النوع من المسرح هو الذي يخاطب المعرفة، يحاورها بفكر وبفلسفة تبني حوارات درامية تضع المتلقي العربي في أفق انتظار محمل بالدهشة وبالجديد وبالغريب بفعالية أدبية ودرامية وفنية تبحث دائما عن المختلف في شكل المسرح وقالبه ودلالاته، وهذا لا يعني أن المسرح العربي يعيش كماله وتمامه في الواقع في الإنجاز، ولا يعني ـ أيضا ـ أن هذا المسرح المثقف لا يعيش صراعه الدائم مع المسرح الذي لا يملك مشروعا ولا ضفافا، إن المسرح العربي المثقف يبحث عن الفكر وعن الفلسفة وعن الرؤية التي يكتب بها مسرحه ووجوده.
* وبالتأكيد مثل هذا المسرح لابد أن يتصادم مع السذاجة الفكرية والفنية التي تميز حياتنا الثقافية.
- من الممكن جدا... لان المقاربة النقدية لواقع المسرح العربي تؤكد على أن إشكالية هذا المسرح تكمن في كونه يعيش موزعا بين سلطتين متناقضتين، الأولى مهمتها إقصاء الإبداع من الإبداع ومحاصرته وتطويقه وحذف "أصالة" التحديث في تجريبه.أما السلطة الثانية فهي نقيض السلطة الأولى، إنها المد الجديد نقيض كل ثبوتية قاتلة، ونقيض النفي والإقصاء الذي يتعرض له الفكر العربي، ونقيض الأجوبة الجاهزة والفكر الإظلامي المتحجر، إنه الفعل الحضاري المثقف الذي تقدم مشاريعه الكتابة المسرحية العربية كتابة وتنظيرا ونقدا بوعي حضاري وبسؤال وجودي متعدد بعمقه الفلسفي بحثا عن تقنيات جديدة للتعبير عن مأزق المسرح العربي ضمن المأزق العام والشامل للوجود العربي في العالم.وفي هذا البحث تكمن الدينامية المتجددة لخطاب المسرح العربي بكل تنوعه وغناه ضمن هذا المأزق الذي يعيشه حضاريا وثقافيا وفنيا ضمن التجريب النصي المسرحي العربي الذي يتوسل عن طرائق الحلم والترميز والأسطورة والتخييل إلى إدماج المتلقي وإدخاله في لعبة الكتابة المسرحية الحيوية لا خارجها.
* أنت كباحث وناقد تابعت مسار المسرح العربي نصا وإخراجا ونقدا من خلال مجموعة من المقاربات النقدية جعلتك تؤكد في خطابك النقدي أن المسرح العربي مسارح، والكتابة المسرحية العربية كتابات، أما أسلوب الإخراج فأساليب.هل هذا يعني أن التجريب المسرحي الحالي (إن وجد) يتفرد بلغته الخاصة؟وأين يكمن التجريب حتى يتفرد بلغته المسرحية؟
- المتابعة النقدية لهذا المسرح في ممارستي النقدية و في كل قراءاتي تعني المقاربة المتفحصة، وتعني ـ أيضا ـ القراءة المتأنية للظاهرة المسرحية العربية ولظاهرة النص المسرحي العربي ككتابة درامية وركحية وكتابة نقدية، وهذا يعني قراءة مسكونها والتعرف على ما تختزنه بنياتها العميقة من رؤى ودلالات تقرب مبدعها من رمزية التعبير، ومن الوعي التاريخي الذي يخلق زمانه في بنية درامية تختصر المسافات بين أنساقها للانخراط في سيرورة الوطن العربي والتعرف على مخاضا ته وما يحبل به من أسئلة ورهانات وانتكاسات هي مكون أساس من مكونات وجوده.
هذه المتابعة سواء تعلق الأمر بقراءة شعرية النصوص الدرامية العربية وبلاغتها ومتخيلها وخطابها الواقعي، وخطاباتها المجازية، أو تعلق الآمر بتلقي جماليات العروض العربية المتميزة بحفرها في الذاكرة البصرية واللغوية العربية لبناء جمالية تميز العرض المسرحي في حيويته ودينا ميته، جعلني أقول إن مكونات المسرح العربي وأشكال الوعي بالعلاقات المتصالحة مع الذات أو المضادة للغرب كلها عوامل كانت تسهم في بلورة تعدد المسرح العربي في اختلاف لا يهدف إلى إقصاء هذه المكونات أو تذويبها في متاهة اللامعنى، أو جعل الخطاب المسرحي العربي رهين قول واحد وحبيس مستوى واحد وسجين خطية واحدة في الكتابة وفي الرؤية.
إن التعدد الذي يحكم مسار المسرح العربي المثقف هو التعدد الذي يتأسس على المعرفة الفكرية والفلسفية والتاريخية، وينهض على العلوم الإنسانية لبلورة هذه المكونات بشكل أرقى يغير ذاته ليغير بنياته، كما يغير تحدياته لذاته ولموضوعه لتقديم أشكال تعبيرية درامية راقية، وهو ما يستجيب للدعوة إلى إخراج المسرح العربي من المحاكاة المنغلقة للمواضيع والحالات المنغلقة، لأن إنقاذ المسرح لا يبدأ إلا من حيث تبدأ عملية هدم الساكن والثابت والمغلق لزرع روح الدينامية في الإنتاجية المسرحية العربية، وهي العمليات الصعبة التي نراها تتحقق في الزمن الصعب في وطن عربي يعيش الأصعب والأعسر والملتبس في لحظاته وفي تاريخية وفي علاقاته، ويأتي المسرح ليكون بكل المعايير والمقاييس الضفة الأخرى للإبداع العربي التراجيدي الذي يرى ما لا تراه باقي الكتابات التي تعيش خارج حيوية الإبداع الأدبي العربي شعرا ورواية.
إن المسرح مغامرة تراجيدية تشمل البناء والأسلوب واللغة والشكل وكل مكونات العالم الدرامي في النص، وإدراك المسرح العربي الحديث لهذه العلاقات وغيرها من العلاقات هو إدراك للعلاقة الموجودة بين الواقع وبين الخيال، بين الكاتب المسرحي وعصره.إنها المغامرة التي لا يمكن أبدا أن تعرف الاستقرار والاكتمال دون محاورة الأساليب التراثية الأدبية منها وغير الأدبية لجعل التجريب المسرحي والنص الدرامي يتفردان بنظامهما السردي في إعطاء المجال الفسيح للطابع الرمزي رحابته، والاحتفاء بجانب اللغة والشكل والتغريب في هذا التجريب ونقل الشخصية الدرامية من شخصية محددة في الواقع لإبداع الشخصية التي لا تماثل الكائن الحي في الواقع المعيش وإنما تصير كائنا خياليا في عملية التجريب.
هذه العناصر، وهذه الأسس هي التي تجعل التجريب المسرحي متفردا بلغته الدرامية الخاصة، وتعطيه كل الإمكانات في التحويل والصنعة التخييلية كي تحد أثناء عملية التجريب من الملامح المرجعية في الكتابة النصية، وتقلص من سلطة وظائفها الأصلية لتكتسب أثناء وبعد التحويل والإبداع في التحويل دلالات وإيحاءات جديدة تكون نابعة من عملية التركيب لمجمل العناصر والمستويات المكونة للمحكي الدرامي.
