لم تمر أحداث الحياة اليومية بشكل عبثي على الروائي الجزائري الدكتور أمين الزاوي، بعين تحليلية لوقائع الأحداث اليومية، وبيد تمتد الى التاريخ ينبش ما مر فيه لترتبه برؤية جديدة. لينسج من كل هذا الماضي والحاضر مادة لرواياته التي تضج بصراخ وقع تحت وطأة الواقع المرير، ومن وقع تحت قلم أديب متمرس مثقف لا يمكن أن يقلب أيامه بشكل عابر.
روائي شغلته الترجمة، وترجم من الفرنسية الى العربية لمحمد ديب وياسين خضرا، كما ترجم من العربية الى الفرنسية ومن العربية الى الأسبانية، ومن الأسبانية الى العربية، إضافة الى انه أستاذ الدراسات النقدية في جامعة وهران بعد حصوله على دكتوراه دولة في صورة المثقف في رواية المغرب العربي إنها أطروحة نشرت في جزئين الأول منهما يحمل عنوان "مقدمة نظرية في تاريخ الثقافة والمثقفين".
كما انه يدير المكتبة الوطنية الجزائرية في العاصمة الجزائر.
يؤكد د. أمين الزاوي الذي كان احد ضيوف الأسبوع الثقافي الجزائري التي أقيم في ابوظبي "انه بالرغم من الدم إلا أن الجزائر تهتم بالثقافة والمبدعين، ورغم ما يجري إلا أن الجزائر قادرة أن تقوم من رمادها مثل طائر الفينيق.
"بيان الثقافة" التقى أمين الزاوي وكان معه هذا الحوار:
ـ لديك إصدارات كثيرة بعضها باللغة العربية والأخرى بالفرنسية ما الذي يجعلك تبتعد عن العربية، وتتخذ من الفرنسية أداة للتعبير؟
ـ اكتب حينما أجد نفسي في لغة ما بمعنى من المعاني، لا تفسيرية للحالة أنت تشعر كأنك ساقط من السماء داخل صهريج لغوي، وعليك أن تسبح فيه سواء أكان هذا الصهريج لغة عربية، أو لغة فرنسية.
إنها حالة داخلية مع اللغة تجعلني اكتب بهذه اللغة، وربما تعود الى حالة نفسية أو عاطفية أو موضوعية.
هذا على المستوى الأول إما المستوى الثاني فيعود الى حالة النشر في العالم العربي المحاطة برقيب شديد وقد عشت ذلك مع رواية صهيل الجسد، واعرف جيداً الرقيب العربي الذي يمنع التمتع بحرية كبيرة، لذا أقول حرية التعبير وحرية التفكير وحرية اختيار الموضوعات وطرق تناولها واشكاليتها وتحليلها تجعل من اللغة اختياراً ما لا يعني التفضيل بين اللغة العربية والفرنسية، بالعكس أجد أن اللغة العربية لغة جميلة، وأحب هذه اللغة من الداخل، إنما أجد في اللغة الفرنسية لغة جميلة، لكن الاختيار الموضوعي، أو المحيط السياسي، والمحيط المؤسساتي يجعلني اكتب بإحدى اللغتين.
وتبقى نقطة ثالثة.. الكاتب في المغرب العربي مطالب بأن يقدم صورة للغرب عن الذات صورة العرب، والمغاربة، فصورة العربي في الغرب مشوهة ومحصورة بأنه إنسان عنيف وديني.
صدر لي لغاية الآن خمس روايات باللغة الفرنسية، ودراسة لأبين أن هذا العالم له حضارته وثقافته، ومثله وفي الايجابي والسلبي.
ـ هل شعرت بنوع من التأثير على الغرب من خلال رواياتك، أو من خلال روايات المغاربة الذين كتبوا بلغات أخرى غير العربية؟
ـ اعتقد أن هناك نوعاً من التأثير، وأنا واحد من بين أربعة روائيين يوزعون في فرنسا، أو في العالم الفرنسي، رواياتي مقروءة مثلاً رواية "الاخناع" وزع منها 64 ألف نسخة، مع طبعة الجيب وصل العدد الى 250 ألف نسخة، إما الرواية قبل الأخيرة "حارة النساء" فقد ترجمت الى أكثر من 8 لغات في ظرف ستة اشهر، وهناك في فرنسا قراءة مستمرة ومتابعات نقدية كبيرة واعتقد أن الندوات التي أقمتها حول منشوراتي بالروايات المكتوبة بالفرنسية في باريس وبلجيكا وجنيف تدل على أن هذا الآن يحرك سؤالاً لدى القارئ الأوروبي الذي يجهل هذا العالم، ويحتاج الى إعادة قراءة لمجموعة من المعطيات التي يؤمن بها ليغيرها من خلال هذه النصوص.
