التقيته ذات ليل هنا، في هذه القرية، أصيلة بالمغرب التي تلتف بإصرار على نفسها في مواجهة الاقيانوس اللانهائي أو بحر الظلمات كما تسمّيه العرب. هذا الأوقيانوس الذي يسكن بشكل ما القرية ويتغلغل في أحلام أهلها رامزا للأبديّ، والموت، واللانهائي، للذهاب الى اللامكان.. تبعته في أزقة ضيقة، متعرجة، تضيئها قناديل برتقالية متباعدة، كانت أصوات البحر تأتي من وراء الجدران السميكة مالئة الليل، رتيبة الإيقاع. وقلت في نفسي: سأسمّي هذه الليلة، " ليلة البحار الهادئة ". في الطريق حدثته عن كتابه "أقاصيص من روما"، ذكرته ببعض ما فيه، فقال لي: نشرته سنة 1940 ويحوي 170 قصة.
قلت له: ان مختارات منه ترجمت للعربية أنا قرأت اقل من هذا العدد بكثير. دخلنا البيت الذي ينزل فيه وهناك كاشفته بأسئلتي قلت له:
- كيف يتحدد لديك المشهد العربي، ماذا تعرف عن أدبنا وثقافتنا؟
الأدب العربي لا أعرفه، هناك ترجمات قليلة في الإيطالية لهذا الأدب إما العالم العربي فأمري يختلف معه، فقد كنت زرت المغرب والجزائر وتونس وليبيا وسوريا واليمن بشقيه والسعودية والكويت والإمارات وعندي علاقات بالثقافة العربية علاقات سفر أثارتني جدا.
- وما الذي أثارك في هذه الثقافة ؟!
إنها ثقافة عظيمة تشهد تحولا وتغيرا إنها تعيش الانتقال هذه الثقافة المتوسطية الشرقية التي كان لها تأثير كبير في الماضي حتى على ايطاليا، والشيئان الأساسيان بين هذه الثقافة اليوم هما:-
- ان هذه الثقافة تعيش تحولا من ثقافة زراعية حرفية تقليدية الى ثقافة حديثة صناعية.
- ظاهرة البترول الذي يلعب دورا مهما وخطيرا بالنسبة للعرب اليوم.
- تتحدث عن تحول الثقافة العربية إلى ثقافة صناعية، هل تعتقد أن الغرب مثال ونموذج مستقبلي للعرب؟
بدرجة ما، نعم. هناك أشياء يجب تقبلها من العالم الغربي، الغرب لا يرفض في مجمله، نأخذ السعودية كمثال، لقد حضروا بلدهم دون تغيير البني التقليدية، هناك جوانب مقبولة من الغرب وهناك أشياء مهمة الديموقراطية لابد من أخذها رغم ان أصلها من العرب، فقد جاءتنا في عصر النهضة ثم اعتقد إننا ماضون في حضارة كونية ستأخذ زمنا، والثقافات القومية تمضي نحو الاضمحلال.
- إلا ترى ان هناك حركة عودة نحو الجذور، واحتمـاء بالثقافة القومية، من إيـــران حتى أمريكا اللاتينية؟
يجب ان نرى الأمر كالتالي: في ايطاليا أول هذا القرن كانت هناك حركة نحو الأصول، نحو الجذور بقيت 20 سنة ثم اضمحلت.. دائما في التاريخ هناك حركة ثورية، حركة مد يعقبها جزر. في هذا التاريخ المعاصر ما هو مؤكد ان الجماهير ماضية في اكتساب الثقافة، نحو ديموقراطية الثقافة والثّورات الكبيرة التي ذكرت كإيران أو الصين هي حركات تمضي نحو العالم الحديث ! ومع إنها تبدو ماضية نحو الخلف لكنها تسير نحو الحداثة وتتقدم، شيئان مهمان في حركة الجماهير في عصرنا، قد يطغى احدهما على الآخر: الاشتراكية والقــومية. الأول يطغى على الثاني والعكس، في إيران القومية أخذت مكان الاشتراكية لقد عشنا هذا في ايطاليا منذ 20 سنة.