هذا المحكي الدرامي هو الذي يكتسب تعدده من كثافة الدلالات فيه ويتفوق على هذه التقنيات من انفتاحه على روافد التاريخ والأسطورة والمجتمع والدين لفتح أبواب التخييل على اللغة ومكوناتها، وهو ما يمكن ربطه بنتاج المسرح الشعري العربي والمسرح النثري المشعرن من البداية إلى الامتداد من خلال أهم المحطات التي وسمت تجريبية هذا المسرح سواء تلك التي ارتبطت بتجريب جواب أو أجوبة المسرح الغربي لتأصيل الظاهرة المسرحية في الثقافة العربية، أو تعلق الأمر بتجريب أسئلة السؤال حول معنى وأسس هذا التأصيل، هل هو مقبول بصيغته الوافدة، أم أن هذا التأصيل يعني إعطاء التعدد والفرادة للغة المسرح العربي في النص الأدبي الدرامي وفي الإخراج حتى يعيش بآنزياحاته التركيبية بعيدا عن التركيب السائد في مفاهيم التجريب الغربي؟
عندما أؤكد على القول إن المسرح العربي مسارح وأن التجريب فيه تجارب، فهذا يعني أن مستويات اشتغال هذه الانزياحات التركيبية في النص المسرحي العربي يجب أن تقاس بما يتفتق به المتخيل الدرامي العربي من مستويات في الكتابة من خلال الطاقات الإيحائية المعتمدة، وأحيانا أخرى على الإحساس اللغوي كآلية ومعايير تضبط هذه الانزياحات داخل مغامرات دلالية تعطي لهذا المسرح أصواته المتعددة في إبداع بوليفوني تتعدد ملفوظا ته لممارسة أشكال مختلفة من التخيل السردي في الكتابة.
بهذه القراءة يمكن تتبع حضور أوغياب المسرح في الوطن العربي كإبداع أو كإتباع، ويمكن أيضا التعرف على المناخات التي يتنفس فيها هذا المسرح في علاقته بالحيوية الثقافية وبالحريات العامة وبرواجه داخل قطره وخارجه.
* دلالات الواقعية المتخيلة في النص المسرحي العربي لا تأتي من فراغ
مغامرة التجريب في المسرح العربي...
هل معنى هذا أن خطاب التجريب في المسرح العربي يشكل مغامرة أدبية وفنية؟
- بكل تأكيد أن المسرح العربي المثقف، المجرب المغير الذي يتغير، يعيش تجدده في المناخات المتجددة، لأنه يعيش لحظات الولادة في إبداعه الذي يهدم المسرح كي يبني المسرح، يتحدى القوالب المغلقة ليتحدى سكونية الرؤية وسكونية الوقوف وسط دائرة مسدودة تسد عليه زوايا النظر إلى كل الآفاق التي يعرف فيها العالم كيف يفهم هذا العالم.
إن المسرح العربي في تجريبيته وفي إلحاح كتابه ومنظريه على الاهتمام بشكله وببنياته لإبداع وابتكار ملفوظه اللغوي وطقوسيته الخاصة، إنما يرسم مشروع العرض الذي يتخيل فضاءاته وألوانه وأشكاله بشكل يجعل المخرج يجرب اشتغاله على تجريب الفضاء والفراغات لتوليد معاني وصور متخيلة تعمق الإيحاء برمزية شاعرة لا يمكن تكرارها أو إعادتها في سياقات غير سياقاتها لأن النص اللغوي الدرامي جديد، ولأن مفهوم الممثل والفضاء والموسيقى والصوت والصورة والصمت والإلقاء كلها حقول للتجريب تصنع شعرية النص المرئي كأرخبيل من العلامات التي تشتغل كلها في زمن واحد هو زمن العرض وزمن تلقي العرض.
طبعا لا يمكن بهذا المعنى نفي ما يقوم به المسرح العربي من مغامرات جمالية وفنية وتخييلية تخطو بإمكانات النص وتسير بها نحو الدخول في كل الحكايات والحوارات والشخوص واللغات التي تجعل من هذه المغامرة دهشة، ومن الدهشة لذة، ومن اللذة متعة تتغذى من هارمونية الانسجام الذي يضع الكتابة في مغامرتها الحقيقية بجديدها وبآفاقها المنتظرة وغير المنتظرة.
بهذا المعنى يكون خطاب التجريب متعدد الوظائف والمهام والأدوات، فهو من ناحية نتاج على غير هيأة سابقة، وهو من ناحية أخرى بناء يبني متخيله بثقافة المبدع المسرحي العربي الذي يزيل الحدود والفواصل التي تفصل بين المعاني الموروثة والأساطير والرموز والخرافات والتاريخ لأسطرة كتابته بعد أن تكونت وتشكلت بكل المفارقات التي تحضر في الدراما العربية لفك رموز ولبس العالم والإنسان والوجود، وفي الأخير فإن وظيفة التعبير الملفوظ أو الصامت أو المتحرك في فضاءات العرض تؤدي هي الأخرى هذه الجمالية لتساير معنى التجريب في تجارب المسرح العربي الذي سيبقى في تجريبيته يفصح بالقول التالي: "ليس المهم أن نبدع.المهم أن نوجد فلسفة للإبداع وعلما للإبداع في هذا التجريب ".
* من المؤكد أن الكثير من المبدعين العرب ينحون هذا المنحى.
- نعم فهذا القول تردده أسماء وازنة في التجريب المسرحي العربي، أسماء شكلت خطاب التجريب، ودخلت به في مغامرة الغريب والمدهش والغير المتوقع، بفضل كتاب حرروا المسرح من المسرح، وأخرجوا الدراما من الدراما، وكتبوا مواضيعهم بواقعية ليست هي واقعية الواقع، وليست صورة مطابقة لصورة التراث، إنها الواقعية المتخيلة في النص التي قدم أشكالها توفيق الحكيم ومحمود دياب و نعمان عاشور في واقعيته و ألفريد فرج في تعامله مع التراث و قاسم محمد وفاضل خليل وعز الدين المدني وعبدالكريم برشيد ونجيب سرور وروجيه عساف وعصام محفوظ ويعقوب شدراوي في اشتغالهم على المخزون العربي تراثا وموروثا شعبيا، وفي مجال الإخراج التجريبي نجد مخرجين أرادوا تأسيس علاقات جديدة مع الفضاء المسرحي والممثل كعلامة مع باقي العلامات التي تقدم تغريبا جميلا للعرض المسرحي، وهو ما نجده عند فاضل الجعايبي ورجاء بن عمار ومحمد إدريس وانتصار عبدالفتاح ونضال الأشقر وجواد الأسدي، وعند كل المبدعين الذين أبدعوا في مخاض هذا التجريب مسرحا عربيا بدأ يعرف كيف يوظف كل التقنيات المسرحية في السينوغرافيا والدراماتورجيا لتوليد جمالية المسرح في هذا التجريب.
هذا يعني أن التجريب لم يأت من فراغ معرفي أو من ترف فني وفكري لا يهمه تأسيس خطاب للمسرح العربي.إن التجريب المسرحي بهذا التجريب يسعى إلى تحقيق هوية وأصالة لهذا المسرح وهو يتعامل مع ملحمة كلكامش وقصص القرآن، وألف ليلة وليلة، والتاريخ، والأساطير اليونانية، والحكايات الشعبية العربية كمناجم تعطي لخصوصية المسرح العربي قوته وإصراره على تجويد تجريبه وإتقانه دون تقليد أعمى للمدارس والتجارب الغربية التي يريد بها بعض المسرحيين أن أخذ شهادة الاعتراف بوجوده والاعتراف بتجريبه.
إن البحث عن الخصوصية في التجريب يعد دليل صحة وعافية يتميز بها الحوار بين المكونات المسرحية العربية والتجارب المسرحية العالمية، ثم أن هذه العلاقة هي علامة على أن تجريب المسرح العربي ورغم نخبو يته هو دليل صحة وحيوية وحياة و اختلاف، أما غياب هذا التجريب، وفي غياب التمثل الحقيقي لأبعاد ووظائف التجريب فإن تكرار الخطابات والأشكال المسرحية لا يخدم المسرح العربي ولا يطور قيمه ورؤيته لتسير سيرا حثيثا نحو حساسية جديدة تجعله يسير إلى الأمام ولا يرجع إلى الخلف.
نمطية مسرح المؤسسة وصداه للجوقة السياسية
* هل هناك تراكم نوعي في النتاج المسرحي العربي؟أم أن هناك ـ فقط ـ تراكم يتم إنتاجه تحت الطلب، إما إرضاء للمؤسسة التجارية، أو خضوعا لأوامر وإيديولوجية هذه المؤسسة؟ما هو الدور التخريبي لديكتاتورية هاتين المؤسستين على الإبداع المسرحي العربي؟
- كل مسرح يأتي تحت الطلب، ويصنع في غرف التعليب ومسح الأدمغة، ويلبي دعوة الداعي الأيديولوجي ويفتح أذرعه ليتقبل الأوامر التي ترسم له موضوعه وشعاراته وخطاباته ووظيفته وأشكال طقوسه سلفا هو بكل المقاييس مسرح موظف له قالب محدد وموقع في السلم الإداري والسياسي للإيديولوجية التي تضعه تحت مظلتها.
