تونس إيلاف: بمناسبة صدور كتابه الجديد بعنوان "العولمة من منظور عربي" ضمن سلسلة "المعرفة للجميع" عن منشورات "رمسيس" بالرباط/المغرب، التقينا الأستاذ د. الحبيب الجنحاني بمنزله العامر بتونس العاصمة، لمزيد الحديث عن معضلات العولمة ومشكلات الصراع الحضاري بين العرب والغرب، فكان هذا الحوار: * كثر الحديث في الآونة الأخيرة، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أيلول 2001 في منطقتنا العربية، عن حوار الحضارات، وصدام الحضارات. ويبدو لي ان العرب مرة أخرى يدخلون نفق النهل من الغرب والسير على منوال ما يريد الغرب نفسه أن نفكر فيه خدمة لمصالحه. أسألك، هل يجب أن نتعلم من الغرب كل شيء؟ أودّ أن ألاحظ بداية أن اختلاف الرؤى واختلاف الحضارات وتميزها بعضها على البعض الآخر ظاهرة عرفها تاريخ المجتمعات البشرية منذ عصور الحضارات القديمة، من الحضارة الصينية إلى المصرية إلى حضارة بلاد وادي الرافدين ثم الحضارة العربية الإسلامية وصولاً إلى الحضارة الحديثة التي أصبحت تعرف اليوم بالحضارة الغربية. وهذا أمر طبيعي، لأن لكل حضارة ميزاتها وسماتها الخاصة بها. وهذه الميزات تأثرت في الماضي وفي العصر الحديث بالعامل الجغرافي والديني والاقتصادي واللغوي، إلخ... من العوامل التي تعتبر أسسا لحضارة ما. لكن في الوقت نفسه، لا بد من تأكيد ظاهرة عرفها تاريخ الحضارات، وأعني بذلك ظاهرة التأثر والتأثير ما بين هذه الحضارات المختلفة، فلا نعرف في التاريخ حضارة كانت منعزلة عن الحضارات التي زامنتها أو التي سبقتها أو التي جاءت بعدها. فطبيعة الحضارة أن تكون متفاعلة تؤثر وتتأثر. لكن ما الذي حدث منذ القرن التاسع عشر بصفة خاصة، أعني بعد نمو الرأسمالية وظهورها كقوة لا ترتبط بالحضارة الغربية فحسب بل كحضارة عالمية؟ الذي حدث هو أن هذه الحضارة الغربية وهي الحضارة الحديثة وبالرغم من أنها في رأيي نتاج حضارات بشرية متعاقبة، بالرغم من ذلك فقد نجح الغرب في أن يسيطر على هذه الحضارة ويعتبرها حضارته الخاصة، ومن هنا جاء وصفها بالحضارة الغربية. تزامنت قوتها وإشعاعها مع دخول حضارات قديمة في ذمة التاريخ أو ركود وضعف حضارات أخرى بالرغم من أنها حضارات حية مثل الحضارة الغربية الإسلامية. وهكذا نستطيع أن نقول إن الحضارة الحديثة التي ظهرت بوادرها الإيجابية مع عصر الأنوار في القرن الثامن عشر ميلادي، أخذت طابع حضارة كونية وأصبحت تمثل نموذجا وقدوة للشعوب الضعيفة وهي بحكم ضعفها أصبحت تحت سيطرة الرأسمالية العالمية منذ القرن التاسع عشر بالخصوص، إلى عصر العولمة اليوم. لكن لا بد في الوقت ذاته أن نبرز وجهين لهذه الحضارة الغربية التي أصبحت كونية كما ألمحت قبل قليل. * وما هما هذان الوجهان؟ وجه بشع ورديء ويتمثل ذلك في (المآسي التي تسببت فيها الرأسمالية الغربية وخصوصا بعد بلوغها نهاية القرن ومرحلة الإمبريالية وأعني مآسي الحروب الاستعمارية وحربين عالميين. وهناك الوجه الآخر لهذه الحضارة وهو الوجه المشرق والمضيء، وجه الحرية والتقدم السياسي والمعرفي واحترام المؤسسات الدستورية وحقوق الإنسان وغيرها من المسائل التي جعلت الحضارة الغربية قدوة لكل الحركات النهضوية والإصلاحية التي عرفتها مجتمعات البلدان النامية والعالم الثالث وحتى أمريكا اللاتينية. وتعليقا على الإشارة إلى ما تفضلتم به من الحديث