الشاعر حارس العالم، حارس القيم الغائبة والمغيبة، قيم الإنسان البسيطة والكونية: المحبة والحرية والعدالة: هناءات الأرض، أنه الشاعر المعاصر وشاعر كل العصور. هذه مسيرته وقدره الشعري: ان يمضي في كل الدروب وحده مؤمنا بالنور كلما اشتد العتم، حتى يظل العالم سكن الإنسان العاري والأبدي، بهذا الفهم لوظيفة الشاعر يجب أن ندخل عالم بيار أوليفييه حيث للقصيدة حضور في التاريخ وحيث للتاريخ حضور في القصيدة، وبهذا الفهم حاورته.
* سألته في البدء عن علاقة القصيدة بالوجود ؟
ـ "نأمل أن يصير الوجود شعراً، شعراً بالمدى الأوسع لمعنى هذه الكلمة، آسف ليس دائما الشعر مواز للوجود، لأجل هذا نجد شاعر عصرنا كمن سبقه من شعراء الزمن القديم لا يكتفي بالتغني بالعشق، بالسماء الزرقاء والعصافير الصغيرة... ذلك أن الوجود بالنسبة لأغلبيته البشريين أيا كان انتماؤهم القارئ: بعيد عن أن يكون شعرا. كذلك على الشاعران يلتصق بالأرض وان يكون شاهد عصره كما قال الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت، عليه أن يغني على طريقته وبموهبة تعاسات وآمال الشعوب، على هذا الأساس فقط يستطيع أن كان يمتلك قلبا حساسا لمعاناة الناس أن يستحق لقب " شاعر ".من جهة أخرى فإن الشعراء الذين صمدوا عبر القرون هم أولئك الذين تغنوا بمحبة الوطن، بآلام المقهورين ورفضوا مهانة الإنسان والتفاوت الطبقي.على الشعر أن يكون نشيدا كبيرا لمحبة الناس، أن يدفئ قلوبهم وان يدفعهم للعمل نحو عدالة أكثر وحرية أكثر وفرح وجودي.
* أي مراحل عبرت حتى صرت ما أنت عليه الآن ؟
ـ لا نولد شعراء ولكن نصير شعراء. إنها الحياة، تأخذ يد البعض منا تمضي به في دروب الشعر كأي طالب في الليسيه كنت التهي بخربشة أبيات شعرية. وكان من حظي في سن مبكرة ان لحظني " ماكس جاكوب " أحد أكبر الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين، في مدرسته تعلمت البحث عن الكلمة البسيطة القريبة من الاستعمال اليومي وخلق الموسيقى اللفظية. لم يعد ـ إذن ـ هناك مبرر للالتزام بالوزن الشعري، صارت الفكرة تنساب على هواها. اعترف في الأثناء أنه لا يزعجني أن يفرض البيت الكلاسيكي نفسه علي، أن العب بالقوافي والأوزان كما العب بشعاعات شمس طفولتي.وبعدها، كان ذلك قبل العشرين إذ قمت بمغامرتي العجائبية : سافرت برا إلى "سانتنكيتان" (دار السلام) : جامعة الشاعر الهندي الكبير "رابندرانات طاغور" ـ كان هذا الحج تحية احتفاء ـ من نوع آخر ـ بالشاعر بمناسبة عيد ميلاده السبعين.سنتان رائعتان من الترحال والسفر على الأرجل وبالوسائل المتاحة: طرقات ودروب ايطاليا، واليونان والشرق الأوسط والأدنى ـ آه فلسطين ـ إيران... إذن أنا في بلاد فارس... ودروس بيلنتشيستان. والهند وسيلان. مغامرة إنسانية وثقافية غيرت عميقا وجذرياً رؤيتي للناس وللفن، قربتني من المهانين والتعساء وأبعدتني أكثر فأكثر عن القيم المغلوطة: الروح الاستعمارية، الحقد الاجتماعي والديني المظالم والثراء.هذا السفر الطويل جعلني حسب اعتقادي أحسن مما كنته وأكثر تواضعا وتفاؤلا، صرت إذن ما أنا عليه حتى الآن شاعر المحبة والرفض. منذ العشرين لم أتغير، ما أحسست أبدأ بالراحة في قصور " المهراجات " والأمراء وأشعر بالألفة قرب أولئك المعذبين والمتألمين. والآن وفي سن السادسة والستين لم أحس بالتغير كثيرا.*
* وماذا تقول عن طاغور ؟