بتصوري أن الأدب المكتوب بلغات أخرى جاء لصالح اللغة العربية واذكر في ذلك نموذجاً مثل جبران خليل جبران حينما كتب بالإنجليزية "النبي" ونصوصاً أخرى، وقدم صورة للعربي في المجتمعات الاميركية كذلك أمين معلوف الروائي الذي استطاع عكس صورة الحضارة العربية بسلبياتها وإيجابياتها.
توازن روحي واجتماعي
ـ ما الذي يستفزك عادة للكتابة، وما هي القضايا التي تتبناها وتدافع عنها؟
ـ تثيرني المرأة وموضوعي الأساسي وضعية المرأة في العالم العربي الإسلامي، وان حرية المجتمع لا تأتي إلا بحرية المرأة، الديمقراطية لا تؤسس إلا بحرية المرأة، حرية التعبير في التعليم وفي... .
ـ إلا تعتقد أن حرية المرأة مرتبطة بحرية الرجل ونحن كمجتمعات نفتقد الى تحرر الرجل أيضا؟
ـ الى حد ما صحيح، ولكن داخل هذا القمع تعيش المرأة الضغط مرتين، لأنها تعي أنها مغبونة على المستوى الدولي لأنها عربية وقد تعي مرتين أنها مسلمة تمارس عليها تصرفات معينة من قبل رجل ذي عقلية ذكورية، أنا اكتب ضد العقلية والممارسات الذكورية التي تهيمن على المرأة وتلغيها أنا أب لطفلة، وزوجتي الشاعرة ربيعة جلطي وحينما أدافع عن هذه القضية أدافع عن ابنتي وعن زوجتي، وعن أمي أولا وانطلاقاً من هذا التوازن الروحي الثقافي والاجتماعي أيضا ما بين زوجتي وابنتي وأمي أدافع عن وضعية المرأة في العالم العربي، واعتقد أني مصنف على المستوى الأوروبي بأني من اكبر الكتّاب الذين يكتبون عن المرأة وعن انشغالات العالم الأنثوي في العالم إذن المحرك الأساسي في الكتابة هو المرأة والحرية.
ـ هل تفكر كثيراً بالرواية قبل أن تكتب، وهل تقودك كتاباتك الى مناطق أخرى لم تتوقعها مسبقاً؟
ـ أحيانا ابدأ الكتابة على أساس موضوع ما في رأسي واكتب هذا الموضوع بشكل حكاية أو حدث أو وقائع، ولكن حينما أباشر الكتابة، تضيع مني الأولى واجد نفسي أمام أشياء أخرى لم أكن أتوقع بأني سأصل إليها، الكتابة كالمدينة تقول انك ستذهب في هذا الشارع إلا أن الشارع يأخذك الى شارع ليمتد بك الى زنقة صغيرة. اعتقد أن الكتابة لا يخطط لها مسبقاً، هناك هاجس يملؤنا ولكن الهاجس ليس طريقة تقنية، فالكتابة تنطلق في الهوس.
واذا خرجنا من هذا الهوس أصبحت ميكانيكية ومخططاً لها، عندها تضيع شعرية الرواية ومفاجأة الرواية، فالرواية التي لا تفاجئك بشيء، ليست برواية كما الكاتب الذي كان يتوقع بأنه سيكتب شيئاً إلا انه يكتب شيئاً آخر، والقارئ ينتظر شيئاً، ويجد شيئاً آخر هذه شعرية الرواية، وهذه هي الأشياء التي تجعل من النص خالداً ويبتعد به عن التنطيح.
تناغم الفنون
ـ هل جربت أصنافا أخرى من الكتابة أو من الحالات الإبداعية الأخرى؟
ـ كتبت القصة القصيرة بالعربية والفرنسية، كما صدرت لي مجموعتان باللغة العربية الأولى "ويجيء الموج امتداداً" والثانية "كيف عبر طائر الفينيق البحر المتوسط". كما أصدرت مجموعتين بالفرنسية الأولى "احكي لهيلين" والثانية بعنوان "عطر القهوة".