هذا المسرح يوجد ضمن تراتبية واضحة ومستترة في العلاقات داخل المؤسسة المسيطرة التي ترسم له مصيره لتلغيه بعد أن يكون قد أدى دوره بالكمال والتمام على الوجه المطلوب، أو تقصيه حين يريد التمرد على نظامها القبلي. إن النتاج المسرحي لهذا المسرح المؤسساتي نجده يقتات من موائد المؤسسة الرسمية، إنه مسرح نمطي وإتباعي وصدى للجوقة السياسوية التي تجعل من المسرح واجهة إعلامية و دعاية إيديولوجية للإيديولوجيا المسيطرة.إن هذا المسرح يتحول بأوامر هذه المؤسسة إلى مفبرك للشعارات السياسية، ويتحول إلى مطبخ لصناعة الذوق وتحديد مستويات الإدراك والفهم و تحديد حدود الحلال والحرام والمباح والممنوع في التفكير حسب الباروميتر السياسي الذي يريد تدجين المتلقي بأصناف الكوميديات التي لا تينع وتزدهر إلا بعد صدمة الهزائم والانتكاسات والإحباطات والحروب المسلطة على الوطن العربي.إنه دور يريد أن يجعل المتلقي منتشيا بغيبوبته خارج الأنساق التاريخية والجمالية والأدبية التي بإمكانها أن تعرف بحدة صراع الثقافات في العالم بالمسرح وتقرب الناس من القيم الإنسانية في هذا الصراع.
مسرح المؤسسة بهذه الوظيفة يقوم على العرضي والهامشي والاستهلاكي، وكل خطاب يقدمه لا يعتمد إلا على ترويج إمكانات ترويض المتلقي مع الكائن والسائد في هامش يكون مركزه حضور المؤسسة التي ترسم مدارات وحلقات ودوائر يجب ألا يغادرها المبدع المسرحي إذا ما أراد أن ينال النعيم الوفير و الحظوة المريحة.
ضمن هذا التناقض الموجود بين هذا المسرح ونقيضه المسرح المبدع خارج المؤسسة المسيطرة يرتسم شكل الصراع بين أشكال الوجود الذي يوجد عليه هذان النقيضان اللذان لا يلتقيان، لأن المفارقات تحكم المسافة بينهما كبنيات أدبية وفنية وجمالية وحضارية وإنسانية.
هذا لا يعني أن المسرح خال من الحضور السياسي أو أنه بدون خطاب أو انتماء، العكس هو الصحيح.المفارقات بين هذين النقيضين تظهر في التراكم المسرحي العربي الذي تطغى فيه أشكال مسرحية تزين خطابها، وتلمع صورته وخواءه لإقناع المتلقي بجدوى شكل ومضمون أرى أنه مسرح استهلاكي وسلفي وفرصي تأتي قيمته من شباك التذاكر ومن وظيفته التنفيسية التي تركب على ما هو إيديولوجي لتفريخ خطاب النقد السياسي والنقد الاجتماعي وفق ما ترضى عليه المؤسسة التجارية وترضى عليه إيديولوجيا المؤسسات التي تبرر بكل الوسائل غاياتها للحفاظ على العلاقات ساكنة وثابتة لا تعرف التحول أو التغير.
* إذن اين يكمن الدور التخريبي للمؤسسة ( إذا لم يشكل الحديث عن هذا خطورة علينا)؟
- (ضاحكا) إن الدور التخريبي لمثل هذا المؤسسات في الوطن العربي هو إلغاء الاختلاف والتعدد، ومنع طرح الأسئلة في المجتمع، دور يظهر بارزا في كل المجتمعات التي تغيب فيها حرية التعبير والتفكير و الاجتهاد والحلم والجنون والعشق والتأمل بهدف إبعاد هذا المجتمع عن كل عقلانية حقيقية بها يبني قدراته لبناء الذات وبناء حضارة راقية أساسها الانفتاح والحوار والجدل.
بناء على هذا الطرح يمكن للناقد المسرحي وللباحث في موضوع المسرح أن يتتبع أشكال وجود المعرفة في المسرح العربي، ويعرف أشكال وجوده، ويعرف الكيفية التي يفكر بها المجتمع والمؤسسات والأفراد مسرحيا، وكيف تنضبط العلاقات داخل هذا المجتمع، وما هو هامش حرية التعبير وحرية التفكير و الاختلاف واللقاء والتجمع والفرح والاحتفال كحقوق تميز هذا المجتمع أو ذاك، وما هي المصطلحات وأشكال السلوك وقيمه التي تروج في زمن معين؟وكيف يتلقى المتلقي ما تنتجه هذه المؤسسات؟وهل القارئ مبدع للنص أم أنه مستهلك محايد يتم تنميطه وفق الأنماط المخطط لها سياسيا وإيديولوجيا؟
إن أخطر وضعية يعيشها المسرح في الوطن العربي هو تدجينه ليعيش بدون فعالية حتى يذوب في المعروف والسائد، أو يذوب كما يمكن أن تذوب الثقافة العربية والهوية العربية والذاكرة العربية والزمن العربي كله في سياسة العولمة التي تقوي وجودها بديكتاتورية لا تعترف بالاقتصاد الآخر، أو ثقافة الآخر أو بالمسرح الآخر، أليس هذا التدجين وهذه العولمة أعلى وأقسى وأشد ما وصل إليه الصراع في العالم، صراع يتقنع بأقنعة حضارية في الخارج، وبأقنعة سياسوية في الداخل لإلغاء الإبداعية العربية والحضور العربي في العالم؟
الإقصـاء والتحــريم
* إذا كان الفكر العربي مصابا بالسكونية لاعتماده على مظاهر الجاهزية الاستهلاكية، أو الاديولوجية ( السياسية ) أو على القمع الفكري أين تكمن حساسية الناقد ومسئوليته في النقد الفني في مثل هذا الواقع العربي؟
- ما يميز الفكر والثقافة العربية كونهما يمثلان بخطابيهما المقاربة الحقيقية لسيرورة المجتمع العربي، ويمثلان، أيضا، بأسئلتهما وبطروحاتهما وبنظريتهما الرؤية الحقيقية للذات وللعالم وللمواضيع التي يشتغلون عليها سواء تعلق الأمر بإنتاج خطاب نقدي في نقد الفكر الديني أو نقد العقل العربي، أو تعلق الأمر بالنقد الاجتماعي أو السياسي أو الفني أو الأدبي للكشف عن أزمة هذا الفكر وهذه الثقافة، أو تعلق الأمر بالوعي الضدي فيهما، الوعي الذي يمثل بحمولته الفكرية البديل الموضوعي للخطابات الاظلامية التي تحد من حرية التفكير.
ما هو أكيد أن غياب الوعي التاريخاني بمفهوم الدكتور عبدالله العروي، هو سبب وجود هذه السكونية المتخلفة وهذه الانغلاقية القاتلة التي تشد إلى الخلف ولا تترك آفاق التحول والمستقبل تنفتح على فعاليات جديدة وإمكانات فعالة تنقل المجتمع العربي من الصوت الواحد والرأي الواحد والمؤسسة الواحدة إلى المستوى المديني لإنجاز طفرة حقيقية في الوطن العربي فيه الجدل وفيه الحوار وفيه حرية الإبداع وفيه حرية الكلام والاستماع إلى نبض الوطن.
إن السكونية المستشرية في الوطن العربي تحمل دلالات تراجيدية، ودلالات أزمة وجود تنعكس في مظاهر الاستهلاك التي تشيئ الإنسان والمجتمع وكل العلاقات.
إن القمع الفكري الذي يصادر الكتب، ويمنع المسرحيات، ويخنق أنفاس القصيدة، ويحاكم الرواية، ويجعل المخالف رهين السكونية والمنفى والاعتقال، سلوك تمارسه أشكال سياسية بهذا القمع الفكري لإلغاء الفكر والثقافة التي تريد أن تفهم العالم.
