الشاعر المصري حلمي سالم صاحب تجربة إبداعية ثرية. من أبرز شعراء جيل السبعينات في مصر، أصدر نحو 16 ديواناً شعرياً آخرها ديوانا «حمامة على بنت جبيل} و «الثناء على الضعف». ترجمت قصائده إلى الكثير من اللغات، وألّف عدد من الكتب الثقافية والنقدية أشهرها كتاب «ثقافة كاتم الصوت». يترأس حاليا تحرير مجلة «أدب ونقد». نشر قصيدة «شرفة ليلى مراد» في مجلة «إبداع» فكانت سبباً في مصادرة المجلة ورفع دعوى «حسبة» ضد الشاعر بزعم أن القصيدة تحتوي على مساس بالذات الإلهية.
معه هذا الحوار.
*أي دور يؤديه الشعر وهل يساعد في عملية التغيير في المجتمع؟
للشعر والفن عامة دور أساسي في تغيير العالم والمجتمع إلى الأفضل. هذه مهمة الفنون لكن في بعض الأحيان تظهر آراء أو تشيع مزاعم وأوهام بأن الفن انتهى دوره وبأن الشعر انتهى دوره ولم يبق ديوان العرب وبأن الرواية صارت ديوان العرب الحديث وبأن الفنون عامة اضمحلت واضمحل دورها في التغيير. هذا كله كلام غير صحيح. سيظل الشعر وستظل الفنون عامة حاجة ضرورية للإنسان. قد لا يقوم الشعر بدور مباشر وفوري في تغيير المجتمع، وهذا تصوّر خاطئ لدى كثر، فيظلمون الشعر. كثيرون يتوقعون من الشعر تغيير العالم! هذا غير صحيح. ليس مهمة الشعر والفنون التغيير المباشر للعالم. الشعر لا يصنع الثورات، بل تصنعها الشعوب. لكن الشعر يساهم في رُقيّ الوعي الجمالي لهذه الشعوب وتوسيع إدراكهما للمأزق الذي تعيش فيه وتعميق الشعور بالانفتاح على هذه الدنيا أو على المجتمع. من رقي وعي الناس الجمالي وإدراكهم لمجتمعهم يتكون الوعي الذي يساهم في ما بعد في النقلة الحضارية أو التغير الاجتماعي أو الثورة السياسية والاجتماعية - سمها ما شئت- لكن ليس هناك تصوّر مباشر عن أن الشعر يغير الدنيا. بل يغير الذين سوف يغيرون الدنيا. أي أنه يساهم في تغيير الإنسان الذي سيصنع الثورة. لم نسمع قط عن قصيدة في التاريخ القديم أو الحديث ما إن قيلت حتى تهاوت عروش الطغيان وانهارت ممالك الظلم.
*ما رأيك في شعر العامية وهل تراه أشد تأثيراً من الشعر الفصيح؟
الشعر العامي، المصري بخاصة، جزء من التجربة الشعرية وغير منفصل عنها. نقول دوماً إن النقلة الشعرية الحديثة في مصر قامت على كتابات الرواد أمثال صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل ومحمد عفيفي مطر في الشعر الفصيح، وعلى أكتاف فؤاد حداد وصلاح جاهين وعبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم في الشعر العامي. الشعران الفصيح والعامي جناحان لتجربة واحدة هي تجربة الحداثة الشعرية. لا أفرق بينهما، كل يؤدي دوره ولكل نوع جمهوره. يستخدم الشعر العامي اللغة العامية للتواصل المباشر مع الناس ومن البديهي أن يكون جمهوره أعرض وتأثيره أكبر من الشعر الفصيح. أما الفصيح فيستخدم أداة العربية الفصحى، لا سيما أننا في مجتمع ارتفعت نسبة الأمية فيه. أمر طبيعي أن يكون جمهوره أقل. لكنهما يكملان بعضهما وليس مطلوبا من الفنون كلها أن تؤدي الدور نفسه. أشبه بالاوركسترا حيث كل عازف يكمل العازف الآخر. العلاقة هنا تكاملية.
*الكثير من شعراء الحداثة مغرقون في الرمزية حتى يعصي على المتلقي فهم شعرهم ويكتب آخرون القصيدة المباشرة. ما موقفك من ذلك؟
كلاهما مطلوب، أي القصيدة المباشرة التي تؤدي دوراً سريعاً ووقتيا في تحفيز الناس وتوعيتهم وتحريضهم، ودفعهم إلى الأمام. إنها قصيدة مطلوبة. وهناك القصيدة الرمزية المركبة العميقة التي تستشرف المستقبل لا اللحظة الراهنة، وهذه أيضاً مطلوبة. مهمة الشعر تحريك وعي الناس.
