حاوره في :خالد النجار
الحوار الأوّل
ـ كلّ شيء يتأسس على النور... تجربة الضوء بمعناه الفيزيقي هي مدخل الشاعر "فرناند واليت" الى الشعر... يبدو هذا الرجل قريبا من المتصوفة العرب رجال السياحات ولكنه كان في احد الأيام مريدا للشاعر الفرنسي بيار جان جوف. "كل شيء يتأسس على النور" هل هذه الجملة قرأتها في "ترجمان الأشواق" أم في الفتوحات المكية...ولكن هذا الرجل كيبيكي من كندا يعاني الكلمة ويتأمل الإوز الوحشي عندما يمر مهاجرا في الشمال الكبير...
فرناند واليت ترجم الى اثنتي عشر لغة وصدرت حوله كتب في كندا وخارجها وهو اليوم رمز شعري مهم في كيبيك مع معاصره الشاعر غاستون ميرون. فإذا كان هذا الأخير يعد هنا الشاعر القومي بمعنى تطابق أساطيره الشعرية مع الأساطير الوطنية فإن فرناند واليت يمثل النص الشعري الكيبيكي السعيد والمتخلص من شوائب الوعي الشقي والمفتوح على الآخر على القراءات... لذا قد نكتشف في هذا اللقاء شاعرا عربيا بمعنى ما..
* كيف ذهبت إلى الشعر؟
- منذ ثلاثين سنة وأنا اكتب الشعر ولكنني لا اعرف اليوم أكثر من قبل حقيقة ما يمنحه الق ذلك الشيء المنزل في نوع من المكان غير المطروق. مكان منفتح في الآن على تسمية الكائن وكل كائنات العالم ومنفتح خاصة على الاحتفال بالعالم بذلك تكون مهمة الشعر غير منفصلة عن مهمة الميتافيزيقا الشاعر الحديث الذي يستوحي الحياة لا يقف أبدا بعيدا عن هوميروس وبندار وهزيود والشعراء الجاهليين الذين خطوا درب شعراء التروبادور (الشعراء الجوالون) ودانتي بقوافيه مع مجيء هلدرلين مسه الحزن حتى ان حساسية الشاعر صارت كالمرجاف (جهاز يسجل حركة الزلازل) لا تكف عن تذكيره بهزات الفراغ الذي يظهر وبالخواء الذي يتجلى في الكلمة الأولى باختصار ليس للشاعر مشيئة أخرى سوى الإصغاء الى الكلمة الأولى التي تسمي الكائنات وهي تعيد خلقها وعليه ان يقوم بهذه المهمة في زمن معرض عن الكلمة في زمن يجد أمنه في ظل لغة العلوم السائدة. عموما الشاعر اليوم يواجه الضغط القوي والاانساني للتاريخ وباختصار على الشاعر ان يحافظ على حماسه الشديد للكلمة واللغة رغم وقوعهما في اسر العلوم والتاريخ. فيما يخصني أنا اقل انبهارا بادعاءات العلم وسأظل في الأغلب منجذبا الى العلاقة الحية التي أحاول إقامتها مع التاريخ الأمر الذي دفعني من ناحية أخرى الى طرح تلك السلسلة من القصائد على القارئ والتي عنوانها: "امضي دون سلاح" لكي أؤكد ان الشعر لا يغترّ بالتاريخ وانه يملك نوعا من الوشاية لا تتعارض معه ومع كثافته النورانية على المستوى اللغوي. مما يطمئن "ضميري الشقي" أو "وعيي المريض"؟
وغدا في أي صحراء نكون...
هكذا فاجأني ونحن على ذلك العلو الشاهق من برج إذاعة مونتريال مشرفين على النهر الذي يحيط بالمدينة وعلى أشجار جزيرة "القديسة هيلانة" التي تتراءى في غبش الخريف الشمالي ضاربة الى حمرة.. فاجأني بقراءة أبيات للشاعرة العراقية نازك الملائكة... وكانت مدخلنا الى القصيدة.
* قلت له : ما القصيدة؟
ـ ما القصيدة ان لم تكن الأداة اللغوية الباحثة عن وحدتها الخاصة؟ أو سهما مرسلا نحو هدف غير مرئي؟ هناك في كل قصيدة تطلع نحو الوحدة عبر المتنافر، الأمر يتعلق بتوتر تناقضات لا نعلم ان كانت ستصل الى تركيب واحد ومتفرد. طبعا هناك شيء ـ من بروموثيوس (سارق النار في الأسطورة اليونانية) ومن ايكار ( الذي حاول الطيران الى الشمس في الأسطورة اليونانية كذلك) ـ داخل كل شاعر. وإذ يصقل الشاعر أداته اللغوية، إنما يسهر بذلك على اللغة ويبقيها حية، قريبة من ينابيعها، في ذاك البرزخ، عندما لم تكن للأشياء أسماء وقبل مبدأ التناقض قبل النبوءة بهذا المعنى تدخل القصيدة مجال المقدس الذي لا يقبل التجزئة والبتر وهكذا تعكس القصيدة "صور الروح" المدهشة.
