( نص الحوار الذي أجراه ديفيد ستيريت،
و نشر في المجلة السينمائية الأمريكية
Film Comment – عدد يوليو/ أغسطس 2000)
ترجمة: أمين صالح
و الريح سوف تحملنا
1- هويات مموهة
الإيراني عباس كيارستمي هو واحد من أهم و أبرز المخرجين في السينما العالمية المعاصرة، و يقر العديد من النقاد بنبوغ كيارستمي و عظمته كسينمائي متميز، استطاع بفضل إبداعاته – مع إبداعات سينمائيين إيرانيين لا يقلون أهمية- أن يضع الفيلم الإيراني على خارطة السينما العالمية، و أن يجعل من حضوره حدثا ثقافيا هاما.
لدى كيارستمي الإحساس الحاد بالتراكيب البصرية- الصوتية، و لديه أسلوبه الخاص الذي يتميّز به، و الذي بجده حاضرا في أفلامه، حيث تتكرر العناصر في أفلامه، كما هو الحال عند أغلب كبار المخرجين في السينما العالمية ( بيرجمان، أنتونيوني، تاركوفسكي، فلليني، بريسون، أنجيلوبولوس.. و آخرين) الذين يعبّرون عن عوالمهم الخاصة بالعناصر ذاتها و اللغة التي تميزهم.
في فيلمه " و الريح سوف تحملنا" (1999) يعرض عباس كيارستمي صورا وثائقية- درامية لقرية جبلية في كردستان الإيرانية، محاطة بحقول الحنطة الخصبة، في علاقة متبادلة، تتسم بالشاعرية، مع الحالة الذهنية لبطل الفيلم.
كيارستمي يقدم هنا حكاية، أو لنقل حالات، بسيطة جدا..ظاهريا و على نحو مضلل. منتج أو مخرج تلفزيوني يدعى بهزاد، يرافقه عدد من الفنيين ( و الفيلم لا يوضح هوية هؤلاء)، يصلون بالسيارة إلى قرية جبلية نائية من أجل تصوير أو تدوين أو مشاهدة (و الفيلم لا يبّين بوضوح الدافع وراء الزيارة) شعائر دينية سرية سوف تقام مباشرة بعد وفاة امرأة عجوز بلغت المائة عام من عمرها. و رغم أن الموت على وشك الحدوث في أية لحظة، إلا أن العجوز تتشبث بالحياة على نحو غريب، و يمر أسبوعان و أفراد الفريق يزدادون ضجرا و استياء فيقررون العودة، و يبقى بهزاد وحده متأرجحا بين الترقب و التوتر، الأمل و اليأس، الامتلاء و الفراغ، مكوّنا علاقات عابرة و سريعة مع بعض أهالي القرية، و محاولا التغلب على الضغوطات المفروضة عليه من جراء مرور الوقت (دون حدوث شيء).
الحدث، إن جاز القول، ينشأ من هذه المراوحة بين اللقاءات العابرة مع أفراد هذا المجتمع الصغير المحافظ و محاولة التناغم مع عناصر الطبيعة، المحايدة منها و المراوغة، بينما ينتظر الحدث المفترض (موت العجوز) .. و أثناء ذلك يحاول إقامة علاقة صداقة مع دليله الصبي ،فرزاد.
كيارستمي هنا يربك المتفرج بتمويه هوية الشخصيات الزائرة للقرية من جهة، و جعل شخصيات عديدة توجد خارج مجال الكاميرا، أي مخفية، بحيث نسمع صوتها و لا نراها. بهزاد يقدم نفسه و فريقه بوصفهم مهندسين. و رغم أنهم جاءوا إلى القرية "ليصوروا حدثا ما" إلا أن المربك و المحيّر في الأمر، أننا لا نرى أجهزة تصوير أو إضاءة أو أية معدات أخرى توحي بأنهم سوف يصورون شيئا، بل أننا لا نرى أبدا فريق العمل هذا، إنما نسمع أصواتهم فقط خارج الكادر، و هم إما يوجدون داخل غرفة أو في مكان خارج مجال الرؤية.
فضلا عن ذلك، هناك شخصيات " مهمة" لا نراها أيضا.. مثل يوسف، ذلك القروي الذي يحفر موضعا عميقا من أجل تركيب شيء يتعلق بالاتصال عن بعد، لكننا نسمع صوته، غناءه، صوت الرفش و هو يحفر.
بهذا كله يعمل كيارستمي على عزل بطل فيلمه بحيث يظهره كشكل ضئيل في محيط فسيح، يرهق نفسه في مسعى غير مجد و لا طائل تحته من أجل تسريع الزمن بدلا من مروره البطيء و المضجر و الذي لا يحمل أي عنصر من الإثارة.