الأزمة ناتجة من أن الشعر الحديث يتلقى من جانب الناس بآليات التلقي القديمة. هناك فجوة بين المتلقين والشعر الحديث. إن المتلقين مدربون عبر 2000 سنة على القصيدة العمودية، باتجاه واحد(من المُرْسِل إلى المُسْتَقْبِل). يظل المتلقي ينتظر من القصيدة أن تعطيه وتشرح له كل شيء كالتلميذ وتقول له مباشرة :«وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق» أو تقول له: «الرأي قبل شجاعة الفرسان هو الأول وهي في المكان الثاني». جمل واضحة مباشرة. أعتقد أن الفجوة الراهنة ناتجة من أن كثيراً من النقاد والمتلقين ما زالوا يتلقون الشعر الحديث بآلية التلقي القديمة.
*ما حكاية قصيدة «شرفة ليلى مراد»؟
نشرت «شرفة ليلى مراد» في العدد الأول في مجلة « إبداع» ورأى بعض شيوخ الدين إنني أسخر من الذات الإلهية في هذه القصيدة! قدموا بلاغاً إلى النائب العام لمصادرة المجلة ولمحاكمة الشاعر، أي أنا.
ليس في القصيدة مساس بالذات الإلهية على الإطلاق، حاشا أن أمسس الذات الإلهية، بل على العكس، في هذه القصيدة تنزيه لله (سبحانه وتعالى) عن العقاب الدائم للناس ودعوة لهم ألا يتمادوا في تواكلهم الدائم وانتظارهم الله أن يفعل لهم كل شي وهم قاعدون. أقول لكل الناس إعملوا (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فإذا مرض الإنسان يجب ألا ينتظر من الله أن يعالجه؛ بل عليه السعي في طلب وسائل العلاج. إن الله يأمرنا بالعمل وبالحركة (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون). أسيئت قراءة نص قصيدتي وأسيء فهمه لأن الجماعات المتطرفة تقرأ النصوص قراءة حرفية على عكس القراءة الأدبية الصحيحة. الأدب والشعر عامةً فنّان مجازيان يستعينان بالكناية والتضمين والاستعارة. القراءة الحرفية الضيقة تظلم النص الأدبي إذ تؤوّله تأويلاً واحداً بينما يؤوّل تأويلات عديدة. قراء كثر قرأوا هذا النص بمحبة واتساع أفق. رأوا في هذه القصيدة محبة الله ونفحة صوفية. هذه النفحة تشيع في معظم أشعاري وكثير من شعراء السبعينات ينهلون من التراث الصوفي الإسلامي ليصوّروا قصيدة حديثة.
*لكنك شبّهت الذات الإلهية بالشرطي وهذا خطأ!
قلت إن الله ليس شرطيا ولم أشبهه بالشرطي، أي أن الله ليس متعنتا ولا مترصدا ولا يجري وراء الناس يمسكهم بل يمنحنا الحرية. هذا خلافاً للفكرة التي أسيء فهمها في القصيدة. الله يهبنا الحرية ونحن مسؤولون عن أفعالنا، ثم يحاسبنا إن أخطأنا.
لِمَ لا تنأى بنفسك عما يثير الجدال واللغط وتبتعد عما يسبب المشكلات؟
لِمَ ابتعد عن الأشياء التي تتسبب بالمشاكل، وأنا أعمل بنية سليمة وصادقة. لو ابتعد الشعر عن الأمور التي تثير المشاكل لما كتب أحد شعراً. هذا يحد من مهمة الشاعر وإبداعاته. يجب أن يثير الشعر التساؤل والجدال شرط ألا يسيء، وألا يهدم والا يضر أحدا. هذا ما فعلته وما التزمت به طوال عمري. لا يتوجب عليّ الابتعاد عن توظيف كلمات معينة خشية التأويلات المغرضة. التأويلات موجودة في كل مكان وفي كل لحظة وفي أشياء أخرى. إذن، الخطأ ليس لجوء الشاعر إلى استخدام مفردة أو جملة في كتابة الشعر بل الخطأ التأويل المغرض. لذا ينبغي أن نطالب أصحاب التأويلات المغرضة بالكف عن هذا .
