غازي بني عودة
المستشفي مملكة الألم فالناس يأتون إلي هنا ليتألموا) هكذا رأت الكاتبة اللاتينية ايزابيل اليندي المستشفي في روايتها (باولا(.
ولكن الأمر مغاير بل يكاد يكون مناقضا لدي شاعرة فلسطين فدوي طوقان التي رغم ألمها إلا أنها حولت الحجرة التي تحمل الرقم 204 في مستشفي نابلس التخصصي الى مكان للدفاع عن الحلم ومواجهة اليأس والوجع والانتصار عليهما.
هنا ترقد طوقان علي سرير الشفاء بعد أن أصيبت بكسر في الحوض قبل نحو شهرين... ومن حجرة الألم أو المكان الذي نزوره لنتقاسم وجع من نحب تفاجئنا شاعرة فلسطين بباقات من الفرح والأمل تقدمها لزائريها ابتسامات وضحكات وأحاديث عن محطات لم تمح من مسيرة حافلة وأبيات جميلة من الشعر.
يكاد المرض يتغلب علي جسد فدوي النحيل وينتصر عليه ولكنه لم يجرؤ علي الاقتراب من إيمانها وحلمها الذي لا تزال تحرسه بشراسة الفرح.
بعد مسيرة طويلة وشاقة نجحت في بلوغ القمة!
تبتسم صاحبة الرحلة الجبلية الصعبة وتغرق نظراتها في ما مضي من عمر وهي تجاهد إصابتها الأخيرة وآثار الجلطة الدماغية التي كانت أصابتها قبل ثلاث سنوات وتقول بإيمان يعززه إصرار واضح في نبرة صوتها:
(هناك الكثير الذي أود وأتمني أن أتمكن من افعله) (والله أظن لسه عندي مطامح أكثر... الله يوفقنا على التعبير عنها عن كل التجربة التي مررت بها(.
وتختزل معاناة المرأة الفلسطينية والعربية بسبب العادات والتقاليد المحافظة في مرارة وقسوة ما عايشته الشاعرة طوقان وتقول:
(أنا تجربتي صعبة جدا، كنت وجدت مقاومة دون مطامح أو أسباب، هكذا وقفوا سدا لولا أن أخوتي ساعدوني هناك جماعة آخرين في العائلة عارضوني كثيرا كثيرا ووقفوا سدا في طريقي(
وينجح الإيمان والإصرار أمام جميع الجدران والسدود وتتحول المصاعب إلي حافز للإبداع وتضيف طوقان قائلة:
(ولكن الهدف حين يكون صامدا وصحيحا والرغبة عندما تكون صادقة فإنها تتحقق)، (يعني لا يأس مع أنني وصلت قمة اليأس أو هوة اليأس صدقني.. لقد وصلت لدرجة وقفت أمام صفيحة الكاز والكبريت بيدي أريد أن أشعل نفسي وانتهي من هذه الحياة كلها(.
هذا في المرحلة الأولي؟
نعم، في المرحلة الأولي، لأنني انحبست ــ سجنت ــ ومنعت من الذهاب الى المدرسة وأنا وجدت نفسي في المدرسة في البيت لم يكونوا يعتبرون لي أي قيمة ينادونني روحي يا صفرة وتعالي يا خضرة ــ أصيبت الشاعرة في طفولتها بمرض الصفار لذلك تحول اللون الى اسم لها في تلك الفترة ـ
وتضحك بعمق وهي تستعيد تلك اللحظات ولكن سرعان ما يطغي الحزن علي صوتها وتضيف:
(هذا كان يكسر بخاطري.. هذا كان يجرحني..كنت اذهب ليلة القدر ــ يقولون أن باب السماء تنفتح ــ..كنت أقف أسفل السماء وأنا انظر الى الأعلى وأقول: يا رب لون خدودي باللون الأحمر حتى يتوقفوا عن مناداتي يا صفرة يا خضرة..وتضحك بصخب وهي تستعيد مشهد الألم وفكرة طفلة تتحسس ببراءتها الأحمر سلاحا لمواجهة الأصفر الذي اشهر في وجهها لقتل اسمها واغتيالها.
ولكن بعد هذه المرحلة ورغم ذلك نجحت في أن تبقين مشرقة؟
بقيت مشرقة فقد تفتح جسدي وسمنت وانقضي الصفار وانقضي الخضار وأصبحت صبية لا باس بجمالها وأصبح الذين كانوا يتندرون ببشاعتي وصفاري وخضاري أصبحوا يتساءلون كيف أنت أصبحت هكذا.