لماذا المنع؟
لماذا التحريم؟
لماذا الإقصاء؟
الجواب هو أن كل مكونات المجتمع العربي لم تستطع أمام التحدي الذي يطرحه عليها تقدم العلوم والتقدم التيكنولوجي، وأشكال بناء المجتمع المدني الديموقراطي، أن تختار ما تحصن به كيانها، وتحتفظ بهويتها و وجودها من كل تبعية أو احتواء أو سيطرة أجنبية.وأرى أن أهم توجه يسير عليه هذا الفكر وهذه الثقافة، وكل الأجناس الأدبية العربية هو بداية التشبع بقيم التحديث، والإصرار على تغيير الصورة التقليدية للمجتمع العربي، وتحويل المعرفة إلى تقنيات عقلانية تسخر الوسائل للغايات لإخراج المجتمع العربي من هذا التطور الكمي الأفقي الذي يفرض عليه التبعية المطلقة للمجتمع الرأسمالي والاندماج فيه إلى حد الذوبان.
إن سيرورة التحديث، وفعل تفعيل المجتمع العربي هي الصيرورة التي تؤدي إلى الانفتاح على التقدم العلمي والعالمي في مجال الإنسانيان والمذاهب الفكرية في العالم حتى يتم ضبط المفاهيم، ويتم تدقيق الإشكاليات، ويتم ردم الهوة بين الحداثة والعقلنة التي بها يتم رسم الآفاق المستقبلية للمجتمع المتحرر للإنسان الحر في الواقع وفي الوطن الحر.
من هذه الرؤية، ومن هذه القناعات وهذه المفاهيم صار الجهاز المفاهيمي للحساسية الجديدة لدى الناقد المسرحي العربي مشتغلا بضرورة استحضار الأنساق وسياقاتها في نظرة شمولية للعالم، نظرة يكون فيها النقد الفني في الواقع العربي نقدا متخصصا يعرف عمق التناقضات وعمق المفارقات، وعمق الخصوصيات التي تميز الممارسة المسرحية في الوطن العربي، وهذا ما اقتنعت بفعاليته وبجدواه أثناء القراءة للظاهرة الأدبية العربية التي تتطلب ثقافة موسوعية للناقد ليكون بعد هذه الموسوعية متخصصا في ميدان اشتغاله. وفي كتاب "أسئلة المسرح العربي" وكتاب"إشكالية المنهج في النقد المسرحي العربي " وكتاب " قضايا التنظير في المسرح العربي "حاولت مقاربة هذه الحساسية الجديدة في المسرح العربي من خلال نظريات المسرح العربي، أو من خلال مناهج النقد المسرحي، أو من خلال مشاهداتـي للعروض التي قدمت في الوطن العربي فقدمت حولها قراءات خاصة في كتاب "خطاب التجريب في المسرح العربي ".وكتابي الأخير"التجريب في النقد والدراما"الذي رصدت فيه نطور الوعي النقدي المسرحي في الغرب وكيف انعكس ذلك على وعيي في قراءة التجريب المسرحي العربي.
الذات والآخر والهوية الحضارية
الوطن العربي والتفكير بالآخر وتفاعل التجارب المسرحية
* من أي زاوية يمكن تفسير أهمية قولك الذي يتكرر في كتاباتك إن الغرب وضعنا نحن العرب في طقسيته وفي إيقاعه الزمني، ووضعنا أمام إشكاليات ذاتنا وقدم لنا حلولا.هل وقع المفكر والفنان العربي في التباس و غموض أثناء محاولته تفكيك ميكانيزمات الحضارة الغربية أم العكس؟
- عبر التاريخ اتخذ الغرب في المفهوم العربي عدة مفاهيم ودلالات كانت تتلون وتتغير بتبدل المراحل والأحقاب والعهود التي كانت تمر بها العلاقات العربية والأوربية.لقد كان هذا المفهوم يأخذ معناه من شكل العلاقات المتكافئة واللامتكافئة مع هذا الغرب الذي يمثل شاطئا ماديا ومجازيا لهذه العلاقة، كما أن هذا الوطن العربي كان ـ وما يزال ـ يشكل ضفاف هذا الغرب وهدفه كي يصبح متبوعا ونموذجا وقوة مثالية تعطي لهذا التفاعل بعده في عملية الصراع والمثاقفة والاحتلال والاستعمار والاحتكار والحصار والتقتيل الجماعي للطفل وللشعب العربي ونخبته..
الغرب كان هو العالم المسيحي، وكان هو أوربا، وكان هو الغرب أيضا، وهو الاتحاد الأوربي، وهو التأشيرة.وهو القوة الاقتصادية والعسكرية والمنظومات الاشتراكية والرأسمالية، وهو التحالفات والتكتلات وتوحيد العملة، وإلغاء الجمارك والحدود.وهو الفكر والفلسفة والمسرح ومجال اختبار العلوم والتتكنولوجيا والفنون.هذا الغرب كان يستدرج الوطن العربي ـ بكل الوسائل ـ كي يدخل في زمانه وفي إيقاعه، وكلما كان الوطن العربي يريد الاقتراب من هذا الغرب كان هذا الغرب يضع العرب أمام إشكالياتهم في التخلف وفي الضعف وفي التبعية، وهو ما يتولد عنه سؤال رواد النهضة العربية، وسؤال المفكرين والفلاسفة فيما بعد لتخصيص حيز كبير من اهتمامهم لهذه العلاقة من خلال السؤال المتعدد التالي:من نحن؟ومن هو هذا الآخر؟.ولماذا لا توجد فرص متساوية في التطور؟
في هذا السؤال المتعدد ـ طبعا ـ بحث في الهوية وبحث في شكل الوجود، وبحث في نوعية العلاقة التي تحدد رؤية الغرب لنا، وتحدد مفهومنا لهذا الغرب.الغرب الذي روج فكره وثقافته وكل العلوم الإنسانية ومدارسه المسرحية ليضعنا أمام إشكاليات الذات العربية في جميع الحقول المعرفية والسياسية والاقتصادية والديموقراطية والتكنولوجية.
هذا التفكير بالآخر أثناء الحديث عن الهوية العربية وثقافتها وإبداعها هو تفكير في الخطاب الفلسفي والفكري الغربي فيما يسمى الثقافة العالمة التي مارست عنفها على مقومات التفكير العربي أو أنها عدلت منه فاستفاد منها في قول جديد يبدل صورته وهيأته ومعرفته بمعرفة الآخر الأقوى بتطوره المتنامي تكنولوجيا وعلميا وثقافيا وفكريا، وهو التطور الذي تتفاعل فيه هذه الأنساق و البنيات في بنية الغرب الذي كان يقدم للعالم وللوطن العربي حلولا لقضاياه حسب المصلحة العليا لهذا الغرب.
إن المقارنة بين هذا الآخر والنحن هي مقارنة بين أزمنة وإيقاعات ومسافات وعلاقات تحتم على قارئ هذا الغرب أن يفهم أن الغرب غربان الأول استحواذي ، أما الثاني فهو العالم المتطور في مختلف المجالات العلمية والتكنولوجية، فمع أي غرب سنتعامل؟
إن الوطن العربي لا يرقى إلى هذا الوعي التاريخاني الذي يخفف من وطأة التباس العلاقات ليتمكن من تفكيك ميكانيزمات الحضارة الغربية الراهنة التي هي وفي وجهها الأول قمعية تفرض شروط الحوار مع الأضعف بشروطها، أما الوجه الآخر للغرب فهو غرب التجريب والاشتغال بالعلم وبالعلوم كجهد إنساني ينضاف إلى حلقات الجهود الأخرى في أماكن أخرى في العالم.
لقد كانت مثل هذه الوضعية ومثل هذا الفهم تمد المثقف المسرحي العربي بقنوات حوار وتفاعل وفهم لا شبيه بينه وبين الحوار الذي يمارسه رجل السياسة أو الاقتصاد لأن المفكر العربي والمثقف العربي في المثقف المسرحي العربي كانا يبحث عن الجذور العالمية المشتركة التي توحد أسئلة المفكرين والمثقفين والفلاسفة لزرعها في سياقات ثقافية أخرى وتوظيفها في الفهم وفي التأويل وفي التغيير.