* أي علاقة تؤسس مع اللغة؟
ـ علاقتي بالغة، في شمال القارة الاميركية، تقودني باستمرار نحو حالة ازدواج لغوي. إذن هي علاقة متوترة وعسيرة. وقد استقبل شعري الأول ـ رغم ان المجتمع ليس المقياس الوحيد لتفسير الشعر ـ على أساس انه يطرح سلسلة من العقد اللغوية، كان لابد ان تمر سنوات حتى أحلها ومن المؤكد ان هناك كذلك تأثير المزاج في اللغة فانا ابولوني (نسبة للآله اليوناني ابولون) في استعمالي للصور البلاغية كالطباق أكثر من ديونيزوسي (ديونيزوس اله يوناني يرمز للوجود الحسي: نيتشه) ربما كان هذا ناشئا أيضا عن علاقتي الأولى بالصورة الشعرية التي كانت علاقة انبهار وانخطاف و"انغمار كامل" كما يقول أبو القاسم الشابي بحيث أني الآن لا أستطيع ان افصل بين "الصوت ـ المعنى" (بول فاليري) عن إشعاع الكلمة انه الثالوث الجوهري لظهور الكلمة الشعرية داخل اللغة واللغة الفرنسية لا تتنفس حقيقة إلا بنوع من الإيجاز من الاقتصاد في الأدوات (رابليه وبوسوييه قد يناقضاني) الذي يتمركز في الجوهر الإشعاعي للكائنات والأشياء. هذه اللغة تبدو وكأنها الأداة الطبيعية لرؤيتي الشعرية إذا لم اقل طبيعة مادتي اللغوية التي سمحت لي بالوصول الى هذه الرؤية للغة الشعر؟
* ما هي طقوسك عند الكتابة كيف يأتيك الشعر؟
ـ كثيرا ما تأتيني القصيدة اثر الأشياء المرئية. من الضوء على ورق شجرة ومن مشاهدة مرور الإوز الوحشي الراحل نحو الجنوب. من النظر الى البحر من النظر الى الرمل. ـ والصورة التي تدركها العين تسكنها الحياة بشكل ما في مكان استقبالها النوراني إذ لاشيء عندي مفصولا عن النور مهما كان حاضرا أو غائبا وعادة ابدأ الكتابة باليد بدءا من هذا الانغمار الحسي في الأغلب وأحس بالضغط لدرجة ان الكلمة تتحرك وتنتظم في تيهان لا أستطيع إزاءه ان أخمن معناها ولا مبناها. بعد هذه المرحلة فقط بعد هذا المشوار الأول أحاول السيطرة على النص الذي كتبته كما يبدو للعيان ثم أطبعه على الآلة وهذا يساعدني على وضعه في زمنيته. أخيرا بما أني متأثر بالهايكو (نمط شعري) أكثر من الملحمة فان قصائدي ليست أبدا طويلة: خمسة عشر سطرا في المتوسط.
* هل تذكر شيئا من شجرة نسبك الشعري؟ من أي الشعراء تحس بقرب؟
ـ تأثرت بشعراء كثيرين من الصعب استعادتهم لنبدأ "ببندار" ثم بالشعراء الجاهليين وتغنيهم بالمرأة فالشعراء الجوالين (التروبادور)... دانتي بقوافيه وبتراركا وشكسبير. بعد ذلك كان علي ان أقوم بقفزة لأصل الى هلدرلين ونوفاليس الذي وضعت حوله كتابا اذكر جيرار دونرفال، وبودلير ورامبو، وريلكه، وجورج تراكل ووليم بطلريتس وهوبنكز وخاصة بيار جان جوف (شاعر فرنسي) ـ أستاذي الحقيقي كما أؤكد على الشعر الصيني القديم: الهايكو...كما لابد وان اذكر جملة من الشعراء أحس بقرابة معهم وينتمون الى ثقافات مختلفة وهم: جورج شحادة اوكتافيو باث جويناش (رومانيا) بافلوفتش (يوغسلافيا) ادونيس وصلاح ستيتية (لبنان) اديسون سيمونس (من الباناما) روبرت دنكن (الولايات المتحدة الاميركية) وجيراردو موراو (البرازيل) ماندلسام واخماتوفنا (من الاتحاد السوفياتي) انغرتي وزنزتو (ايطاليا) وآخرون كثيرون انفعلت بهم في لحظة أو أخرى. ولا بد ان أضيف أني أتنبه كلما رأيت أو سمعت الشعر، واشعر بالانبعاث وبأني محمول باني أعود الى ينابيعي ككائن حي ان كان ذلك بعد قراءة شعر لشاعر كيبيكي شاب أو بالنص الشعري " لألف ليلة وليلة" الذي يشع حسية.
* فرناند واليت، يبدو ان لك إطلاعا مهما على النص الشعري العربي؟
- أحس ذلك من خلال استشهاداتك الكثيرة؟ ـ ما اعرفه عن الثقافة العربية قليل.. اعرف عن الثقافة العربية القديمة شيئا من الشعر وشيئا من التصوف. من الشعراء المعاصرين لا اعرف إلا المثبتين في الانطولوجيات الشعرية الصادرة بالفرنسية.. اعرف شعراء من لبنان والجزائر والمغرب. نحن لا نعرف العرب إلا من خلال الترجمات القليلة... قصيدة مترجمة منقولة من لغة الى أخرى من الصعب ان تحكم لها أو عليها.. ونظل نجهل إنشاد هذه اللغة العربية كما هو قراءاتي للمتصوفين العرب تعود الى الخمسينات وذلك من خلال ترجمات لويس ماسينيون ولويس غاردي ولي علاقات بالذين يكتبون بالفرنسية
****
الحوار الثاني
وبعد سنوات..عدت مرة أخرى إلى منتريال و اتصلت بفرنند واليت لأرى إلى أين مضت تجربته الشعرية في دروبها الغامضة، دروب الشعر الشبيهة بشعاب الوجود كما يرى هيدغير
هدف الشعر أن يؤسس النشيد
أكتب لأظل على علاقة بالمجهول.