هذا يعني انك استطعت أن تستردي بعض حقك؟
وتعود الى الابتسام والضحك الذي تتسلح به وسيلة لبلوغ الحلم في سعيها المتواصل لفرح محظور ووسيلة للسخرية من الظلم والقهر أيضا وتقول وهي تضحك:
(نعم استرديت بعض حقي كنت في ذلك الوقت عندما اذهب الى المدرسة أري ولدا بانتظاري كنت في الخامسة عشرة وعندما اصل باب المدرسة ألقاه هناك ويسبقني عند باب الدار وأنا فرحة بان هناك شخص يهتم بي ويبعث لي بأزهار الفل...حتى اليوم رائحة الفل تنعشني(.
حتى اليوم تنعشك رائحة الفل ويسكنك أريج تلك الأيام أو الفلة التي جاءتك في منديل؟
نعم والله حتى اليوم.. هذه الفلة التي كانت ملفوفة بمنديل... صدقني حتى اليوم رائحة الفل تعيدني الى ذلك الزمن.
عمليا تعيدك نحو 70عاما؟
تضحك بعمق وفرح وتقول مزبوط تقريبا والله يمكن أكثر أنا عمري ألان 86... وأنا لا اخفي عمري بل علي العكس فأنا افتخر بأنني لا زلت محتفظة بحيويتي.
أنت بنظر الكثيرين صبية بعمر 86 عاما...
وتلوذ للضحك من جديد وتواصل حديثها واصفة ما واجهته حين علمت أسرتها بأنها أصبحت علي قيد الحب وتقول:
(أن أحد الجيران اخبر آخي يوسف وقال له هناك صبي يلحق بفدوى ويوصلها الى باب الدار)
وكان أخي يوسف عنيفا جدا فجاء وصرخ مناديا: (فدي، وهوى قلبي وأحسست بالذنب وقال لي: من الذي يلحقك؟ قلت له فلان ولحسن الحظ أني كنت اعرف اسمه فقال لي: لو انك لم تقولي اسمه كنت قتلتك ولكن من الآن ممنوع عليك أن تذهبي الى المدرسة وممنوع عليك أن تذهبي الى الخياطة وممنوع تروحي حتى مع أمك وأخواتك هذا سجن الى الأبد افهمي(
وتستطرد الطفلة التي فقدت أجمل أيام العمر والصبا:
(وأنا كنت وجدت في المدرسة حياتي وكنت محترمة ولي شخصية لأنني كنت عاقلة ومؤدبة ولكنني عقب ذلك جلست في البيت سجينة ابكي وأنوح إما أبي فلا يصح أن يخبره احد لان الأمر لم يكن محتملا له أن يعرف بان صبيا يلحق بي لذا لم يخبروه)
وفي احد الأيام وعندما عاد الى البيت وجدني أرتب الأسرة مع أمي فسال أمي قائلا: لماذا هذه البنت لا تذهب الى المدرسة ؟ فأجابته بقولها:(اليوم كلام البلد كثير علي البنات وأحسن أننا نضبها بعد أن أصبحت في هذه السن(.
هذا الفلان ــ صاحب الفلة ــ ألا زال حيا؟
لا لقد توفي .
متي؟
توفي في عز الشباب وقد انقطع اتصالي معه عشرين عاما قبل وفاته لم اعد أراه بعد تلك القصة.
ولكن رغم أن هذه القصة لم تدم طويلا إلا أنها تركت أثرا بالغا هل هي الأكثر تأثيرا في حياتك وقلبك؟ صدقني أنني عرفت ناسا كثيرين ولكنني لم أحس كما ذاك الإحساس معه.. الحب الأول وسن المراهقة أنت تعلم، أنها أمر مغاير.
لها خصوصيتها واغراءاتها؟
نعم لها اغراءاتها
وماذا يوحشك وربما يحزنك ألان؟
استوحش لصورة أمي، واستوحش لصحبة عودي، واستوحش لضحكات أخواتي اللواتي كن يملأن الدار ضحكا ألان أصبحت الدار فارغة، لا أم، لا أب، لا أخ، ولا أخوات ما الى حدا.. أيضا يحزنني كثيرا، يوجعني، يوجعني الحكم الصهيوني في بلدي، يوجعني لا بل يقتلني قتل الأطفال في بلدي، يقتلني قتل الأطفال في بلدي.(
ولكن لك كثيرا من العشاق والمحبين والكثير من الأبناء والبنات..تلك القصائد الجميلة ؟
أنا لا أنكر ذلك هذا صحيح.
ولكن أيها من بين قصائدك الأقرب الى قلبك أو تتذكرينها ألان؟
كل قصيدة لها علاقة نفسية خاصة بي أما الأقرب فسأقول لك بضعة أبيات...تصمت هنيهة وتقول: (أنا ابدأ بأبيات خارجة عن الموضوع ولكن يتبعها قولي:
يا ثقيل الدم
ما هذه الكثافة
أنت من دنيا جئت
أم من أي عالم
لا تقل انك من أبناء آدم
أنت آفة
ومن الذي كنت تعنين بهذه الآبيات...تضحك وتقول هذا سر غامض.