* إذاً اين هو الخلل بين الذات والآخر اعني بين حضارتنا والحضارات الأخرى؟
- في حضور السؤال النقدي، وفي المثاقفة، وفي محاولة فهم الغرب في هذا السؤال كان الحوار مع هذا الغرب دعوة إلى القطيعة، عند البعض، وكان في عدة مرات دعوة، عند البعض الآخر، إلى تفكيك مكونات الذات، ومكونات الآخر لإيجاد الجذور المشتركة، أو القضايا المشتركة التي شكلت التنظير الفكري والفلسفي والثقافي والفني العربي بغية الخروج بنبتة لها صفة الخصوصية، ولها أيضا سماتها التي تحصن الهوية والثقافة العربية من الضياع أثناء الحوار.
مسرحيا نجد أن كل المدارس الغربية، والمدارس والمناهج النقدية قد صبت تجربتها في التجارب المسرحي العربية والنقدية، وانتقلت إلى المجال المسرحي لتشتغل فيه ويشتغل بها، من التجارب من أخذ خصوصياته من التطبيق الواعي المحمل بالإضافات والاجتهادات، ومنها ما كرر ما قيل وما سطره أصحابها.إلا أن إزالة اللبس من أشكال المثاقفة لا يتم إلا إذا رجعنا إلى ما أعاد المسرحيون العرب إنتاجه، وتمثلوه تمثلا صحيحا لتوكيد خصوصياتهم في الخصوصية التي هي منطلق للعالمية بالصوت العربي وبالرؤية العربية وبالخطاب العربي الذي يقدم نفسه لا كما يريده الغرب أن يكون، ولكن كما يريد المبدعون العرب أن يجعلوه حمولة فكرية متحررة من الانبهارية المنفعلة أو الاستلاب بما عند الآخر/الغرب.
ومع كل هذا نقول إن الحضارة العربية قد نقلت في الماضي، إلى هذا الغرب، النظم والمدن والفكر والفلسفة وبعض العلوم، كما ينقل العرب اليوم من الغرب حداثته وإيجابياته وأشكال حضارته بوعي وبدون وعي، وهذا يؤكد أن في هذا الغرب شيء منا، كما أن هناك شيء أو أشياء من الغرب فينا.
المغايرة في المسرح لا تعني اختصار التفاعل في حب التقليد
* إذا كان الفكر الغربي بما فيه المسرح يخلق نوعا ثقافيا في حضارة غربية تحولت إلى كونية، هل ينعكس هذا على مستويات تفاعل المسرح العربي مع تجارب المسرح الغربي؟
- أؤكد مرة ثانية على وجود وشائج قوية ومتينة بين الفلسفة في الغرب والإنتاج المسرحي كنسق متفاعل مع كافة الأنساق الأخرى التي تشكل البنية الفكرية والفلسفية والتكنولوجية للحضارة الغربية, وهي الوشائج التي تزرع وجودها في رحم التطورات والانقلابات الفكرية والفنية التي يعرفها كل جنس أدبي وكل ثقافة في الغرب فتعمل هذه الوشائج على تفعيل هذه الأنساق تفعيلا قويا يكون محايثا لزمانها أو متقدما عنها أو رافضا لها. فمنذ سقراط وأرسطو، وكانط، ونيتشه، وهيدجر، مرورا بـ: برجسون، وألبير كامو، وجان بول سارتر، و المسرح يتحاور مع الفلسفة وينظر للمسرح من منظور فلسفي وجد تجسيده في كثير من النصوص المسرحية والنظريات المسرحية التي تناولت المسألة الجمالية من زاوية البناء النسقي وتصنيفاته، وأيضا من زاوية ممارسة كل فن على حدة.
وأهم ما يميز هذا المسرح في هذا الغرب هو تعدد مدارسه وتجاربه ودلالاته التي ترفض الكلمة لتعوضها ببلاغة الصورة، أو تحافظ على الكلمة كأساس للنص الأدبي في النص الدرامي، وببين رفض الكلمة وإبداع الصورة يروج المسرح بتجاربه، وينتقل بنظرياته وتجاربه إلى العالم منفلتا من الثبات والسكونية ليعلن عن تجدده ودخوله في الكونية.
طبعا وكنتيجة للتفاعل بين المسرح العربي والتجارب الغربية تبلورت تجارب مسرحية كثيرة استفادت من مناهج الإخراج المسرحي السائدة في الغرب عند أورين بيسكاتور، فزيفولد مايرهولد، ستانيسلافسكي، أليكساندر تايروف، جوزيف شاينا، بيتر بروك، آريان منوشكين، جان لوي بارو، جان فيلار وغيرهم كثير كما استفادت من أسس المسرح الملحمي الذي وجد التربة صالحة في بعض الكتابات العربية التي كانت تعبر عن أنواع الصراع السائد في مجتمعاتها، كما وجدنا الاستفادة من المسرح الطليعي ومسرح العبث.
إن مثل هذا التفاعل يتطلب قراءة متأنية لما أفضى إليه هذا التفاعل من تجديد وإضافات أو تقليد أو تكرار، أو تأويل أو قراءة واعية لخصوصيات الآخر /الغرب وخصوصيات النحن والعمل على تكوين خصوصيات خاصة بالوطن العربي.إن هذا التفاعل، ونقل تجارب الآخرين المسرحية إلى بعض الأقطار العربية، يجعل الكتابة الدرامية العربية محكومة بسؤال الكيفية التي يشتغل بها المسرح العربي اعتمادا على الأخذ والتمثل والفهم لإبداع المغاير.
المغاير هناـ طبعا ـ لا يعني اختصار هذا التفاعل في حب التقليد والمحاكاة، ونقل التجارب كما هي، ولا يعني أيضا مواكبة دهشة الإعجاب بالآخر والتماهي معه وبه دون سؤال نقدي، إن المغاير يعني الاستفادة من كل التجارب المسرحية الغربية والعمل على عدم إعادتها وترديدها وتكرارها، لأن التكرار كسل ينتج الضحل والعادي والسطحي والصدى.
المسرح العربي مرجع لذاته وموضوع للدرس النقدي
* هل نستطيع ان نحدد العلاقة بين الانعكاس والتفاعل والتي من خلالهما تتشكل علاقة المسرح العربي بالآخر؟
- عندما نقول الانعكاس فمفهومه لا يعني الانعكاس السلبي الذي يسقط المصدر والأصل على الكتابة المسرحية العربية لتتحول هذه الكتابة إلى استنساخ لصورة تبعد عن أصلها الذي كانت تعيش فيه لتصير صدى أو نقلا فوتوغرافيا لهذا الأصل.
الانعكاس مفهوم يرجع إلى الواقعية، ويعود إلى دعوة الأدب إلى الالتزام بالتعبير عن المرجع والأصل أو الحقيقة التي يقدمها الواقع والمجتمع والعلاقات.ومصطلح"تفاعل" يبقى الأكثر تعبيرا عن عملية التأثير والتأثر، الأخذ والعطاء، الفعل ورد الفعل.إن التفاعل حيوية ودينامية وحياة وإبداع واقع تتفاعل فيه الذات مع موضوعها أو مع واقعها المتخيل لإيجاد خيال موح ودال ومعبر عن غرابة الإبداع وفرادته.
وأتساءل في هذا السياق:هل يسمح لنا رصيد التجربة المسرحية العربية في ضوء هذا التفاعل بالمساءلة عن العلاقة الجدلية بين المسرح كمتخيل وبين المعطى الاجتماعي كواقع بعيدا عن كل انعكاس آلي باهت.
الواقع أن رصيد التجربة المسرحية العربية هو الذي يسمح لنا بوضع الانعكاس جانبا، والبدء من قراءة مكنون النصوص في خطابها المارد داخل تركيب مراوغ تنبجس منه إيقاعات الرؤى الجديدة بمواضيعها الجديدة وقد نسيت المرجع أو المراجع لتصير هي ذاتها مرجعا لذاتها، وموضوعا للدرس النقدي أثناء اشتغاله على بنياتها وشكلها وموضوعها.وبكل موضوعية يمكن القول إن تفاعل المسرح العربي مع تجارب المسرح الغربي بالشكل الذي نطرحه، هو ما يعطي لوجود هذا المسرح مشروعية أدبية وفنية وإنسانية لتيمة التفاعل والحوار بين ثقافات العالم.