- لننتقل الى الرواية ! أنت كروائي غربي كيف تجد روايات الثقافات الأخرى الرّوايـــة الغربيّة متجانسة مع المعارف الغربية. ألا ترى أن رواية أمريكا اللاّتينية تقدم بنى جديدة خارج عالم الغرب؟
صحيح، الثقافة الغربية متجانسة.. تذكرت سان جون بيرس عندما أنشد في رائعته الملحميّة آناباز احتفاءا بوحدة الرّوح التّاريخي الغربي منذ اليونان:
.... إنّهـــا نفس الموجـــة منذ طروادة.
قرأت له المقطع الشعري فنظر إلي وواصل:
ما أعرفه من آداب أمريكا اللاتينية انه لابد لها من الاهتمام بالشعب، إنّها رواية القواعد الاجتماعية الهشة،، رواية الغرب تجاوزتها موضوع رواية الغرب في القرن 19 كان الفرد في مقابل المجتمع ، اليوم صارت الرواية الغربية تتركز على الفرد في مواجهة نفسه،، والمشاكل الاجتماعية اقل حضورا ، وحدّة ، وكذلك الصراع الطبقي،،تعكــس الرواية الغربية اليوم حالة شكلانية،، رواية أمريكا اللاتينية وأفريقيا تقص الحياة الاجتماعية . أنا قرأت روايات افريقية كثيرة، من النادر ان تجد رواية افريقية تخلو من معالجة المجتمع. هناك دائما القرى، الاستعمار، العائلة والمجتمع، في أوروبا اختفت هذه الاهتمامات؛ إنها اهتمامات القرن الماضي، الرواية عندنا صارت تقنية.
- كيف تجد رواية "مائعة سنة من العزلة" لماركيس؟
مائة سنة من العزلة، رواية طبيعية (نسبة للمدرسة الطبيعية في الأدب و الفنّ) جميلة، خاصة القسم الأول
- منذ بول فاليري بدا الحديث عن موت الشعر، ومنــذ ســـنوات أعقبه حديث عن موت الرواية أيضا ماذا تقول؟
الرواية ليست في أزمة، الروائيون هم المتأزمون، إنها نوع سيستمر. أرى ان الناس في حاجة دائمة الى قصة ورواية تاريخهم، وتجاربهم، ومغامراتهم. رواية القرن الماضي ماتت حيث الواقعية الطبيعية. فالمدارس هي التي تموت؛ ولا اعتقد ان الأدب يموت؛ الأدب سيستمر.
- والرواية الإيطالية، اليوم؟!
هناك روايات كثيرة متقدمة ومتطورة كقصص وسرد تصعب ترجمتها عادة تكون هذه القصص مكتوبة بلغة أدبية جدا عندنا أدباء مهمون لا أستطيع تذكرهم نحن ننسى دائما المهمين الكآبة ـ أنت حزين ؟! ـ نعم أنا كئيب،، اعتقد ان الحياة لها خلفية تراجيدية نعم أنا حزين بل أحس بالمرارة،، عمق الحياة حزين،، لقد عشت في عصر لم يكن متفائلا كانت هناك حروب لو عشت في القرن 19 لكنت أحسن هول الحرب.
- في القرن التاسع عشر كان هناك "مرض العصر" كان غوته، و بطله فارتير السوداوي المنتحر؟
وتوقف قليلا عن الكلام ثم واصل:
اليوم نحن مهددون بالذرة رؤية الحرب مرعبة أريد ان أنسى هذه الأشياء يوجد 56الف قنبلة ذرية في مخابىء بلاد العالم كل هذا يجعلني حزينا اكره العنف والحرب خاصة نتائجها، الحرب في حد ذاتها قد تكون مقبولة، جندي في مواجهة جندي لكن المرعب هو ما يأتي بعدها الإحساس بالإحباط إنها تقضي على معنويات المجتمعات، الحروب المعاصرة يقتل فيها الأطفال والنساء، بكلمة أخيرة يجب ان ننهي الحروب.
- ماذا تكتب؟
ائما أكتب رواية ما. أنا روائي. و حاليّا لذيذ رواية سأنهيها. و لن أحدّثك عنها