وهل لا زال غامضا؟
نعم ليس من الجميل أن نذكر أسماء
قلت في أحد اللقاءات انك تكرهين أم كلثوم أو لا تحبينها
نعم لم أكن أحبها لأنها تكرر كثيرا... صوتها جميل واحبه ولكنها تكرر كثيرا انه لأمر ممل، والشيء أن زاد عن حده نقص.
ومن من الشخصيات التي دخلت حياتك أكثر ما تحبين ؟
تضحك بصوت عال وتقول وقد حملها السؤال الى حبها الأول الذي لا زال يسكنها وتقول:
(راح مسكين كان اسمه صبحي هذا ما أستطيع ذكره لا أريد ذكر اسم عائلته(.
هل هو صاحب الفلة ؟
نعم هو صاحب الفلة.
ومن أيضا اثر بك ؟
طبعا هناك كثيرين آخرين اثروا في حياتي كتابة، كتابة رسائل، وكتابة، وتبادل قصائد، هناك كاتب مصري اسمه أنور معداوي، كان أهداني معداوي مقالا، كان يكتب مقالات في جريدة (الرسالة) ومرة كتب تعليق جميل علي إحدى قصائدي وأنا أهديته اثر ذلك قصيدة، قصيدة محترمة، وبدأت بيننا المكاتبات بدأت المكاتبات الى أن تحولت الى رسائل حب انه إنسان محترم جدا(
وكذلك الحب فهو شيء محترم؟
نعم محترم وجميل . مضت سنين وقامت حرب فلسطين والتقيت رجاء النقاش الكاتب المصري فقال لي رجاء أهلا فدوي أنا اعرف من صديقي أنور إنكما تبادلتما الرسائل وأنا أريد إن اكتب كتابا عنه وأريد أن تبعثي لي رسائله لك حتى استنير بها في كتابتي فوافقت وسافرت في تلك الفترة الى لندن وأخذت الرسائل معي الى هناك حيث الى السفارة المصرية ورجوتهم أن يرسلوا لي هذه الرسائل الى رجاء لأنني لا أستطيع الذهاب الى مصر بسبب الحرب فأرسلتها ووصلته وكتب من خلالها كتاباً عن الحب الذي بيني وبين أنور وعن العلة في أنور حتى أن بعض الناس لاموه علي ذلك لماذا يكتب عن صديقه وبعض النقاد مدحه والآخر انتقده لماذا يكتب عن صديقه فقال بأنه تواعد مع فدوي واخبرها وقال لها سيكتب كتابا عنها وعن انور ولم تمانع حسب قوله.
وتؤكد الشاعرة فدوي طوقان وتقول وحزن وألم يغلفان صوتها وتقول:
(ولكنه لم يقل لي بأنه سيكتب عن انور وعني ولكنه قال بأنه سيستنير بالرسائل ليكتب عن صديقه... ولكن وعلي كل حال اشتهر الكتاب كثيرا ومن ثم أنا ذكرت في كتابي شيئا عن ذلك ولم ارض أنا عن كتاب رجاء لأنه ليس مناسبا ان يكتب حكايات كهذه(
المهم وأنا كتبت فيه قصائد ــ أي أنور المعداوي ــ وعندما توفي أخي نمر كانت فاجعتي اثنتين.
مزدوجة؟
نعم مزدوجة وبالطبع كانت فاجعتي بأخي نمر اكبر انه أخي وهو قريب كان قريبا مني وحبيبي كنت أحبه حبا شديدا هذا..وهكذا شاعت قصة انور وفدوى.
هل هناك شيء تندمين عليه في حياتك؟
نعم أنا نادمة علي معرفتي بشخص كنت أظنه.. كان من بناء وهمي أنا شكلته من خيالي ولاحقا اكتشفت انه مغاير لما رسمته في مخيلتي وأنور من هيك لا يمكن ان يكون (
وتسترجع ذاكرتها وما كتبته في ذلك شعرا وتقول لقد قلت :
كنت شيئا..
لقد كنت شيئا..صوره وهمي
وصاغ الخيال..
واليوم ما أنت..
لقد كنت لي حقيقة..افرغ منها الجمال
حتى الآن لم تسامحيه ؟
نعم و لو رايته فأنني لن انظر له.
يبدو انه جرحك جدا ؟
نعم.
ما أكثر شيء مشرق كان في الحياة ؟
أول حب والله..