إن المسرح العربي في هذه الحالة سيكون متلقيا لخطابات وتجارب متنوعة، فهل سيكون متلقيا باردا محايدا ومستهلكا ينقل ويعكس ما في المرجع؟أم أنه سيكون متقبلا مبدعا يبدع بثقافته وبوعيه الخاص والجمعي وبفكره كل إمكانات التجارب الأخرى لتصبح بصورتها وبصوتها العربي مسرحا عربيا بموضوعه وبأسئلته الخاصة في الإبداع وفي الكتابة وفي التلقي.
هذا ما دعا إليه سعد الله ونوس في "بيانات لمسرح عربي جديد"، وهو ما دعت إليه جماعة المسرح الاحتفالي، ودعت إليه كتابات عبدالكريم برشيد، إضافة إلى كتابات رياض عصمت وعلي عقلة عرسان وخالد محي الدين البرادعي وفرحان بلبل وممدوح عدوان، ومن الخليج العربي عبدالعزيز السريع والمرحوم صقر الرشود، وكتابات الدكتور إبراهيم عبدالله غلوم ويوسف الحمدان والدكتور خالد عبداللطيف رمضان، وعبدالقادر علولة ولنا أن نذكر تجربة نور الدين فارس "وقاسم محمد وعادل كاظم وجاسم العبودي و ابراهيم جلال من العراق وتجارب كثيرة لا تريد أن تختصر المغايرة والتفاعل بين المسرح العربي والثقافات الأخرى في حب التقليد.
توظيف التراث كمحفز للإبداع المسرحي العربي
* هل يمكن الحديث عن موت المسرح التراثي؟ وأين وصلت الدعوات لتحقيق واستمرارية التنظير لهذا المسرح؟
- كان دأب المسرحيين العرب، من خلال الدعوة إلى توظيف التراث دراميا في النص المسرحي العربي هو الدعوة إلى امتلاك هذا التراث، وامتلاك لحظاته القوية، واتخاذ إطاره الزماني والدلالي منطلقا لحركية الكتابة المسرحية، ومنطلقا لتحقيق جمالية الكتابة في النص المسرحي عبر الانفتاح عليه وعلى التراث العالمي.
وأعتبر أن المسرح العربي من أكثر الأجناس الأدبية العربية توظيفا للمادة التراثية بمستويات فنية يحضر فيها التزامن بين الأزمنة: الماضي والحاضر، والماضي والمستقبل، والحاضر والمستقبل وذلك حين يتم التصرف في المادة التراثية التي انتقى منها الكاتب المسرحي العربي إما التاريخ العربي، أو السير، أو القصص الشعبية، أو المقامات، والنوادر وحكايات الشطار والعيارين، أو الخرافات والأساطير والتصوف لكتابة النص الجديد.
لقد كان تعامل المسرحي العربي مع هذا التراث يسعى إلى إعادة آستلهام الماضي، ويسعى إلى توظيف هذا التراث ليس باعتباره شيئا جامدا، ولكن باعتباره علامات محفزة على طرح السؤال التالي:كيف يغدو التراث دالا بدلالات جديدة على الآن في سياق غير سياق الماضي الذي ولى؟وكيف يمكن زرع حيوية جديدة في هذا الانتقاء للتعبير بهذه الحيوية عن الحقيقي والمتخيل، أولا لأن هذا الحقيقي أزلي ودائم كتجربة إنسانية، ثم أن هذا المتخيل يأتي نتيجة تراكم الخبرات والتجارب الحياتية في التاريخ وفي الواقع وفي الوعي بالعالم مما يمهد للكتابة أجواءها وطقوسيتها الخاصة التي تولد التنوع في التعامل مع هذا التراث.
* في هذا الصدد لماذا يعمد الكثير من التراثيين لاستخدام التراث كما هو في المسرح؟
- عندما كان بعض المسرحيين الكلاسيكيين العرب يعودون إلى التراث ينقلونه كما هو، كانوا ينطلقون من قناعتهم الراسخة بأن "الأمة العربية" لا تستقيم إلا بما استقام به الماضي، وهي النظرة التي حافظت على تعاقبية الأحداث، وحافظت على سكونية السرد، وعلى الإطار الزمني لبهاء اللغة ورونقها وتركيبها وإيحاءاتها وصورها كما سطرها الأولون، فنقلها هؤلاء اللاحقون في مسرحهم كما هي دون تغيير في الغالب.
وهذه النوستالجية إلى الماضي، وهذا الحنين الرومانسي إلى الفائت المشرق والمزدهر والراقي في الماضي جعل العلاقة بين كتابة النص بالتراث تراثا ينطق بما في التراث بأمانة يتكلم فيها الماضي دون أن تفتح الكتابة عيونها على العصر لأن التراث هنا يعد قناعا للحديث عن الوطنية و الحديث عن القومية وعن النخوة العربية.
وهناك بعد هذه التجربة في التعامل مع التراث، كتابات مسرحية خلخلت الرؤِية الكامنة في هذا التراث، وعملت على تخطي الانفعال الآني والاندفاع المتحمس لهذا التراث، وعملت على الاستفادة من دورة الحياة ومن الحالات المشتركة بين الأزمنة لإبداع الزمن الجديد بفنية التركيب الجديد بين الأزمنة والأحداث والقضايا لامتلاك اللحظة التي يحيا فيها المبدع في زمانه، فكانت أحسن ملامح المسرح العربي مع هذه التجربة، هي تلك التي وهبها النص المسرحي العربي لعوالمه حين قلب موازين التعامل مع هذا التراث، وقلب شكل العلاقات والقراءة والفهم لهذا التراث، سيما بعد أن صار الوعي بالفكر القومي، والوعي التاريخي مستشريا في فعل الكتابة، بسبب انتشار الوعي القومي في هذا الوعي، وبسبب حرب فلسطين والنكسة، والانقلابات العسكرية الفاشلة، وانتشار المد اليساري والمد التحرري في الوطن العربي مما ولد خطابا سياسيا اتخذ من قناع التراث ـ هذه المرة ـ قناة لتمرير الخطاب السياسي الساخن والكتابة عما آل إليه الوضع العربي.
لقد تأسس إبداع التراث في المسرح العربي على هذا الوعي، وتأسست قراءته على القناعة القوية بأن التاريخ العربي ليس تاريخ السلاطين والملوك والمحظوظين والأثرياء والجلادين، إن التاريخ هو تاريخ الشعوب، والمستغلين والمستضعفين والمثقفين الذين يعتبرون ضمير الوطن والأمة والتاريخ، من هنا كتب عز الدين المدني بجمالية الكتابة العربية سؤاله في إبداعه متسائلا لماذا تفشل الثورات؟ فأجاب تراجيديا عن سؤاله في مسرحية:"ثورة الزنج" و"ثورة صاحب الحمار"، وكتب معين بسيسو عن "ثورة الزنج" وكتب نور الدين فارس"جدار الغضب"عن ثورة الزنج" وهناك من كتب عن "القرامطة" وهناك من كتب عن الهزيمة كما فعل عبدالكريم برشيد في مسرحية"عنترة في المرايا المكسرة" وكتب عن الانقلاب الذي أطاح بملك أب امرئ القيس في مسرحية "امرؤ القيس في باريس" وكتب يسري الجندي مسرحية "اليهودي التائه"، فكانت كل هذه الكتابات وغيره اشتغالا عن الكيفية التي يصبح فيها العبيد أسيادا والأسياد عبيدا والمثقف منفيا أو مغربا عن ذاته وعن وطنه بسبب المحاكمات التي يتعرض لها وهو ما قدم نموذجه صلاح عبدالصبور في مسرحية"مأساة الحلاج" ومحي الدين اللاذقاني في مسرحية:"الغرباء لا يشربون الفودكا " أوفي مسرحية" حصار القلعة"لمحمد إبراهيم بوسنة أو في مسرحية "الحصار " وةل فلسطين لزيناتي قدسية وحاتم علي أو مسرحيات "السجين 95"والشيخ والطريق"وفلسطينيات "و"عراضة الخصوم" لعلي عقلة عرسان وهي تراجيديات سياسية تتأسس على الواقعي وعلى التاريخي وعلى المتخيل وعلى التراثي.