ـ في عام 1913، عام ميلادي، حصل طاغور على جائزة نوبل في الآداب لأجل أعماله المكتوبة الهامة، ولكن " ساحر الكلمة " الكبير كما كان يسميه " رومان رولان " لم يكن روائيا وشاعرا ومسرحيا فقط كان كذلك رساما متميزا لوحاته موسومة بشعره، بخياله وبمحبته للناس. كان يجيد استعمال الألوان الغامقة مزاوجا بين الأسود والأحمر والأزرق الداكن... لوحاته لا تبعث على الحلم فقط وإنما على التفكير، كما كان يحب أن يؤلف أنغاما على هذه الآلة الوترية القريبة الشبه من " المزمـــــار". أنغام دقيقة ومتفائلة كبلاد " البنغال " أرض ميلاده. ان أغاني طاغور ما تزال في الهند على كل الأفواه إذ تمثل كلاسيكياتهم.ولد طاغور سنة 1861 في "كلكتا" وفي تاريخ مقارب ولد "كبلنغ" (1865) في بومباي. طاغور بكل براءته كان عليه أن يغني المحبة واستقلال بلاده " كبلنغ " تغنى بشـــــريعة الغاب وبالملكة "فكتوريا".نمطان من التفكير، عالمان ! في سنة 1869 كان لآرثر رامبو 15 سنة إذ كتب "هدايا السياسي" وهي بداية مغامرة شعرية قصيرة وعبقرية في حين ولد وفي نفس السنة "المهاتما غاندي رسول اللاعنف، بعد سنوات خمس كتب بودلير " كآبة باريس ". هذا زمن ميلاده. بعدها طاف طاغور العالم خمس سنوات بين إنكلترا وأميركا والاتحاد السوفياتي حيث استقبل كصديق وكأكبر معلمي عصرنا. وبقدر ما كان طاغور قوميا متحمسا كان عالميا يحترم الشعوب والثقافات الأخرى، كانت له المراسلات منتظمة على امتداد حياته مع أكبر كتاب وشعراء العالم: رومان، أندريه جيد، كوستاس بلاماس (شاعر يوناني). طه حسين كان يحبه وآخرون من كل القارات.
* وذكرياتك الخاصة عن جامعة طاغور "دارة السلاّم"؟
ـ كان لي المجد والفخر أن أعيش "بدارة السلام" أكثر من شهر تحت الأشجار العملاقة وفي ظل الشاعر في جامعته الحرة كنت أرى طاغور يوميا خاصة في دروسه حول الفن والموسيقى التي كان يلقيها في الصباح وبعد العصر. كان عجوزا يلقي درسه واقفا أو جالسا بين الطلبة باللغة الإنكليزية ... وكانت تدرس بالجامعة اللغات الشرقية الكلاسيكية والحديثة.
* هل كانت تدرس اللغة العربية ؟
ـ لا أدري يصمت بيار أوليفيه قليلا ثم يعود يتكلم، صوته قادم من الحلم من الذاكرة القصية.ـ مات طاغور في عام 1941 كنت وقتها سجين حكومة فيشي والنازيين.. في غلواء الحرب العالمية اختفى دون أن يلحظ. في ذلك الزمن كان أحد معلمي الكلمة الكبار ينطفئ بألم في هذا العالم الذي كان في حرب.
* أنت تعيش بيننا منذ أكثر من 15 سنة. لقد تابعت الشعر المغربي المكتوب بالفرنسية كيف تجد هذا الشعر إجمالا ؟
ـ الشعر المغربي المكتوب بالفرنسية ثري جدا، يصعب على في هذا اللقاء القصير أن اذكر كل الشعراء المغاربة الذين تغنوا ـ بموهبة وبسيطرة على اللغة الفرنسية ـ بآمال أوطانهم المحتلة والمحررة. لقد استعملوا اللغة الفرنسية ليعلنوا عروبتهم. من المغاربة اذكر محمد خير الدين وقبله طاهر بن جلون، من الجزائريين دون نسيان "عمروش" اذكر رشيد بوجدرة و"مصطفى الأشرف" وصديقتي الفقيدة "أنا غريكي". في تونس اذكر. "رضا الزيلي وصالح القرمادي وغيرهم يضيق المجال عن ذكرهم.
* ماذا تضيف : عن الشعر ؟
ـ القصيد نشيد يصعد من أعماق القلب وهو كذلك سلاح أكثر خطرا ومجدا من الطلقة النارية، أفكر في إخواننا الفلسطينيين القريبين من القلب وفي كل من يناضل من أجل التحرر.. إننّا نرى أوطانهم معذبة في دروب الحرية.إذن ليس غريبا أن يملأ الشعراء سجون البربرية.