لا زلت متمسكة به ؟
نعم والله هو أكثر شيء مشرق
رغم انه كان وميضا؟
نعم كان وميضا..ومضة ولكن لا شبيه لها لم تتكرر.
هل نحب مرة أم أكثر؟
لقد كنت أنا في قفص مغلق فمن أين اصل الى الحب والمحبين..نعم يتكرر الحب فقد تكرر..تكرار مزبوط
ومن السياسيين من يروق للشاعرة فدوي؟
أنا أرى ان ربنا.. الله في السماء وجمال ــ جمال عبد الناصر ــ في الأرض..أنا كنت ولا أزال أحبه رغم ان البعض يعزو له نتائج الحرب ويلعنونه أما أنا فأقول بأنه كان إنسان نيته حسنة ولا يوجد من هو اخلص منه بين جميع زعماء العرب.
وماذا عن السنين الأولي من الاحتلال الإسرائيلي لبقية الأرض الفلسطينية ولقاءك مع ديان وزير الحربية الإسرائيلي الأسبق؟
كنت اعمل لقاءات شعرية بالسر وكان اليهود يمنعون مثل هذه اللقاءات وفي يوم من الأيام دعتني جمعية لعمل قراءة شعرية في اللد ــ احتلت عام 48 ــ ودعوا الجميع واليهود العرب يشبهون العرب فدخلوا الى قاعة الحفل دون ان نحس بهم وكان من بين الحضور رئيس البلدية وعدد من الشخصيات العربية في اللد وهم يسمعون متحمسين وكان عضو بلدية القدس أيضا والجميع متحمس... والشعر يحمس المستمع.
وفي اليوم الثاني هاتفني مستشار ديان في الضفة وطلب مني ان نلتقي في فندق داود في القدس فسألته أين لأنهم كانوا أخذوني سابقا الى منزل ديان وقلت بأنه ان كان الى منزل ديان فإنني لن اذهب فنفي وذهبت ولكنه اقتادني مجددا الى منزل ديان.
وتضيف
(ترددت بالدخول وأنا لا أحب المظاهر الاستعراضية خوفا من القول بأنني أريد ان اظهر نفسي فدخلت وجاء ديان وحياني وقال لي بالإنجليزية أنت تكرهيننا فقلت له: أنا لا أكرهكم كما انتم بل أكرهكم كمحتلين وجلس بجواري وبدا يحدثني بحديث لطيف ويقول لي انظري أنا أتبني آراء بن غوريون وهذا قال قبل يومين ــ أي بن غوريون ــ وفي مؤتمر صحفي انه لا يطمع بإسرائيل كبري وانه يريد دولة يهودية معروفة الحدود وآمنة فسألته وقلت له:وماذا بشان اللاجئين؟ فأجابني: إذا عاد أحدهم لن تبقي إسرائيل
وفي لقائك الأول مع ديان ماذا جري؟
في اللقاء الأول كان قال لي الحديث نفسه وكرر الكلام نفسه.
ألان كيف تنظرين الى الاحتلال؟
لعنة كبيرة.. لا خلاص منها لأنه ضربة مقابلها ضربة الى متي نقتل 15 فيقتلون 20 انه حمام دم متواصل.. وتضيف مخاطبة المحتلين (ولكن لا يتعظون من التاريخ... اتخلوا عن هالهدف ودائما شارون يقول بأنه لا يطمع ولكنهم طامعين ولا اعرف النهاية كيف ستكون
هل كتبت شيئا في الانتفاضة الراهنة؟
لا لأنني كنت مريضة.
هل من مشاهد من مسيرتك، مشاهد معينة دائمة الحضور في أيام وخيال الشاعرة فدوي طوقان؟
ترجع الى فكري الأمسيات الناجحة التي عملت.
وما هي أبرزها أو أكثرها حضورا في الذاكرة.
أبرزها في جامعة النجاح حين منحتني شهادة الدكتوراه الفخرية (كان هذا في تشرين ثاني عام 1998)
هل هذا الحفل التكريمي من أبرزها أم انه نوع من الانحياز الى نابلس مدينتك التي ولدت وعشت ولا تزالين تعيشين فيها؟
يمكن ــ وتضحك طويلا وتضيف ــ ربما رغم إنني لم انوي الانحياز.
ولكن ألا تحسين بان نابلس تحتل مكانة خاصة في قلبك؟
نعم لها مثل هذه المكانة وأنا حين ابعد عن نابلس احلم فيها مثلا ذهبت الى إنجلترا سنتين كنت في أحلامي أشاهد دارنا الكبيرة أحس بشمسها الحارة تدفئني أحب نابلس كثيرا.. نابلس جميلة جدا خضرا.. فلسطين جميعها خضراء وجميلة نعم جميلة والا لماذا اليهود يريدونها.
عن مجلة الزمان- لندن