الشعر لغة إبداع اللغة
منتريال - من خالد النجار:
فرنند واليت شاعر يقول الصمت، يقول ما هو لا مرئي في الأشياء، يقول بعدها الميتافيزيقي، أي بعدها الشعري، حقيقتها و القصيدة لديه هي ترجمان هذا البعد. إنها - كما يقول في نصه التنظيري " القصيدة و الشعر " - عيد فصح، مسار حر، بسيط وزمني. وهي تنبثق شرارة، لتضئ الوجود، الوجود الذي هو خفاء و تجلي. و لتقول هذا، فهي تتوسل لغة نظرة، لغة مجردة من معانيها الاصطلاحية، ومن سياقاتها اليومية. و لأن مقترب فرنند واليت وجودي، أنطولوجي. فهو شاعر كوني بالضرورة. ينتمي إلى العائلة الوجودية الكبرى. تمتد أعراقه الشعرية إلى هيراقليطس، و لاو تسو. أسلافه دانتي، و غونغورة، و جون دون، و جورج تراكل، و، و حتى بييرجون جوف، وإيف بونفوا، " تلك العائلة الروحية كما يقول التي مثل الشجرة تمد جذورها في أحشاء الأرض المظلمة، لتمنح أوراقها لبحر الشمس الشاقولي "
وفرن ند واليت يعد مع مواطنه غاستون ميرون ( الذي رحل عن عالمنا أخيرا )، أهم ممثلي الشعر الكيبيكي اليوم. فإن كان ميرون شاعر القصيدة التي تصغي و تصدي التاريخ. فإن فرنند واليت شاعر الضوء الوجودي، الذي يؤسس عالمه....بدأ واليت النشر منذ الخمسينات، له عدة مجاميع أمريكية. شعره إلي أكثر من خمسة عشرة لغة، و كتبت حالأميركية.كثيرة، في كيبيك و فرنسا، و الولايات المتحدة الأميركية . كتب المقالة، و السيرة و، الرواية، و الدراسة، و كلها نابعة من سؤاله الشعري، ومن اصطدامه بالتاريخ كشاعر. ولم يكتب ما كتب تحت أي هاجس أكاديمي. نال عدة جوائز عدّة، أهمها الجائزة الوطنية الكبرى في الكيبيك منذ سنوات. . و هذا لقائي الثاني معه، فقد تعرفت عليه أول مرة في فاتحة الثمانينات، في خريف بعيد. في بيته في الضواحي، ثم في راديو كندا. أما هذه المرة فقد انتحينا ذات ظهيرة شتائية ركنا في مطعم إيطالي بشارع سانت كثرين هربا من البرد..
* أبدأ بسؤال الهوية الشعرية و الإنسانية، طبعا أقصد مجرد إشارات؛ فالمجالان لاعقلانيان، و من العسير تحديدهما... أنت كيف يتبدى لك فرنند واليت ؟ وما هي علائقه بالكتابة ؟
ـ الحقيقة، هذا ليس سؤالا يسيرا: " من أنا ؟ " في الحقيقة، كان لدي، ومنذ مراهقتي حماس مشبوب، و إجلال للكتابة و الكتاب. إجلال لا حدود له، إجلال كبير للآداب. و لكن لم أكن أدري وقتها أني أنا نفسي سأصير كاتبا في يوم من الأيّام. لقد سبق شغفي بالكتابة، فعل الكتابة. و اليوم يحزّ في نفسي أن أرى نوعا من اللامبالاة بالأدب حتى لدى الكتاب أنفسهم. لم يعد للناس ذاك الهيام الذي كان لهم في الماضي بالأدب. هيام يكاد يكون مثاليا. وقد خبرته أنا نفسي، وكان في جوهره رومانسيا جدا. أجل ربطتني علاقة رومانسية جدا بالأدب، و اليوم لا يمكن أن نحافظ على نفس هذه العلاقة؛ فنحن معشر الكتاب لم نعد نتعيش من الكتابة. على الكاتب اليوم أن يجد وظيفة أخرى يعيش منها. لقد مضى زمن البرجوازيين الكبار؛ زمن الكتاب الذين تحتضنهم العائلات الكبيرة، أو الأمراء، انتهى كل هذا. و نحن نعيش اليوم داخل مجتمع أكثر قسوة بالنسبة للكتاب. على الكاتب اليوم أن يعمل ليعيش. و هذا يمنح الكاتب في الآن نفسه حرية أكبر؛ فهو غير مرتبط بأي جهة تدفع له مثل رعاة الأدباء، أو الدولة، مما يمنحه كما قلت حرية أكبر؛ تلك الحرية التي هي شرط أساسي، حتى يصير الكاتب كاتبا بحق. الكاتب الحر هو الذي يتطابق مع كينونته. إذن إذا أردت أن أقدم نفسي، فأرجو أن أكون كاتبا حرا؛ طبعا في حدود الحرية التي نستطيعها، فكل شيئ نسبي. أنت تدري أن هناك تناقض بين مختلف قيمنا الخاصة، و أننا نحاول باستمرار إرضاء هذه القيمة أو تلك؛ وهو أمر ليس باليسير. و الحرية هي هذا الجهد الذي نبذله للتوفيق بين هذه وتلك من القيم؛ وصولا إلى التعبير عن الحقيقة العميقة لكينونتنا... إذن أرجو أن أكون قد حققت هذه الحرية.