*لِمَ ينصبّ التحريم والمصادرة على الإنتاج الأدبي الصادر من هيئات خاضعة للحكومة؟
حين يثير المتسترون بالدين من الجماعات الإسلامية المشاكل مع الأدب فليس خوفاً على الدين لأن الدين لا تؤثر فيه قصيدة أو رواية. كل ما كتب أو قيل من ازدراء للأديان عبر التاريخ لم يخدش الأديان ولم يهدمها. إنهم يثيرون المشاكل مع الأدب، خاصة الذي تنشره وزارة الثقافة، أي المنشور بشكل رسمي من قبل الحكومة إذ يجدون الفرصة سانحة لتحقيق هدفين في آن: مهاجمة الأديب وإرهابه إن كان من غير جماعتهم ومعارضة السلطة معاً، بذلك يكسبوه أرضية أوسع عبر إثارة الجماهير واستغلال عاطفة الدين. هؤلاء يستغلون كل فرصة تتيح لهم الظهور السياسي فيقومون بهجمة قوية ضد الأدب، لا دفاعا عن الدين بنية صادقة. وإلا أين خوفهم على الإسلام والمسلمين من قيام شخص مسلم بقتل 1300 مسلم في حادثة العبارة قبل سنة! لم تتحرك الجماعات الإسلامية لنصرة أولئك المسلمين القتلى! إنهم انتهازيون، والثقافة هي الحلقة الأضعف دائما. للأدب تأويلات عديدة، وتستطيع أن تقتنصه في مسألة الكفر والإيمان فيقومون بذلك. ما يقومون به ليس خوفا على الأخلاق الحميدة أو الدين كما أسلفت، بل لعبة سياسية لضرب الحكومة وضرب الثقافة والمثقفين. هل هدمت قصيدتي الدين أم هو الشخص الذي كوّن 44 مليار جنيه من أموال المسلمين في أربع سنين؟ ألا يعتبر ما قام به هذا تعدّياً على الإسلام والمسلمين وضد الله؟
*ما التطورات في هذه القضية؟
قدم الشيخ يوسف البدري بلاغا إلى النائب العام ضدي وضد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي وننتظر أن تستدعينا النيابة للتحقيق معنا. كل هذا تم على أساس قانون الحسبة. وعندما منحتُ جائزة الدولة للتفوق قبل ثلاثة أسابيع رفعوا دعوى ضد وزير الثقافة وطالبوا بسحب الجائزة مني واتهموا الوزير بأنه أعطى جائزة لكاتب يخوض في الأديان.
*هل يندرج سحب الجائزة ضمن قانون الحسبة؟
كلا، تمّ ترشيحي للجائزة من قبل لجنة تحكيم متخصصة في الأدب والنقد قبل عام. الجائزة في الأساس لمجمل أعمالي الشعرية، لا لقصيدة أو ديوان بعينه. أي قبل نشر قصيدة «شرفة ليلى مراد». أرى أن الجماعات الدينية تغتصب بهذا النهج الشرعية وعلى كل ذي فكر حر أن يقف ضد هذا التوجه.
*لِمَ ترى أن قانون الحسبة سيئ السمعة؟
إنه من القوانين المقيدة لحريات المواطنين العاديين إذ يتيح لأي مواطن الحق في رفع قضية ضد أي مواطن يقدم فيلماً أو مسرحية أو رواية -على سبيل المثال- لا تعجب المواطن الأول ويري أنها تنال من دينه أو تضره في دينه باعتباره واحدا من أبناء هذا الدين. هذا القانون ذهب ضحيته نصر حامد أبو زيد سنة 1995. نتيجة استياء المثقفين وجمعيات المجتمع المدني حصل تعديل طفيف في قانون الحسبة فأضحت قضايا الحسبة ترفع من خلال النيابة العامة لا من خلال المحكمة مباشرة وتنظر النيابة فيه فلو رأته جديا تحوّله إلى المحكمة وإذا لم تره جديا تتجاهله. أنه التعديل الوحيد الذي طرأ على هذا القانون وهذا غير كاف فالنيابة ليست أشرف ولا أوسع أفقا من الجماعات الدينية، بل على العكس قد تستغل البلاغات المقدمة إليها في صفقات سياسية أو ابتزاز للمعارضين ونصبح أمام شرين، الجماعات الدينية من ناحية والنيابة من الناحية الأخرى. ثمة اليوم نداء من المثقفين لإلغاء هذا القانون نهائياً. المفترض أن يفعل ذلك مجلس الشعب بصفته سلطة تشريعية، لكنه أضحى في واقع الأمر عونا لتقييد الحريات لا عونا لنشرها. تجدر الإشارة هنا إلى المفارقة الغريبة في دور المجالس النيابية في مصر والكثير من البلاد العربية فبدلاً من أن تكون منابر للحرية ومصدر إشعاع تنويري ونشر ثقافة التسامح نجدها حادت عن الطريق الصحيح وانحرفت عن مهمتها، وأصبحت تطالب بمصادرة الحريات وتدعو إلى التشدد. في الوطن العربي بات الوضع مقلوباً أحياناً. نجد أن السلطة التنفيذية أو الحكومة أوسع أفقا ودعما للحريات من البرلمان، مثلا ما حدث في الكويت حين أباح أمير الكويت دخول المرأة العمل السياسي إلا أن مجلس الأمة الكويتي رفض ذلك، كذلك ما حدث في مجلس الأمة في البحرين من محاولة الحجر على عرض مسرحية «مجنون ليلى» لقاسم حداد ومارسيل خليفة .