إن أهم سمات الإبداع المسرحي العربي، في علاقته بالتراث، سواء تعامل مع التراث تعاملا أمينا كان ينقله كما هو إلى أجواء النص المسرحي، أو حاول في هذا التعامل قلب المفاهيم في هذا التراث، كلها سمات تؤكد أن هذا التراث لم يمت، وأن حياته الجديدة تتحقق في النص المسرحي العربي الحديث، وأنه تراث لا ينمحي ولا يموت لأنه جزء من الذاكرة الشعبية العربية، وأنه مكون أساس للتاريخ العربي المشترك.
الذاكرة الشعبية العربية والتراث خزان للإبداع المسرحي العربي
* ما ذا تعني هذه الذاكرة المشتركة في التنظير و الإبداع المسرحي العربي؟
- الشراكة تعني الملكية الجماعية لهذه الذاكرة ولهذا التراث الذي هو في تراكمه تراثات وأشكال وظواهر متعددة به يفكر ويؤدرم ويبدع الكاتب المسرحي العربي الدراما والسخرية والكوميديا السوداء يسيس الحالات التي تشع في الكتابة المسرحية ويؤنسنها كحالات إنسانية دافعت عنها كل النظريات التي نظرت للمسرح العربي لتوظيف مفردات هذا التراث وتقنياته وأشكاله وعمقه وقالبه المسرحي في احتفالات تنكتب بخصوصياتها في التنظير وفي الممارسة.
هذه الممارسة تنقل الظواهر الشعبية من تلقائيتها الشعبية لتضعها في تلقائية جديدة تبدعها لغة الحوار الجديد مع الحكواتي والسامر والمداح والحلايقي والمحبظاتية والقوال والراوي كأشكال تبني التواصل مع المتلقي العربي بتلقائية شاعرة منفتحة على جماليات السرد العربي، ومنفتحة على الذاكرة الشعبية والوعي الجمعي للكشف عن البعد الإنساني في هذا التراث.لقد عملت كل النظريات المسرحية العربية على الدعوة إلى إعادة إبداع التراث إبداعا يعطيه كينونة جديدة. وجدنا ذلك متحققا مع فرقة مسرح الحكواتي في لبنان التي عادت إلى هذه الذاكرة في مسرحية"أيام الخيام" و"من أحداث 1936 "وكتب سعد الله ونوس بعد بياناته في التنظير المسرحي نصوصا تعود إلى التاريخ والتصوف في " طقوس الإشارات والتحولات"و "ومنمنمات تاريخية"و"الأيام المخمورة" ووجدنا جماعة المسرح الاحتفالي تصدر سبعة بيانات تدعو فيها إلى إرساء قواعد مسرح عربي بمادته وتراثه عمل عبدالكريم برشيد على ترجمة هذه الدعوة إبداعيا في مسرحياته التي استلهمت التراث فاستحضرت عنترة، وامرؤ القيس، والمتنبي، وشهرزاد، وشهريار وجحا وعطيل وفاوست ونرسيس وابن الرومي لكتابة التراث كتابة تحبل بالرؤية الجديدة للواقع بالتراث، وتحبل بالتراث الذي يحبل بالواقع، ومثل هذه الدعوة وجدناها عند كل من الدكتور علي الراعي وفي "الكوميديا المرتجلة"، وعند توفيق الحكيم في "قالبنا المسرحي" وعند الدكتور يوسف إدريس وعز الدين المدني وجلال خوري وبيان مسرح المدينة في بيروت مع نضال الأشقر، وما كتبه يعقوب شدراوي وعصام محفوظ..
بكل تأكيد أن المسرحيين العرب يدافعون بقوة عن الدعوة لإيجاد مسرح عربي، أحيانا يجدون في الدعوة إلى التراث والتمسك به قوة دافعة لرسم ملامح وهوية هذا المسرح المبحوث عنه للوصول إلى هذا الشكل، وأحيانا أخرى يجدون في التراث الإنساني مصدرا لإبداعهم للوصول إلى مضمون حي لهذا الشكل الذي يبقى دائما شكلا يحتاج بهذا التراث إلى موضوع، ولكنه شكل يحتاج بالضرورة إلى فكر وإلى فلسفة تمنحه رحابة السؤال الوجودي في الكتابة الدرامية العربية.
النص المسرحي العربي بين النص المكتوب للقراءة والعرض
* أنت تؤكد كثيرا على بناء النص لإنتاج الخطاب المسرحي البصري، وتؤكد على أن أزمة المسرح العربي تكمن في النص، بمعنى أن دينامية النص وعدمها مرتبط بإشكالية اللغة الأدبية بدل اللغة البصرية.هل تعتقد أن النص يجب أن يكتب للمشاهدة وليس للقراءة؟
- إلغاء النص الدرامي المكتوب، وإقصاء اللغة المنطوقة، وتقليص حضور الحوار أو إزالته نهائيا من العرض، كلها خصوصيات لمسرح الصورة في الغرب الذي صار هو الدال على مدلول العرض، والدال على ما وصل إليه هذا المسرح من مستويات في التجريب، وصار أساس التواصل القائم على الكتابة في الفضاء بالجسد كعلامة، والكتابة بالتشكيل الضوئي كعلامات، والتشكيل بالرقص والإيماء والحركة كعلامات تبني المشاهد ببرنامج سردي صامت لا تتكلم فيه إلا الحركة القائمة على سيناريو العرض، والقائمة على التقطيع، وعلى تشكيل الوحدات الأساسية للقطات التي تستطيع إطالة الزمن أو تقصيره في الصورة أو في الصور المتلاحقة في العرض.
إنها العملية التي تعتمد على التقنيات السينمائية وعلى التقدم التكنولوجي الذي يجعل الصورة أساس العرض، وأساس التجريب وأساس إنتاج وإرسال جميع المعاني إلى المتلقي في نفس اللحظة.
وهي العمليات التي تجعل من هذا النوع من المسرح وهذا الشكل من التجريب محكوما بآنيته وموته بعد حياته في العرض مما يجعل الذاكرة البصرية هي التي تتكلم عن بقايا العرض كملامح وكجماليات لا يمكن إعادة بعثها وإحيائها، وهذا ما يجعل من هذه العروض موضوعا للمنهج السيميولوجي أثناء دراسته للعلامات، وهو أيضا ما يجعل هذه العروض منفلتة من كل تحديد داخل سياق إلا سياقها الذي صار ينتمي إلى الماضي وإلى زمن الفرجة الذي ولى.
إن هذا المسرح البصري في الغرب الذي يعتمد ـ فقط ـ على الصورة هو امتداد حتمي للتأثير السينمائي والتلفزيوني على عملية الإنتاج المسرحي في الغرب، إنه يعد مولودا شرعيا لما طرأ على عملية التواصل في العالم حيث صارت الصورة ـ بامتياز ـ إبداعا يختصر المسافات التي تمتلكها اللغة المنطوقة أو ما كانت تقوله هذه اللغة بمستوياتها الصوتية والتركيبية والدلالية والبلاغية.
* وفي المسرح كيف ترى العراقة بين اللغة الأدبية ولغة الصورة؟
- في عالمنا العربي، الذي يقال عنه إنه ظاهرة لغوية، لا يمكن أن نتحدث عن هذه الظاهرة فيه إلا في بعدها واشتغالها المتداول في الإبداعية المسرحية العربية، أي نتحدث عن اللغة كظاهرة إبداعية تركب دلالاتها وأصواتها وبلاغتها في النص الإبداعي المتخيل الذي ينغرس بخصوصياته في الخصوصية العربية اللغوية، وهو ما يؤكد وجود نصوص تمتلك قدرتها على الإبداع و على التحكم في كينونة وجودها مما يبعد عنها كل نعت أو صفة تصفها بالقصور أو التكرارية أو الهشاشة في إنتاج المسرح اللغوي الناطق.إنها النصوص التي تفك دوما أسرها من المؤسسات الإعلامية، وتبني لغتها في الدراما لتصير ديوان العرب المسرحي.كما تحقق ذلك في التجريب المسرحي السوري والمصري واللبناني والعراقي والمغربي.