* ما هي النصوص الأولى التي ساهمت في صياغة مصيرك ككاتب. إذ يقال أن هناك بعض الصور الأولية تطبع الإنسان في بداياته، و ترمي بظلالها على مصيره ؟
ـ واليت: لقد انجذبت أول الأمر إلى الشعر، الشعر الذي هو التكثيف الأقصى للغة. إنه اللغة الأولانية ، لغة الإلهام ، لغة تعيد خلق اللغة ؛ بحيث أني بدأت شيئا فشيئا ، و على امتداد السنوات أفكر بالنثر إلى أن توصلت أول الأمر إلى كتابة مقالات ، كانت أولها دراسة عن حياة الموسيقي الفرنسي الأميركي " إدغار فاريس " . ثم كتبت دراسات أخرى كثيرة: عن اللغة و مفهوم التسامح، و السلطة الطالبية - أيام الثورة الطالبية؛ وهكذا وبداية من الستينات اشتغلت بتحليل المشاكل الاجتماعية والثقافية، بعدها، و في وقت متأخر جدا انتهيت إلى كتابة الرواية. في الثامنة و الأربعين نشرت أول رواية؛ ومن ذلك التاريخ صدرت لي ثلاث أعمال روائية؛ كما نشرت عددا لا بأس به من الدراسات، و القصائد الكثيرة. فأنا أعتبر نفسي شاعرا بالدرجة الأولى، شاعرا قد ينقلب أحيانا إلى كاتب؛ بالمفهوم الذي يقصده " رولان بارت "، أي أني على وعي بأنني أمارس الكتابة كعمل. و أنا كذلك كاتب بكل ما تعنيه كلمة كاتب من معاني المسئولية و الالتزام. كاتب يعتقد أن الكتاب مسئولون عن نصوصهم؛ المسئولية نفسها التي يتحملها أي مواطن إزاء مجتمعه.
* ألا ترى في عبورك من الشعر إلى النثر، نوعا من التكرار - على مستوى تاريخك الشخصي - لتجربة تاريخ الآداب الإنسانية، التي تبدأ بالشعر و تعبر إلى النثر، و هو ليس مجرد تحول خارجي لشكل الكتابة. و إنما هو " طقس عبور " مصاحب لتحول روحي، داخلي. و كأن الفرد يعيش مرة أخرى في حياته القصيرة دراما ومراحل و حقبات الحضارة الإنسانية، و بشكل مختزل ؟
ـ واليت: أجل، نحن نعيد في حياتنا الخاصة كل حياة الحضارة.. و لكن أعتقد أن ما هو أساسي بالنسبة لتطوري كشاعر؛ ليس كتابتي للروايات، بقدر ما هو هذا المرور من الشعر إلى النثر. فالشاعر يصير أهم شعريا بكتابته للنثر. وأنا أعتقد أن الشاعر الذي لا يكتب سوى الشعر، كثيرا ما يكون نصه سديمياً، لا شكل له، و ينقصه الوضوح. لأن كل هذا الاشتغال و المصابرة على اللغة الذي نقوم به في النثر، يساعد الشاعر على الكتابة؛ حتى يصل إلى إنجاز قصيدة أكثر جدة، و أكثر تنوعا.
* كثيرا ما تحدثت عن الشعراء الفرنسيين، عن قراءاتك لهم، و تأثرك بهم، وخاصة قراءتك الأساسية ل "، بيير جون جوف ". اليوم ماذا بقي لك من هذه القراءات ؟ خاصة مع تقدم العمر واكتساب الخبرة الحياتية و النصية، ففي هذه السن تصير حياة الشاعر و الفنان هي نبع إلهامه.
ـ واليت: أعتقد أنني وصلت إلى مرحلة من تطوري، و إلى سن تخف فيها التأثيرات الخارجية، و لا أعني بذلك أنه لم يعد هناك من يغذيني روحيا؛ أجل، ما يزال هناك أناس كثيرون أفيد منهم؛ حسب صدف القراءة. و الرائع في الشعر أنك كلما قرأت لشاعر حقيقي أخذك. و تمنيت لو كنت أنت كاتب هذه القصيد ة. وأنا كلما أكتشف قصيدة جديدة أحس بروعة البدايات. لأن كل قصيدة تظهر لشاعر حقيقي هي دائما شيئ مبهر، شيئ يضيؤنا من الداخل. إن لغة الشعر في الخلاصة، هي لغة الإشراقات. لأجل هذا فإن العثور على شاعر جديد هو دائما شيئ فوق العادة. أما في سن العشرين فالتأثر يكون قويا؛ لأننا أولا، لم نمتلك بعد أدوات المهنة، تقنيتها. و لكن ما أن نمتلك الحد الأدنى من صناعة الكتابة، وما أن نصير نحن أنفسنا عالما قائما بنفسه، عالما تراجيديا؛ حتى نبدأ بطبيعة الحال -شيئا فشيئا و مع مرور الزمن - بالتحرر، و بوضع مسافة بيننا و بين كتابات الآخرين. و إذا ما اشتغل الإنسان جيدا يصير له صوته الخاص؛ يصير ذاك الشاعر المميز الذي له وجهته الخاصة، و قوته و طاقته المميزتين، و قاموس مفردات- مفاتيحه الشعرية كالمجموعات الشمسية يستعملها وتصير هي كلماته العادية التي يسمي بها الأشياء.
* هنا تلتقي بإشكالية القراءة؛ التي هي إشكالية الإبداع؛ فالقراءة الحقيقية هي إعادة خلق للنص، أو هي الخلق الثاني له. فالنص يظل ميتا حتى يقرأ. و بهذا المعنى فإن قراءتنا للآخرين هي مساهمة في نصوصهم، و بهذا المعنى أيضا تكون القراءة اكتشاف لجانب من أنفسنا في نص الآخر، و أنا أطبق هذا على قراءتك لبيير جون جوف. فماذا اكتشفت في نفسك من خلال نص " جوف " ؟
ـ واليت: أجل، لو لم يكن بيير جون جوف في نفسي ما كنت اكتشفته.