حول صدام الحضارات، فإنني حريص على القول إن رواد الحركات الإصلاحية في الوطن العربي منذ منتصف القرن التاسع عشر ثم بعد ذلك خلال النصف الثاني من القرن العشرين قد ميّزوا تميّزا واضحا بين وجهي الغرب المشار إليهما أعلاه، فهم كانوا يُقاومون الاستعمار الغربي وأساليبه في استغلال البلدان العربية وغيرها ولكنهم في الوقت نفسه حاولوا الإفادة من الوجه المشرق الذي ميز الحضارة الغربية. فدعوا إلى مقاومة الحكم المطلق الاستبدادي واحترام الحريات، وإنشاء الدساتير والانتخابات البرلمانية التي عرفها الغرب. * هذه في الحقيقة مداخل تاريخية للقضية المطروحة اليوم. فماذا يعني الحديث الآن ونحن في بداية الألفية الثالثة عن صدام الحضارات؟ إنني أعتقد أن الحضارات لا مناص لها ولا بديل عن الحوار سواء أدّى هذا إلى الاتفاق أو إلى الاختلاف. فإذا رفضت حضارة ما الحوار أو تقوقعت أو انغلقت فإنها تحكم على نفسها بالتهميش في عالم اليوم. أما الصدام فإنه قد يقع بين نظم سياسة مختلفة أو إيديولوجيات مختلفة وقد تقع أيضا بين عقائد دينية مختلفة وربما بين مذاهب داخل الدين الواحد كما هو الحال بين الكاثوليك والبروتستانت في إيرلندا اليوم. أما الصدام بين الحضارات فأنا أعتقد أنها إيديولوجيا جديدة نظر لها الغرب بذكاء من أجل فرض سياسة دولية جديدة. وهذا يذكرني برأي كتبتهُ ونشرتُهُ سابقا ملخصه إن المتتبع لتاريخ الرأسمالية منذ بروزها يلمس بيسر أنها تحتاج دائما إلى عدو حتى ولو عمدت إلى خلقه من عدم. فهي قد شغلت بالشيوعية عدوّا لها أكثر من سبعين سنة أي منذ الثورة البولشيفية عام 1917 إلى سقوط الاتحاد السوفياتي. وظن بعض المحللين السياسيين أن الرأسمالية ستعبئ جهودها السابقة وهي جهود عسكرية ومالية جبارة والتي كانت وجهت ضد المعسكر الشرقي سابقًا، ستعبئ هذه الجهود من أجل تنمية البلدان المتخلفة اقتصاديا والتكفير عن ذنوبها ضد شعوب الجنوب. ولكن سرعان ما تبين إن هذا التحليل كان خاطئا. وبالعكس، فقد انحدرت الليبرالية المعتدلة التي عرفناها في أوروبا الغربية في الستينات والسبعينات وحلت محلها الليبرالية الجديدة المتطرفة، وقد نجحت في أن تجعل من العولمة إيديولوجيتها رغم ما في ظاهرة العولمة من جوانب إيجابية لا بد من التأكيد عليها. وعوض أن تكون العولمة ظاهرة كونية مثل الحداثة لتفيد منها جميع الشعوب، اتخذتها الليبرالية الجديدة إيديولوجية لها، وَسَعَتْ بكل وسائلها الحديثة، وفي طليعتها وسائل الاتصال الجبارة، لتجعل منها إيديولوجيتها، ولتفرض أصولية جديدة لا تقل خطورة عن الأصوليات الأخرى، وأعني بها "أصولية السوق"... وهذه الليبرالية المتطرفة هي التي تتبني اليوم شعار "صدام الحضارات" باعتباره ركيزة أساسية من ركائز النظام الدولي الجديد الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية اليوم. صدام الحضارات إذن هو إبراز لعدوّ جديد لا بد من مواجهته [من وجهة نظر الغرب طبعا] وخاصة الحضارة العربية الإسلامية والحضارات الآسيوية. * ولكن لنكن واقعيين، فهل هذه الحضارات التي ذكرتها، في منزلة المكافىء للحضارة الغربية؟ ولماذا يخاف الغرب أصلا من حضارات خارج الفاعلية؟ ليس خوفا ماديا من الحضارة العربية الإسلامية، على سبيل المثال، بل من مستقبلها، وليس من ماضيها فقط أو حاضرها، إذ لا بد من مواصلة السيطرة عليها والتحكم فيها وخاصة في ثرواتها ومواقعها الاستراتيجية، ولكن بأسلوب جديد ليس هو الاستعمار المباشر في القرن التاسع عشر، وإنما بأسلوب جديد. * من هنا يأتي السؤال، لو سمحت لي دكتور، كيف المدخل إلى هذا الأسلوب الجديد؟ هذا المدخل يتمثل في تضخيم هذه الحضارات وإظهارها وإظهار شعوبها باعتبارها شعوبا تهدد مكاسب الحضارة الغربة (وتضخيم شعوبها) وهنا هي تستفيد من الحركات الأصولية المتطرفة الموجودة في كثير من البلدان العربية الإسلامية لتقول للعالم الغربي أن هؤلاء الناس والحضارات التي ينتمون إليها إنما يمثلون خطرا يتهدد الحضارة الغربية والعالم. ولكنهم في الحقيقة، أعني شعوب الحضارات المستهدفة، لا يهددون الحضارة الغربية، بل هم يهددون مصالح الغرب في بلدان الغرب، لأن ذلك يتسبب في عدم استقرار الأسواق العالمية. من هنا نستطيع أن نفسر التهويل الكبير الذي تقوم به وسائل الإعلام الغربية الأوروبية وخاصة المرئية منها لهذه الحركات رغم أن بعض الحركات الأصولية معزولة ومهمّشة في بلدانها، ولكنهم يظهرونها كقوى فاعلة وخطيرة. وفي الوقت ذاته لا يعترفون بالأسباب الحقيقية لظهور هذه الحركات وتوفر التربة الخصبة لها في العالم الثالث لكي تظهر، وأعني بها الظروف الاقتصادية أساسا وليست هي الجذور الدينية كما يصورها الغرب. واسمح لي هنا أن أعود إلى ما قلته سابقا عن روّاد النهضة والحركات النهضوية العربية من الطهطاوي إلى طه حسين وكيف أنهم ميزوا بين وجهي الغرب المذكورين أعلاه، فإن أكبر خطأ يمكن أن نقع فيه هو حين نخلط بين مخططات الليبرالية الجديدة، وبين شرائح كبرى وواسعة من النخبة المثقفة في المجتمع الغربي نفسه. فهذه الشرائح هي اليوم في طليعة من يحاول كشف النقاب عن مساوئ العولمة كما يفهمها الليبراليون الجدد وفي الوقت ذاته لعله من الغريب أن نقول إن لهؤلاء الليبراليين الجدد أنصارا ومؤيدين في عقر بيوتنا معشر العرب، وأعني بذلك فئات من السماسرة وأصحاب المصالح والمضاربات الذين هم امتداد لمصالح الليبرالية الجديدة فوق الأرض العربية وفي حلف مصيري معها. * ولكن، وكما تقول، فإنه لا بد من الحوار إذن، ولكن كيف؟ أنطلق من مبدأ أؤمن به، ليس من باب الترف الفكري أو الإيمان العاطفي، بل أنني أؤمن بالحوار باعتباره خيارا لا بل هو الخيار الأوحد لنا... لا بديل عن الحوار أبدًا، ويبقى السؤال الجوهري أو قل تبقى الأسئلة الجوهرية: لماذا الحوار؟ وكيف؟ ومع من؟ * بالضبط، وهذا ما أردت أن أسألك عنه؟ نحن في وضع، أعني في العالم العربي، نحتاج فيه احتياجا شديدا إلى أن نُعَرّفَ الرأي العام العالمي وخصوصا الغربي منه بأنفسنا وما هي مميزات حضارتنا وماذا أنجزت هذه الحضارة عبر التاريخ وما هي نضالات شعوبنا منذ أكثر من قرنين من الزمان في مقاومة النظم الاستبدالية في بلادنا ومن أجل الحرية والاستقلال والكرامة وبناء دولة حديثه تقوم على مؤسسات دستورية ممثلة تمثيلا حقيقيا وليس مزيفا. مئات المناضلين والشهداء في سبيل قيم الحرية والحقوق قدمنا.. هو نضال يُعتبر جزءا من نضال البشرية ضد الظلم والتعسف ومن أجل الحرية وهو يلتقي مع نضال الشعوب الغربية نفسها ضد الاستبداد ومن أجل الحرية وخاصة إبان الحرب العالمية الثانية فنحن هنا معهم نؤمن بالقيم الكونية ونعد أنفسنا مثلهم أحفادا لمفكري عصر الأنوار والحداثة الغربية التي أصبحت حداثة كونية. وهذا مهم، لأن أهل الغرب وخاصة أولئك الذين لا يعرفون كثيرا عنا سيدركون مدى التضحيات الكبرى التي قدمتها أجيال من المواطنين العرب في سبيل اللحاق بركب التقدم وضد جميع أنواع التعسف والاضطهاد. * السؤال الثاني هو: كيف؟ هنا تكمن الصعوبة الكبرى، أقصد في فحوى الجواب تكمن المعضلة، لأنني أيضا من المؤمنين بأننا لا نستطيع أن نتحاور مع الآخر وخارج حدودنا العربية إذا كنا عاجزين عن الحوار فيما بيننا سواء ضمن الوطن الصغير أم الوطن الكبير. فقد سمعنا حديثا كثيرا بعد أحداث 11 سبتمبر أيلول 2001 عن الحوار في المنطقة العربية وقرأنا عن مؤتمرات ومنتديات حول هذه المسألة وحتى عن مخططات تبنتها بعض المنظمات العربية الرسمية من أجل تنشيط الحوار ولكن مع الأسف فالأمل ضعيف في تحقيق ذلك. * ولماذا؟ لأن الحوار يتطلب أولا وبالذات وكحد أدنى، مناخا من حرية التعبير وحرية الكتابة وحرية عقد الندوات واحترام الرأي المخالف.. فلا بد لنا من أن نتحاور بحرية حول كثير من المسائل التي هي محل خلاف بيننا وفي طليعتها المسائل السياسية. ليس المطلوب أن نتفق على كل الأشياء ولكن من الضروري أن نتفق على المحاور الأساسية التي سنتحاور فيها مع الآخر فالآخر يتمتع بمناخ ثري ومتعدد ويستطيع أن يتحاور دون أن يضطر إلى التحرج أو الحذر أو أن يؤاخذ على كلامه أو أن يتم تأويله، بينما الطرف العربي قبل أن ينطق بأية كلمة عليه أن يحسب ألف حساب وأن يخاف من تأويل كلامه، وإن كان صادقا ومخلصا ومدافعا عن الحق العربي ومن هنا تبدأ المشكلة الأولى ويبدأ الضعف في صفوف المحاورين العرب أمام المحاورين في البلدان الغربية، وبالتالي فالحوار سوف لن يكون حوار الند للند، أو حوارا متكافئا. * هل النخبة العربية عاجزة إذن؟ هذا لا يعود إلى عجز النخبة العربية أو عدم كفاءتها فلدينا نخبة راقية ولا شك، ولكنها مكبلة ومقموعة في كثير من الحالات وبالتالي فلا غرابة عندما يحضر المثقف العربي اليوم ندوات دولية أو يستمع إلى حوارات تبث على فضائيات أجنبية أو عربية أن يكون المثقف العربي الذي يعيش خارج حدود الوطن العربي أكثر قدرة على الحوار وأكثر قابلية، لأنه لا يعيش تحت الضغوط المسلطة على المثقف العربي الذي يعيش داخل الحدود. * والآن، مع من تحاور؟ إنني أؤمن بأن شيئا كبيرا وخطيرا الشأن لا بد أن نراهن عليه للخروج من حالة التردد التي آلت ليها الأوضاع العربية، واعني بذلك ربط علاقات متينة مع النخب التقدمية المناضلة في سبيل الحرية وضد جميع أنواع التطرف والأصوليات في الغرب نفسه. * هلا أوضحت لنا كيف ذلك؟ لأن الأحداث قد برهنت لأكثر من مرة وخصوصا الأحداث الأخيرة التي نعيشها في العالم العربي، ان هذه الشرائح التي تمثلها النخب الغربية تشكل سندا مهما وذا فاعلية لقوى التقدم والتحرر داخل الوطن العربي. قد يقول قائل إنك تعطي أهمية لعامل خارجي. صحيح. أعرف جيدا أن العوامل الخارجية هي عوامل ثانوية بالنسبة للعوامل الداخلية ولكن عندما تبلغ بعض الأوضاع درجة من السوء ومن محاولة إسكات جميع الأصوات يصبح للعامل الخارجي الذي ألمحت إليه أهمية خاصة ولو كان ذلك في مرحلة تاريخية معينة. وفي الحقيقة فإن التطور المعاصر وسقوط الحدود الضيقة وانهيار وتحول العالم إلى قرية صغيرة تصبح هذه العوامل متداخلة ويصبح من الطبيعي أن تلتقي الفئات الاجتماعية والنخب حول الأفكار والأهداف بصرف النظر عن انتسابها القطري أو الديني أو العرقي، فلماذا تسعى القوى الاقتصادية ولماذا يسعى أصحاب المصالح إلى الالتحام بالرأسمال العالمي والتحالف مع الليبرالية الجديدة كما قلت قبل قليل بينما يقفون ضد التحالف الفكري من أجل أهداف تخدم بالأساس مستقبل الشعوب العربية؟ الحوار الذي يمكن أن يستمر إذن وأن يقدم صورة موضوعية وإيجابية للعرب داخل المجتمعات الغربية من جهة وأن يساعد النخب العربية على خدمة شعوبها والدفاع عن مصالحها في الداخل من جهة أخرى هو الحوار مع قوى التقدم والتحرر في الغرب نفسه ونحن نعرف جيدا قوة قوى التقدم والتحرر في المجتمعات الغربية وأول ضحية سقطت تنديدا بمساوئ العولمة تجاه شعوب الجنوب كانت من الأروبيين في مدينة جنوا GENEVA الإيطالية قبل ما يقارب العام. ينبغي أن لا ننسى هذا، وأن لا ننسى المظاهرات التي انطلقت منددة بالأساليب النازية للعسكرتاريا الإسرائيلية ضد شعبنا الفلسطيني البطل، إنما نظمتها قوى المجتمع المدني في كثير من عوالم الغرب قبل عواصمنا العربية. * لقد نادى البعض بالمقاطعة... لا، هذا موضوع آخر، ويجب أن نقول فيه رأينا بوضوح. ففي ظروف مثل هذه تبادر بعض التجمعات العربية إلى عرض موضوع مقاطعة الغرب، وكأنهم يجمعون الغرب كله في جهة واحدة. هذه الدعاوى التي تحشر الغرب كله في كيس واحد دعاوى عاطفية وخطرة لأنها غير موضوعية وغير تاريخية. وليس أخطر من الرؤية التي تجمد الوضع في إما أسود أو أبيض وانتفاء ألوان أخرى. وأغرب ما في هذه الدعوات وهنا نقطة ضعفها التي تنكشف من اللحظة الأولى، أنها تتناقض تناقضا جذريا مع الواقع الدولي والعالمي المعاصر. وهذا الواقع يبرهن في جوانبه الإيجابية على سقوط الحدود والمسافات بين الشعوب والثقافات والحضارات وربما حتى بين القيم والأفكار، بينما دعوة المقاطعة تعني الانغلاق والانكماش ورفض الآخر. وبالنسبة للمجتمعات النامية فإن ذلك يعني المزيد من التخلف والتهميش. * ولكن البعض يبرر دعاوى المقاطعة بما يسمى بالخصوصية الثقافية؟ الخصوصية الثقافية لم تكن عبر حقب التاريخ كله تعني القطيعة مع الآخر ورفضه. فإذا أخذنا مثالا من التاريخ فإننا نجد أن كثيرا من مميزات الحضارة العربية الإسلامية هي روافد قد أتت من الحضارات الهندية والفارسية والإغريقية. هذا بالأمس، فما بالك اليوم حيث تسعى فيه البشرية إلى بلورة ثقافة كونية تغذيها روافد حضارية مختلفة ومتباينة وأن تكون هي خلاصة خصوصيات ثقافية متنوعة أو ما يمكن أن نعبر عنه بـ "التنوع ضمن الوحدة الكونية". وأنا أعتبر ان الثقافة العربية المعاصرة قد حققت مكسبا كبيرا في العقود التالية عندما أصبحت تمثل جزءا هاما من الثقافة الكونية وذلك عبر انتشار اللغة العربية واستعمالها كلغة رسمية في المحافل الدولية وعبر ترجمة الآثار العربية المهمة إلى لغات العالم ومشاركة النخبة العربية من مفكرين وأدباء وفننين في المؤتمرات العالمية. هذا كله كسب للخصوصية الثقافية المتفتحة. أما الخطر كل الخطر فإنه يتمثل في استعمال الخصوصية الثقافية للتعبير عن فكر ضيق وإيديولوجيا شوفينية تبرر مظاهر الرداءة والردة. ومن هنا فإني أرى حتى في هذه الأيام الصعبة أنه ليس الخطر في الانهيار العربي، وإنما الخطر في تمويه هذا الانهيار والحديث عن التقدم وتحقيق