والجدل الدائر حول بناء النص الدرامي العربي لإخراجه من أزمته التي هي أزمة وجود بالأساس كان وراء التنظير إلى الكيفية التي بها يمكن جعل هذا النص يراهن على إشكالية اللغة العربية التي نعتها بعض الباحثين بأنها قاصرة لا تستطيع الدخول إلى تراجيديا الوجود العربي والإنساني لأنها لغة قدرية استسلامية لا تعرف صوغ السؤال الوجودي، ثم أن هذا النص يراهن على التميز بلغته ليخاطب المتلقي العربي الذي يتذوق الشعر والحكمة والحوار والتطريب سماعا وقراءة وتمثلا وفهما، فكيف بهذا المتلقي لا يرتبط بالنص المكتوب والمسموع كجزء من ثقافته وموروثه الحضاري؟
من هذا المنطلق أرى أن وجود المسرح يتكون من شقين:الأول النص المكتوب للقراءة والذي هو مشروع العرض المسرحي الذي يضم الحوار والإرشادات المسرحية والشخوص، النص الذي بدأ التجريب في الغرب يرفضه كعائق يعوق التطور والإبداع المسرحي، لكن هذا النص سيظل الأقدر على أن يبقى نتاجا أدبيا ينضاف إلى باقي الأجناس الأدبية الأخرى، أما الشق الثاني فهو هذا النص الذي يتحول إلى عرض يتسم ـ كما قلت ـ بآنيته، ومحكوم عليه بالزوال بعد الانتهاء من عملية المشاهدة والتلقي.
من هذه القناعات، يجئ تشبثي بالنص المسرحي العربي المكتوب لأنه نص يكرس الحوار المفقود في الواقع العربي، نص بإمكانه أن ينشر القول الراقي وقيم الاستماع إلى الذات وإلى العالم، ويبني ثقافة الاختلاف والبناء الذي يوحد بين ما هو أدبي في النص المكتوب باللغة وبين ما هو فني في العرض.
لهذا يمكن الجمع بين التجربتين، الأولى الإبداع في النص الدرامي كنص للقراءة، ثم الإبداع في نص العرض كنص للمشاهدة، وهذه هي التجربة الحقيقية ـ في نظري ـ التي تستجيب لخصوصيات الوطن العربي الكبير.حتى يظل النص الدرامي المكتوب موضوعا لدراسة أشكال الوعي والتحول في الوطن العربي، يقول قوله، ويبوح بما لا تستطيع الخطابات المتداولة الإفصاح عنه.
التفاعل والحوار في المسرح العربي نقيض السكونية
تكمن إشكالية المسرح العربي في ثبوتيته و سكونية أسئلته.ويعتبر هذا بالتأكيد خطورة كبيرة على المسرح لأنها خطوة تدخل ضمن منطق جاهزية الفكر عموما.أسألك من هذا الطرح:أين تكمن ديناميكية المسرح العربي؟
- لا أريد تقديم أحكام جاهزة في إجاباتي، لكن الديناميكية هي نقيض السكونية، ونقيض تكرار الأنساق السابقة والمغلقة.إن الديناميكية حيوية متدفقة تسير نحو المستقبل لتجاوز اهتراء البنيات المكونة للمادة الأدبية في النص المسرحي العربي، وهي حيوية تمتلك رؤيتها المتحركة حين تتمثل في إبداعها دهشة المتخيلة، وتتمثل غرابة المتخيل المسرحي الذي يصير بالضرورة الضفة الأخرى للواقعي حين يقدم واقعا يمسرح به أشكال الصراع والتناقض بين الذات والآخر / الغرب.
إن المقاربة النقدية لواقع المسرح العربي تؤكد على أن إشكالية هذا المسرح تكمن في كونه يعيش موزعا بين سلطتين متناقضتين، الأولى مهمتها إقصاء الإبداع من الإبداع ومحاصرته وتطويقه وحذف "أصالة" التحديث في تجريبه.أما السلطة الثانية فهي نقيض السلطة الأولى، إنها المد الجديد نقيض كل ثبوتية قاتلة، ونقيض النفي والإقصاء الذي يتعرض له الفكر العربي، ونقيض الأجوبة الجاهزة والفكر الإظلامي المتحجر، إنه الفعل الحضاري المثقف الذي تقدم مشاريعه الكتابة المسرحية العربية كتابة وتنظيرا ونقدا بوعي حضاري.وفي هذا البحث تكمن الدينامية المتجددة لخطاب المسرح العربي بكل تنوعه وغناه.
* أنت كباحث وناقد تابعت مسار المسرح العربي نصا وإخراجا ونقدا من خلال مجموعة من المقاربات النقدية جعلتك تؤكد في خطابك النقدي أن المسرح العربي مسارح، والكتابة المسرحية العربية كتابات، أما أسلوب الإخراج فأساليب.هل هذا يعني أن التجريب المسرحي يتفرد بلغته الخاصة؟وأين يكمن التجريب في المسرح حتى يتفرد بلغته المسرحية؟
- المتابعة النقدية لهذا المسرح في ممارستي النقدية هدفها التعرف على أسئلته المعاصرة والملحة ورهاناته وانتكاساته وهي في الحقيقة مكون أساس من مكونات وجوده. هذه المتابعة للظاهرة المسرحية بهذا الشكل دفعتني إلى القول إن مكونات المسرح العربي وأشكال الوعي بالعلاقات المتصالحة مع الذات أو المضادة للغرب كلها عوامل كانت تسهم في بلورة تعدد المسرح العربي في اختلاف لا يهدف إلى إقصاء هذه المكونات أو تذويبها في متاهة اللامعنى، أو جعل الخطاب المسرحي العربي رهين قول واحد وحبيس مستوى واحد وسجين خطية واحدة في الكتابة وفي الرؤية. إن المسرح مغامرة تراجيدية تشمل البناء والأسلوب واللغة والشكل وكل مكونات العالم الدرامي في النص، وإدراك المسرح العربي الحديث لهذه العلاقات وغيرها من العلاقات هو إدراك للعلاقة الموجودة بين الواقع وبين الخيال، بين الكاتب المسرحي وعصره. وعندما أؤكد أيضا على القول إن المسرح العربي مسارح وأن التجريب فيه تجارب، فهذا يعني أن مستويات اشتغال الانزياحات التركيبية في النص المسرحي العربي يجب أن تقاس بما يتفتق به المتخيل الدرامي العربي من مستويات في الكتابة من خلال الطاقات الإيحائية المعتمدة، تعطي لهذا المسرح أصواته المتعددة في إبداع بوليفوني تتعدد ملفوظا ته لممارسة أشكال مختلفة من التخيل السردي في الكتابة.
* إذا كان خطاب التجريب في المسرح العربي يشكل مغامرة أدبية وفنية، ما هي إذن آفاقه النصية والفكرية؟
- بكل تأكيد أن المسرح العربي المثقف، المجرب المغير الذي يتغير، يعيش تجدده المتجدد في المناخات التي يعيش فيها لأنه يعيش لحظات الولادة في إبداعه الذي يهدم المسرح كي يبني المسرح.
فخطاب التجريب لم يأت من فراغ معرفي أو من ترف فني وفكري لا يهمه تأسيس خطاب للمسرح العربي.إن التجريب المسرحي بهذا التجريب يسعى إلى تحقيق هوية وأصالة لهذا المسرح وهو يتعامل مع ملحمة جلجامش وقصص القرآن، وألف ليلة وليلة، والتاريخ، والأساطير اليونانية، والحكايات الشعبية العربية كمناجم تعطي لخصوصية المسرح العربي قوته وإصراره على تجويد تجريبه وإتقانه دون تقليد أعمى للمدارس.
عن (إيلاف)
الأربعاء 01 يناير 2004