* إذن اكتشاف جوف هو اكتشاف لأحد أبعادك ؟
ـ واليت: آه، ماذا اكتشفت ؟ اكتشفت كينونتي، و إذا شئت أن نتحدث عن تجربة الضوء، فقد كان لدي إحساس أني اكتشفت طريقي إلى دمشق (الطريق الى دمشق هي قصة رؤيا بولس المفزعة والتي جعلته يكتشف الحقيقة )، كان نورا باطنيا، لقد عشت تجربة صدمة النور، و الدخول في النور، وهي تجربة الى حد ما صوفية، ساعدتني على معرفة من كنت. و وقتها شرعت في الكتابة. يعني دفعتني إلى الكتابة. فبعد هذه التجربة بدأت بكتابة قصائدي الأولى. قبلها لم أكتب مطلقا. إذن كانت هذه القراءة صدمة في حياتي، وقعت في سن محددة جدا؛ و هي الواحدة و العشرين. و من تلك اللحظة صرت إنسانا آخر، إنسانا يعيش انبعاثا حقيقيا، إنسانا كان لا بد أن يمر بتجربة النور ليصل إلى هذا الانبعاث الذي طبع حياتي بأسرها، و سيظل يتذكر هذه الخبرة باستمرار. لقد بقيت طوال حياتي موسوما بهذه الكتابة التي هي بدورها موسومة بالنور.
* هذه التجارب الشعرية/ الروحية نادرة لدينا الآن. فشعرنا العربي اليوم غنائي في مجمله، لغوي.الصور البلاغية تتقدم فيه على التجربة الروحية.. .تجارب النور، و المطلق، و الكينونة عامة؛ عرفناها في شكلها الصوفي الديني القديم، مع أصوات باهرة من أمثال: المعري، و التوحيدي، و الكرماني، و الحلاج، و السهروردي، والنفري، وابن سبعين، اليوم طغت البلاغة الخاوية، والإديولوجيا، باستثناء بعض الأصوات، وبعض القصائد النادرة، فالناس مشغولون في العالم العربي بالقضايا الإجتماعية؛ و كل ما هو روح تولاه الخطاب الديني. أنت ماذا عني لديك النور ؟
ـ واليت: هذا النور منح معنى لحياتي؛ حياتي كلها منبهرة و مستقطبة بالنور. وكل ما له معنى في حياتي، إنما أكتسب معناه من خلال النور. و أعتقد أن الشعر لا بد و أن يفضي إلى النور، إنه اللغة التي توغل في النور، هذا هو الشعر. و قد أحسن ريلكه عندما قال: " الكون بأسره، لا بد و أن يمضي من المرئي إلى اللامرئي " و أنا أضيف تنويعا على هذا الفهم للشعر. إذ، أعتقد جازما أن الوظيفة الجوهرية للشاعر، تتمثل في أن يمظهر اللامرئي، من خلال المرئي. أي أن يجلي الآخر الذي لا نستطيع إدراكه، أي أن يظهر كل ما هو مرئي و ما لا يمكن إدراكه بالحواس.يجعله الشاعر يتجلى في النور. هذه هي وظيفة الشعر. و الآخر الذي أقصده؛ هو الله بشكل أساسي.
* هنا تلتقي كما ذكرت ، و بشكل ما بالمتصوفة المسلمين : بالسهر وردي المقتول في كتابه " هياكل النور " ( اللهم اجعل من خلفي نورا و من أمامي نورا ...) ؛ و بالنفري في موقف نور ، وب" كتاب النور " الذي للسلهجي ؛ وهو في مناقب أبي يزيد البسطامي . فالنور لديهم طريق المعرفة الذوقية.
موقف نور
أوقفني في نور و قال لي لا أقبضه و لا أبسطه و لا أطويه ولا أنشره ولا أخفيه و لا أظهره. وقال يا نور انقبض و انبسط و انطو وانتشر واخف واظهر. فانقبض و انبسط وانطوى وانتشر و خفي و ظهر، ورأيت حقيقة لا أقبض وحقيقة يا نور انقبض. النفري
ـ واليت: ربما؛ و لكن هذا لا يعني أن الشعر هو وظيفة دينية، بيد أن الشعر هو في ذاته مقدس، ومن خلاله يتجلى المقدس، و لكن ليس للشعر وظيفة دينية بالمعنى الدقيق؛ فليس من أهدافه أن يكون طريقا إلى الله بالمعنى الدقيق. فالشعر لا يوجد في علاقة دينية، ففي هذه الحالة سيحيد الشعر عن هدفه. و هدفه في الأخير يتمثل في أن ينشئ كائنا لغويا. كائن له وجوده الأبدي ككائن لغوي؛ و هو يتجلى كما أرى في نور الله، و إلا فإنه لن يظهر. هذا اعتقادي الشخصي. ليس هذا هو الهدف الوحيد للشعر في ذاته. هدف الشعر أن يخلق كائنا لغويا جميلا، أن يخلق " النشيد " نشيدا بواسطة الكلمات.
* لماذا تكتب ؟
ـ واليت: أكتب حتى أظل على علاقة بكل ما خفي عني. و يخيل لي أني أدرك عن طريق الكتابة ما لا أعرفه، ما لا أكتنهه. إذن الكتابة، هي بالنسبة لي فعل معرفة. أولا معرفة نفسي. فالكتابة تجعلني أكتشف نفسي، إذن بقدر ما أكتب أتعرف على نفسي. و بعد الكتابة، تكون معرفتي بنفسي قد ازدادت. كما تزداد أيضا معرفتي بالعالم، وذلك لأني كشفت عن اللامرئي فيما أدركت من المرئي. وذلك من خلال ما رأيته، و لاحظته. وهكذا أكون بممارسة الكتابة قد ذهبت ألقى أشياء لم يلقها أحد. و هذه هي وظيفة الشعر.