*لِمَ لا يتم تنسيق مع مثقفي الحزب الوطني الحاكم في مصر لإلغاء قانون الحسبة، علماً أن الغالبية في مجلس الشعب من الحزب الوطني؟
أعتقد أن مثقفي الحزب الوطني الحالي - إن كان هناك مثقفون- يقفون مع الجماعات الدينية. المثل الأشهر على ذلك قضية وزير الثقافة ورأيه في الحجاب إذ انتفض ضده مجلس الشعب بجماعتيه، الجماعة الدينية (الإخوان المسلمون) ونواب الحزب الوطني. كان نواب الحزب الوطني يزايدون على الإخوان المسلمين في التشدد الديني ولا أرى ثمة رجاء أو أملاً في نواب الحزب الوطني في البرلمان .
أنا من مواليد محافظة المنوفية عام 1952 . بداياتي طبيعية جداً. كنت محباً للقراءة منذ الطفولة وفترة التلمذة. أحببت قراءة الأدب طوال سني الدراسة. تعمقت قراءاتي، أو قل مارست هواياتي المفضلة مثل الشعر والقصص والأدب في مدرسة عبد المنعم رياض الثانوية للبنين وبدأت أكتب شيئا من الشعر في تلك الفترة. أستطيع القول إن هناك كتبا وأعمالا أدبية ساهمت في شكل أساسي في تكويني الثقافي الأول في مقدمها مثلا كتاب «النبي» لجبران خليل جبران، وله دور أساسي جدا في تغيير مجرى حياتي. كنت في الثاني الثانوي حين قرأته. ثم أدب عبد الرحمن الشرقاوي ورواياته ذات الطابع الاجتماعي وتمثل صراع الفلاحين مع الإقطاعيين. ثم شعر المدرسة الرومانسية مثل جماعة «أبولو» وجماعة «الديوان» ومدرسة أدباء المهجر أمثال ميخائيل نعيمة وجبران وإيليا أبو ماضي، فضلا عن روايات نجيب محفوظ ويوسف إدريس. كان ذلك في الفترة الأولى من تعليمي. أما التحول الآخر في حياتي الثقافية فكان في فترة الدراسة الجامعية عندما التحقت بكلية الآداب- جامعة القاهرة، فرع الصحافة. السنتان الجامعيتان الأوليان كان تأثيرهما كبيرا في حياتي ففي تلك الفترة اندلعت الثورة الطالبية المصرية أو التي يطلق عليها ثورة السبعينات للحركة الطالبية، السابقة على حرب أكتوبر 1973. هذا الخضم السياسي أفادني كثيراً فانخرطت في العمل السياسي الطالبي وتعرفت إلى قادة الحركة الأساسيين أمثال الشاعر زين العابدين فؤاد وأحمد بهاء شعبان أحد قادة «كفاية الآن» واحمد عبد الله قائد الحركة الطالبية. كذلك تعرفت إلى مجموعة كبيرة من المثقفين من أساتذتنا الأجلاء في كلية الآداب وساهموا بمساهمات جدا في تكويني الثقافي والفكري والسياسي أمثال الدكاترة عبد المنعم تليمه وجابر عصفور وعبد العزيز الاهواني وسهير القلماوي. في تلك الفترة تعرفت إلى كتب أدبية وفكرية نهلت منها ككتابي أدونيس «زمن الشعر» و{الثابت والمتحول». تلك الكتب ساهمت في تحولاتي الثقافية والشعرية. قرأت أيضاً لروجيه غارودي في النقد ولمجموعة من النقاد الفرنسيين ولارنست فيشر ولوسيان غولدمان. اطلعت على الإنتاج الشعري لبابلو نيرودا ومحمود درويش وسان جون بيرس، فضلاً عن أغاني الشيخ إمام ومرسيل خليفة وأشعار أحمد فؤاد نجم.