المكاسب في الوقت الذي تزحف فيه موجة الرداءة والتردي والتشظي و"البلقنة". وأود هنا أن أعود إلى نقطة أخرى فعندما يدعو هؤلاء الدعاة إلى رفض الآخر ومقاطعة الغرب باسم الخصوصية الحضارية، فهم يعنون كما نعرف مقاطعة الغرب الليبرالي صاحب المؤسسات الدستورية والانتخابات البرلمانية الحرة وحقوق الإنسان، ولكنهم يتهافتون عليه في مجالات أخرى ويتحالفون معه في الخفاء حماية لمصالحهم ولامتيازاتهم. وإنني هنا لا أفشي سرا عندما أقول أن بعض الحركات المتطرفة الداعية إلى مقاطعة الغرب ورفضه قد كشفت الدراسات والوثائق إن قوى معينة في الغرب نفسه قد ساعدت على خلقها ورعت نموها في مرحلة معينة. * هل سيؤدي هذا الحوار، برأيك، إلى السلام؟ أنا أعتقد أن الحوار سيسهم في دعم أسس السلام، ولكنه لن يخلق وحده هذا السلام، لأن تجارب التاريخ القديم والحديث قد علمتنا أن قضية الحرب والسلم مرتبطة بالمصالح وبميزان القوى الاقتصادية والعسكرية. الحوار مهماته الكشف عن المصالح التي تقف في كثير من الأحيان ضد مسيرة السلام في هذا المكان أو ذاك أو تحاول أن تخلق بؤرا للحرب والفتن والاضطرابات. وان الكشف عن تلك المصالح المعادية للسلام مهم جدا في المجتمعات الديمقراطية لأن قوة المجتمع المدني في تلك المجتمعات تجعل الأحزاب والقوى المناصرة لأصحاب المصالح المذكورة تخسر مواقعها السياسية وبالتالي موقعها في السلطة. وتبقى المشكلة هي في المجتمع العربي، لأنه يحتاج إلى قوى مناصرة للسلام العادل ليس فقط لحل صراع معين ضد احتلال أجنبي لأرض عربية كما هو الحال في الصراع العربي الإسرائيلي، وإنما هو يحتاج أيضا إلى سلام من أجل نمو البلدان العربية وتطورها، أي الى سلام ضد الفتن والحروب الطائفية والمذهبية أو الصراع على الحدود بين أقطار متجاورة. وانعدام الديمقراطية في الوطن العربي لا يسمح مع الأسف الشديد بالكشف عن الأيدي الخفية التي تحرك هذا النوع من الفتن المعادية للسلام والتي هي كثير من الأحيان متحالفة مع قوى أجنبية. وهو وضع يخدم في نهاية الأمر أعداء الأمة العربية وفي طليعتهم العدو الصهيوني ومن هنا جاء إلحاحي على ضرورة توفير تربة خصبة للحوار ليس مع الآخر فحسب، بل للحوار فيما بيننا معشر العرب خدمة للسلام بيننا كشعوب عربية وخدمة أيضا للسلام مع الآخر، عندما يكون هذا الآخر صادقا لخوض هذا السلام. ودعني أختم في النهاية حواري معك مؤكدا، للعرب وأيضا للغرب على حد السواء، انه لا حوار بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون حوار. المصدر - إيلاف الأحد 26 يناير 2003 16:25 د. الحبيب الجنحاني في سطور: مفكر تونسي ذو اهتمامات فكرية واسعة. أستاذ التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للمجتمع العربي الإسلامي بالجامعة التونسية. ناضل سياسيا ونقابيا واجتماعيا وأسهم في حركة التحرر الوطني التونسية. عضو عامل بمنتدى الفكر العربي. عضو مؤسس للمجلس العربي للطفولة والتنمية. عضو المكتب الدائم لاتحاد المؤرخين العرب. عضو اتحاد المؤرخين الألمان. نشر العديد من الكتب من أبرزها: - دراسات في الفكر العربي الحديث. - المغرب الإسلامي الحياة الاقتصادية والاجتماعية. - دراسات مغربية. - التحول الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الاسلام. - من قضايا الفكر. - العولمة من منظور عربي.
|