* للكتابة أيضا بعد اجتماعي، ليس بالمعنى السياسي والإيديولوجي. و إنما بمعنى أن الكتابة تكون أيضا جغرافيا، مكانا تكشف من خلالها الشعوب نفسها، هويتها، أقول وجودها. يعني أن الشعوب التي لم تتجلى في نص أدبي؛ هي غير موجودة. بل لم توجد مطلقا ؟
ـ واليت: صحيح. يبدو أن الوجود الحقيقي للأشياء لا يتم إلا عبر اللغة، وفي اللغة. و بدون اللغة لا نستطيع أن نعرف شيئا مهما عن أي ثقافة، بل يعسر إدراكها. فنحن ندرك كل شيئ من خلال اللغة، و نحن لا نستطيع أن نمسك بالعالم بدون بنية الدماغ التي تدركه باللغة، وهذه البنية هي نفسها كانت قد تشكلت لغويا، أي أنها بنية صنعتها اللغة. و هذا يعني أننا ككائنات بشرية، نحن صياغة لغوية. و اللغة تتحكم في فهمنا للعالم. إذن اللغة هي الرحم بالنسبة لنا كبشر. يعني تخلقنا فيزيقيا (. فاللغة تشكل الدماغ )، ونحن نولد ثانية ككينونة داخل اللغة، و بوساطة اللغة صرنا بشريين ننشد النضج، و الوعي. إذ بدون لغة، ليس ثمة وعي.
* نحن نسكن الكلمة.
ـ واليت: و الكلمة تسكن فينا. اللغة هي المجال الذي نسكنه، و في الآن نفسه هو الذي يحددنا.
* هيدغير هو الذي يقول اللغة بيت الكائن.
- واليت : أجل إنها بيت الكائن.
* أعود إلى نصوصك النثرية؛ هل كتبت النثر لأجل، أيضا منح وجود لغوي - أسطوري الكيبيك ؟
ـ واليت: الكيبيك هي في النص الشعري أولا؛ و في النص النثري بعد ذلك. و حتى يعي هذا الشعب نفسه فلا بد من وجود كتاب يعون بهذا الشعب.
* أكان هذا دافعك للانتقال إلى النثر ؟
ـ واليت: كان تحولي إلى النثر ضروري، لأني و في لحظة من حياتي وجدت نفسي ملتزما بقضايا، مثل قضية الازدواج اللغوي و ذلك بداية من سنة 63. و هكذا انتقلت إلى النثر، لأن النثر يمنحنا لغة شديدة الدقة تساعد على نشر الوعي لدى الآخرين، و ليتمكن الآخرون من مشاركتنا بشكل دقيق في مشاكل محددة جدا. ونحن لا نستطيع أن نفعل هذا إلا بوساطة النثر. الشعر لا يقدر على النهوض بهذه المهمة؛ إنها ليست وظيفته و ليس دوره. الشعر يخلق مساحة لغوية نستطيع أن نكتشف داخلها الكائن، نستطيع أن نكتشف داخلها اللا نهائي لا أن نناقش قضايا عامة.
* آخر ما قرأت لك كتابك الشعري: " داخل الليل، هناك البحر " وأذكر في حينها أني نقلت بعض قصائد منه للعربية... كان ذلك في لقائنا الأول هنا في منتريال قبل سنوات؛ ذات خريف مشمس و بارد في بيتك بالضواحي؛ و أذكر أنك أريتني و نحن ندلف إلى البيت قرب المساء، الشجرة التي زرعتها بالمدخل، و علقت قائلا: " ها أنا زرعت شجرتي كما يقول المثل الصيني؛ وكتبت كتابي " وهو رمز لتحقيق الذات. و قد عادني في تلك اللحظة حديث مأثور عن الرسول يقول ما معناه " أحسنكم من كتب كتابا، و أنجب ولدا " جاءني تحت تلك السماء المنخفضة قرب حوض نهر سان لوران في الشمال الكبير؛ بعيدا عن صحاري العرب، و بدا هذا الحديث غريبا عن مناخه الجغرافي...ولكن وللحظة هيئ لي أني أسمع همهمة الخيول بظاهر عمان.....
و شعرت أني ابتعدت قليلا، تهت وراء صور الماضي. و لكن فرنند واليت استمر يتكلم كأنه هو أيضا يسترجع شريطا. كان كل منا بعيدا عن الآخر و مستغرقا في ماضيه؛ قال:
ـ واليت بدأت حقبة " داخل الليل، هناك البحر " آخر سنوات السبعين، و قد تزامنت كتابة هذا الديوان مع كتابة الرواية. إنها قصائد مرحلة النضج. فقد بدأت بكتابتها و أنا في الأربعين. قبله نشرت كتابين شعريين، لفتا انتباه النقاد، وهما: " ملائكة الدم هذه "، و " أشعار ". إثرها وصلت فيما يبدو لي إلى كتابة شعر أكثر نضجا، بمعنى أنه شعر أكثر اقترابا من النور بالفهم الذي أقصده. أكثر اقترابا من الكائن، أكثر ميتافيزيقية، وأوغل في ثراء العالم ممثلا في عناصره الأصلية، التي هي بالنسبة لي: البحر، و الليل، والضوء، و الشمس؛ وكل عناصره الأساسية التي أشتغل عليها. لأنه في هذه العناصر - الكلمات يتجلى لي اللا نهائي، و قد يتجلى لغيري في الشجر أو في أشياء أخرى.
* ألا ترى في هذا المقترب الشعري ملمحا بيرسيا، ( نسبة للشاعر الفرنسي سان جون بيرس ) فهو المحتفي الأكبر بعناصر الكون ؟
- واليت : لا أدري.
يضحك، وكأنه لا يريد أن يقول أشياء يكتمها، أو لا يريد أن يجري مقارنة بينه و بين سان جون بيرس.