اعتبر القصة القصيرة تمريناً للرواية فمرات تجتاحين حالة صغيرة أو معاشة فأكتبها بطريقة اقتصادية وشعرية لست ادري اعتقد أنها نصوص تجيء وربما في المستقبل تكون موضوعاً لرواية أو ما شابه.
إما عن الحالات الإبداعية الأخرى فقد جربت الموسيقى اعزف قليلاً على البيانو بطريقة هاوٍ، كما إني جربت المسرح قليلاً. وكنت عضو لجنة تحكيم مهرجان قرطاج في تونس، وفي الرباط وفي الدار البيضاء.
ـ هناك تعددية عند المبدع، فهل تعتقد بوجود خيط خفي يربط بين أنواع الفنون والأدب مثلاً جبران خليل جبران بالإضافة لكونه أديبا كان فناناً تشكيلياً وهناك أمثلة أخرى.
ما الشيء الذي يجعل المبدع متنقلاً بين أكثر من صنف إبداعي؟
ـ يبدو أن الفنون مرتبطة مع بعضها، لا يمكن لروائي أن يكره الفن التشكيلي وان كان لا يمارسه، فلابد أن يذهب الى المعارض والمتاحف. أو بأن الروائي لا يمتلك إذنا موسيقية أنها أشياء تحتاج الى فضول والى اندماج حتى يكون ما يقوم به متكاملاً. لأن الشعر المسرح، الرواية، القصة القصيرة كلها أجناس بقدر ما ابتعدت عن بعضها البعض لابد أن تلتقي.
الآن عندما قرأت على سبيل المثال لسوكينا لجيري الروائي الحاصل على جائزة نوبل أو ل"جولي كاري" اشعر بأن كتاباتهم مليئة بالثقافة الموسيقية والسياسية والاجتماعية والسيكولوجية، ألوان بثقافة المسافات فمن لا يعرف فن العمارة كيف يصفها في كتاباته.
عيبنا في الأدب العربي بأن الأديب يكتب مرات بدون عينين اي لا يمتلك قوة النظر.
ـ في احد الحوارات قال الشاعر محمود درويش انه يقرأ كثيراً قبل أن يكتب فهل تفعل ذلك؟
ـ اعتقد بأنني عندما اكتب ربع ساعة من الزمن لابد أن تكون مسبوقة بثلاث ساعات قراءة.
القراءة كتابة أخرى، إنها كتابة صامتة يجب أن نكتب في القراءة قبل أن نكتب على الورق، وحينما اقرأ رواية قد تمسكني الغيرة وأقول لنفسي لماذا لم اكتب أنا هذه الرواية. أنها غيرة من الغائب. قبل فترة كنت اقرأ رواية بعنوان "الحرير" حينما قرأتها اندهشت لماذا لا نكتب مثل هذه الكتابات مع أن الرواية من إصدارات آسيا الشرقية، والأدب الصيني من أجمل الكتابات التي يجب أن تكتشف لأنها تحمل ثقافة فنية وفلسفية وتعتبر واحدة من أهم الثقافات المتحدثة عن الجسد ليس في فيزيائيته إنما في غيبيته في صلواته في روحانيته.
الأديب يجب أن يكون قارئاً، فإن لم يقرأ فإنه سيعيد تكرار نفسه من نص لآخر وسيكون في نهاية المطاف واحداً من الكتبة لا أكثر ولا اقل.
ـ هل شعرت بأنك تأثرت ببعض الروائيين خاصة الفرنسيين منهم باعتبارك قارئاً وكاتباً بالفرنسية؟
ـ من الكتاب الفرنسيين الذين أحب كتاباتهم الروائي المعاصر "دوميني كلارك" كما أني اقرأ الأدب الفرنسي الكلاسيكي وابحث في كتب الثقافة السيريالية مثل كتابات "اندريه بروتون" هذه الأسماء التي أثرت فيّ بشكل ما.
لكن يبقى هناك ما هو أهم من الأدب الفرنسي اذكر الاميركي "ارنست همنغواي وجويس" والأدب الروسي أمثال "تولستوي، مكسيم غوركي، وانطون تشيخوف" لقد كنت أعيد منذ ثلاثة اشهر قراءة تشيخوف واكتشف من جديد أشياء مذهلة.