وأمعن في المقارنة وأقول له:
* أليس سان جون بيرس هو الذي يستحضر عناصر الكون عارية في متنه الشعري من: شموس، و رياح، و بحار، و ثلوج، و صحاري ؟
ـ واليت: لأن سان جون بيرس شاعر احتفالي كبير. يحتفي بالعالم بطبيعة الحال، و لكنه يعتمد في نصه على ألفاظ من المستوى اللغوي الثاني؛ يعني ألفاظا يستعيرها من الثقافة؛ و من التقنية؛ و من العلوم. فهو مثلا عندما يتكلم عن الزهور يستعمل قاموسا محددا جدا؛ وهو يدخله بأسره في متنه الشعري، فلديه وفرة و ثراء لغوي كبير، يمكنه من الدخول في مقاطع غنائية؛ حيث يحاول امتلاك العالم من خلال الرصيد اللغوي الدقيق لعلوم النبات؛ و الحيوان...الخ..الخ. وليس هكذا هو شعري، لأن قاموسي ظل محكوما بمزاجي الشعري أي في المستوى اللغوي الأول. فأنا عوض أن أقول: " شجرة الإيرابل " و هو ليس بالتعبير الشاعري جدا، أقول الشجرة. أنا أستعمل باستمرار لفظ المستوى اللغوي الأول، اللفظ الأساسي. أقول الشجرة، الحيوان، و لا أقول " الأيل " أو أي شيئ آخر. وأنت قليلا ما تجدني أستعمل رموزا أو ألفاظا من المستوي اللغوي الثاني. في حين احتفظ " جون بيير جوف " بكثير من الرموز من المستوى اللغوي الثاني. ورمز " الأيل " لديه مهم جدا.أما بالنسبة لي فليس له كبير أهمية. أنا أستعمل دائما ألفاظ المستوى الأول للغة. وربما لهذا السبب يسهل مرور شعري في اللغات التي ينقل إليها، لأنه يظل ملتصقا بالمعنى الميتافيزيقي للأشياء. فشعري يقول الشمس. و البحر، و الليل. و لكنه لا يقول الشفق، لأنها كلمة تكاد تكون تنتمي إلى القرن التاسع عشر. في البدايات كنت أستعمل كلمات مثل الفجر، و الشفق.... ..الخلاصة أني أستعمل بشكل عام كلمات المستوى اللغوي الأول، و لست مثل بعض الشعراء الكيبيكيين الذين يعتمدون على قاموس شعري مستقى من المستوى الثاني للغة؛ فتراهم يسمون في شعرهم كل النباتات الكندية، و كل أسماء أشجارنا، مثل الشاعر" بول ماري لابوانت" تجده يستحضرها حتى في قصائد سريالية. ليس هذا همي الشعري، ما أريده من الشعر هو الإيغال في العالم لأقول اللامرئي، و لا أستطيع ذلك إلا من خلال مقترب ميتافيزيقي، و المقترب الميتافيزيقي يتطلب قاموسا من المستوى اللغوي الأول، لأن لغة المستوى الثاني، هي لغة الاحتفال بالعالم، لغة التغني به. و أنا لست شاعر الاحتفاء بالعالم بالمعنى البيرسي. لغتي مصفاة، و متقشفة، و بسيطة. و إذا كان من الممكن أن أسمح لنفسي بأن أقارن لغتي بلغة سان جون بيرس - التي هي لغة إنشادية عظيمة - أقول أني أكثر قربا للمقدس مني إلى العالم بالمعنى البيرسي. وليس أكيدا أن بيرس مؤمن. أما أنا فإن موقفي الروحي حدد علاقتي باللغة، و بالعالم. هذه هي طبيعتي الشعرية، و هذا هو مناخي الشعري. و اختلاف الأمزجة و المناخات الشعرية، ثراء للشعر.
*كيف استقبل نصك الشعري في فرنسا ؟
ـ واليت - المؤسف أني ظللت أتقبل باستمرار في فرنسا بوصفي شاعرا كيبيكيا؛ وأنا أريد أن أقرأ هناك كشاعر فقط و ليس كشاعر كيبيكي. هناك فرق كبير بين الحالتين. و إذا ما نشرت لنا مجلة فرنسية شعرا؛ نشرته بوصفه شعرا كيبيكيا. باستثناء كتابي الشعري الأخير: " الساعات "، ظهر و كأني شاعر فرنسي، بدون أي فرق. و لكن استغرق ذلك زمن. تدري أنت أن الفرنسيين شوفينيين الى حد ما. و يخيل لهم أن اللغة الفرنسية وقف عليهم. نحن أيضا نستعمل اللغة الفرنسية، و نستعملها بطريقة تختلف عنهم. إذن فليس من السهل أن يقع تقبلك في فرنسا. لأنها كانت دائما هي المركز. و التأثير يجئ عادة من المركز، ليندفع في اتجاه الأطراف، و ليس العكس.
* نجد أيضا باريس تمارس نوعا من الأبوة إزاء الأطراف ؛ كما أن علاقة الأطراف بالمركز مزدوجة أكاد أقول شيزوفرينية .علاقة المثقف الفرنكوفوني المغربي، أو اللبناني بالثقافة الفرنسية تنطوي على مفارقة درامية. إذ تشكل فرنسا في وعيهم مثالا، وفي الآن نفسه موضوعا للتحدي، مما ساهم في دفع الآخر الفرنسي إلى تقمص دور الأب هذا.إنها علاقة حب، و كراهية في الآن.
- واليت : هذا مبرر إلى حد ما . ففرنسا بلد كانت لها مستعمرات، و شكلت في وقت ما إمبراطورية، وبطبيعة الحال نحن من الهامش، من العالم الفرنكوفوني. و هذا شيئ آخر. إننا بالنسبة لهم، ليس لنا ما نلقنهم إياه نحن الشعراء الكيبيكيون؛ أو التونسيون، أو البلجيكيون، أو السويسريون. في حين أن العكس هو الصحيح، إذ عليهم أن يتعلموا من هؤلاء الشعراء السويسريين و البلجيكيين، و المغاربة، و الكيبيكيين.
* لا تنس أيضا أن الثقافة الفرنسية تبشيرية في إحدى أبعادها. والتبشير جزء من هوية الثورة الفرنسية؛ وهو أيضا مؤسسة، و عقلية فرنسية؛ فكيف تريد من المبشر أن يأخذ الدروس من الآخرين؟
-ـ واليت : أجل صحيح، و هناك أيضا مركزية قوية، متفاقمة، لها تأثير سيئ على أدباء الأقاليم أيضا. نحن كذلك بالنسبة إلى باريس، إقليم كبقية الأقاليم. الأدب الكيبيكي أدب آخر؛ إنه اختلاف، و ثراء. لا غنى في العالم بدون هذا التعدد. مثلا، صحافي تلفزي باريسي كبرنار بيفو، نادرا ما نراه يقدم كتابا كيبيكيين. و لو كنا نكتب بلغة أخرى غير الفرنسية، لكان الاهتمام بنا أكبر في باريس. أما و نحن نكتب بالفرنسية، فلا أهمية لنا. و كأن لسان حالهم يقول: ماذا سيضيف هؤلاء لنا - نحن الباريسيين - و هم لديهم مثلنا: مونتانيي، و روسو، وراسين و فولتير، و شاتوبريون.
* يكاد يكون هذا هو نفس موقف الأدباء المغاربة من المشارقة في عالم العرب، فالمركز بالنسبة لنا هو المشرق العربي. هناك المتنبي، والمعري، وأبو نواس. و الشعر الجاهلي. باختصار النص المرجعي الأساسي. حتى أن المغاربة كتبوا إبان القرون الوسطي كتابا موسوعيا ذكروا فيه النبوغ المغربي؛ وهو كتاب عنوانه يشي بموضوعه. إذ يسمى: "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة ". يقصد محاسن المغاربة الأندلسيين في مقابل المشارقة.
- واليت : أجل، هذا هو مصير الثقافات التي تنمو خارج جغرافيتها، المركز لا يقبلها بسهولة. إذ للمركز تقاليده، وماضيه الذي ترسخ. إنها مشكلة أرومة فرنسية؛ لقد جئنا: من بواتو، و من باريس، و من النور مندي. إنها مشكلة الكائن الكيبيكي ، و مشكلة كل الشعوب الصغيرة .
* فرنند واليت، أريد أن أسألك عن كلمات تبدو لي أساسية في الشعر، و في الوجود؛ بل هي ينابيع الشعر القصية. الكلمة الأولى: الموت؟
ـ- واليت: ما نعرفه عن الموت هو أننا نمضي، و ندري حسب العقيدة أنه ثمة حياة أخروية تبدأ، أي أنها بعث حقيقي. ندري أن الكائن ينتهي في الصمت. ماذا يحدث له في ذاك الصمت ؟ عندما ، ظاهريا لا يكون هنا ، أين يكون إذن ؟ من يكون ؟ و كيف يستمر ؟ و في أي نور هو ؟ الموت في ذاته بسيط ، إنه نهاية صيرورة بيولوجية .
* و الصحراء ؟
- واليت : هي أيضا تمثل بالنسبة لي اللا نهائي ، ، صورة الصحراء ، تمثل مجالا آخر للانهائي ، و أنا لم أر مطلقا صحراء حقيقية . حتى صحراء الثلوج لم أرها.
* والحب ؟
- واليت : إنها الطريقة الجوهرية للكائن البشري ليتمكن من الدخول في علاقة مع الآخر. لا يمكن أن تكون هناك علاقة حقيقية و عميقة بين شخصين إلا إذا كان هناك حب، و حتى الصداقة هي صورة من صور الحب.
لا يمكن أن ينخرط الإنسان في علاقة حقيقية إلا إذا ما كانت علاقة حب أو صداقة. وما عدا ذلك؛ هي علاقات سطحية، علاقات اضطرارية، علاقات لا يلتزم فيها الإنسان بكليته. و الكائن البشري لا يستطيع أن يبذل نفسه للآخر إلا من خلال الحب، أو من خلال الصداقة. وهذا أمر جوهري بالنسبة للإنسان. و لأن الله محبة، فإن كل علاقاتنا الأساسية هي علاقات معه. إذن نحن وجود يسبح في المحبة الإلهية. و في انتظار المطلق نصادف في الأثناء بشرا نحبهم. و رجاؤنا أن نأخذهم معنا. و نظل معهم إلى الأبد.
******
نصوص للشاعر:
صيحة البعيد
سيعتبرونني غائبا
لكنني سأكون صيحة
ترجيعا من بعيد
السعادة
إذن لاشيء يكسر
الأوراق
أو يغلق البحر.
النهار يبدو كالمغمور في الشجرة
الساعات تمر
التأملات نورانيّة.
من ظهره للموت
كيف لا يعرف المحبّة؟
لنترك الجسد
سيل الذهب في الروح.
الباقة
عندما اسهر قربك بالليل
كلمات الأموات تأتيني
وكليا امنح العتمة
وليس البحر
أي حضور
وأي أذن يجب ان تكون لي؟
حتى اجعل كلمتي سمراء
أو اتركها تنضج:
ككرمة وحيدة.
حينئذ ستضوع رغبتي
كباقة.
الجنون
عندما تلامس سمكة مرآة
ثم تغطس من جديد
فالحراشف مشرعة كالكلمات؛
تكون قد حصلت على كل شي
وللأبد تستطيع ان تحوم
في التيارات وأماكن الإغماء.