ـ هل هناك قارئ عربي أو مثقف عربي حقيقي في ظل وجود مؤسسات إعلامية لا يمكنها أن تروج للكتاب وللأدباء العرب وغير العرب. وبالتالي نرى أن القراءة لا تتعدى الجهد الفردي للإنسان العربي؟
ـ هناك أزمة لأننا لا نرى القارئ العربي، وبالمقارنة حينما أتابع معارض الكتب في الدول الأوروبية وعندما دعيت مرات الى صالون باريس وصالون فرانكفورت، ألاحظ كيف يقبل الناس على الكتاب في العالم العربي هناك قارئ غائب وحينما يقرأ، يقرأ بشكل عشوائي لا تدرين لماذا يقرأ وما الغاية، ومن هو الكاتب الذي يقرأ له، وغير المقروء. كلها قائمة على العشوائية.
ويبدو لي انه علينا أن ندعم ما يسمى بالقراءة العمومية في القرى الصغيرة فالقارئ موجود في القرى الصغيرة أيضا وعلى وزارات الثقافة أن توصل الكتاب الى هذه القرى.
وأعطيك هنا مثالاً بسيطاً باعتباري مديراً عاماً للمكتبة الوطنية وبالتعاون مع وزارة الاتصال طرحت مشروع "ألف مكتبة ومكتبة" بحيث تكون المكتبة الوطنية مركزاً والباقي يتواجد في القرى الصغيرة، وتزود المكتبات بكتب مجانية عن كل ما يصدر بالجزائر، وفي بعض المرات نشتري كتباً أخرى.
وحول هذه المكتبات 12 حافلة، مجهزة بالمكتبة المتنقلة التي تصل الى المداشر، وبالتالي الى القراء، وتعود بعد 15 يوماً بالكتب الباقية الى مناطق أخرى، فالقارئ في الجزائر يحتاج الى جهد وعمل ميداني بعكس أوروبا التي يقف فيها القارئ أمام مكتبات متخصصة.
علينا أن نعرف كيف نصل الى القارئ، وبالفعل أنشأت مرصداً للقارئ، يحمل البيانات التالية من هو القارئ في الجزائر ما عمره ما هو مستواه التعليمي هل هو رجل أم امرأة ما نوع الكتب التي تقرأ والتي لا تقرأ؟ ومرصد القراءة تجربة لو عممت على العالم العربي فإننا سنعرف بعد خمس سنوات، نعرف عندما أصدر هذا الكتاب في بيروت سوف ينتشر في اي بلد عربي آخر يجب علينا أن نعيد النظر في سيسيولوجيا القراءة، وبكل من يقرأ.
ـ ما أهمية الأسابيع الثقافية التي تقام بين البلدان العربية؟
ـ كل هذه الخطوات تبدو لي مفيدة وايجابية، فهذه الأسابيع وهذه اللقاءات ما هي إلا مد الجسور بين المغرب والمشرق تحتاج الى تكثيف وازدياد فأسبوع واحد لا يكفي سنوياً فالمثقف أو الفنان بحاجة الى أكثر من هذا فالثقافة هي الجسر الوحيد الذي يجمعنا، فحينما اقرأ رواية تصدر في بيروت أو في دمشق أو يقرأ أهل دمشق عن رواية تصدر بالجزائر هذه هي العلاقة الصحية في العالم العربي فشل الاقتصاديون والسياسيون ولكن اعتقد بأن المثقف يستطيع أن يؤسس لشيء ما.
ففي عالمنا العربي لا يوجد احد لا يعرف طه حسين أو جبران خليل جبران، ورشيد بوجدرة انهم رموز الكتابة وهناك رموز للشعر، ورموز الفن، التي تبقى معروفة في العالم العربي ومتداولة وتشكل قاسماً مشتركاً بينهم وعلينا أن نطالب بتعدد هذه الأسابيع وبما يسمى بمعارض الكتب والفنون التشكيلية وبأسابيع سينمائية ومسرحية، وكل هذه الفنون لو عززت في بلداننا العربية سنؤسس فعلاً لغدٍ مشرق.
بيان الثقافة- 23 مارس 2003