الفيلم يركز بؤرته على هذه الشخصية فحسب، بحيث يعزلها عن كل ما حولها و ما يتصل بها.. بالتالي نحن نجد أنفسنا أمام رحلة روحية يقوم بها شخص لا يدرك، على نحو تام، حقيقة أنه في رحلة روحية إلا في الدقيقة الأخرى. و في هذه الرحلة يختبر الإحباط و الخيبة و الغضب (خصوصا بعد أن يتركه فريقه نتيجة الإحباط، و يأسه هو من حدوث أي شيء أثناء انتظاره) لكنه يتشبث بالأمل أو ببصيصه. و هو ينتقل من الموقف المحايد، السلبي، إلى الانخراط و الاهتمام..و ذلك بعد إصابة يوسف في انهيار أرضي، حيث يقوم باستدعاء الطبيب و الأهالي من أجل إنقاذ يوسف.
نحن هنا لسنا أمام قصة بالمعنى التقليدي، إذ هنا لا يحدث إلا القليل. لكن الفيلم يعج بالحياة اليومية.. و المساحات الخالية بين " الأحداث" الخفيفة تكون حافلة بالنقاشات، بالنوادر و الحكايات الشعبية، و الشعر (في أحد المشاهد يقرأ بهزاد قصيدة فروغ فروخزاد، و التي منها استعار عنوان الفيلم: و الريح سوف تحملنا..و الشاعرة فروخزاد هي من رموز الحداثة الشعرية في إيران، و قد عاشت حياة تراجيدية بعد انتزاع ابنها منها في قضية طلاق، و ماتت في حادث تصادم سيارة و هي في الثالثة و الثلاثين من عمرها.. و قد تحدث كيارستمي ذات مرّة عن فلسفتها الحسية التي تقترب كثيرا من فلسفة عمر الخيام.. و الذي قصيدته في مديح ملذات الحياة يستشهد بها الطبيب في الفيلم).
من جانب آخر يمكن النظر إلى الفيلم بوصفه لوحة لمكان آسر يعتني كيارستمي كثيرا في رسمه عبر لقطاته العامة و الطويلة، حيث الدروب المتعرجة السالكة، و الحقول الخلابة، و التلال. كيارستمي – مثلما نلاحظ في أغلب أعماله- لا يهتم كثيرا بتصوير المواقع الداخلية و استخدام الإضاءة الاصطناعية، قدر تكريس اهتمامه بالمواقع الخارجية و المناظر الطبيعية. إن بهزاد يبدو أشبه بعالم أنثروبولوجي متنكر، مع أسئلته التي لا تنتهي و التي يوجهها إلى من يلتقيه من القرويين، و هو يسعى إلى الكشف عن هذا المكان النائي.
و على الرغم من الرصد الأنثروبولوجي، إلا أن الفيلم هو أيضا عن ما لا يقال و لا يُرى، و كأن كيارستمي يريد من المتفرج أن يتخذ دورا فعالا في تقرير المعنى. طوال الوقت نسمع أشخاصا يتكلمون دون أن نراهم، و مع أن بعضهم يعبر عن وجهة نظره في الحياة كاشفا عن شخصيته و أفكاره، إلا أن المخرج يترك للمتفرج مساحة يوظف فيها مخيلته، و يتيح له حرية التأمل و التأويل. و كأنه يقول: لكي تفهم، ليس من الضروري أن ترى.. بل أن تسمع و أن تتخيل.
إن كيارستمي يعتمد هنا، و على نحو أساسي، على الصوت. ثمة توظيف خلاق للصوت، و هو يستغني عن الموسيقى المؤلفة، مستغلا أصوات الطبيعة و الكائنات البشرية و الحيوانية. إنه يوظف على نحو متقن و مدروس مزيجا من هذه الأصوات بحيث تمنح العالم الطبيعي الحد الأقصى من الحضور الفاتن و الغامض.
هذا الفيلم، الذي يعد أحد نماذج السينما الشعرية، يتسم بجمالية بصرية مدهشة.
*****
* بما أنك في سان فرانسيسكو لتسلم جائزة أكيرا كوروساوا عن مجمل نتاجاتك السينمائية، هل تشعر بقرابة شخصية و خاصة مع أفلام كوروساوا؟
لا. لكنني أعتقد أن كل مخرج ذي أسلوب خاص بوسعه أن يستمتع بأفلام يحققها مخرجون ذوو أساليب مختلفة تماما. على سبيل المثال، أحد الأفلام التي أحبها و استمتع بها حقا هو فيلم " الأب الروحي"، رغم أن البعض قد يشعر بالصدمة أو الدهشة عندما يسمع ذلك مني..مع أن هذا هو جمال السينما.
* هل لا يزال من المناسب الحديث عن سينما وطنية اليوم، أم أن الفيلم أصبح ذا صبغة عالمية، و لم يعد (ينسجم مع) مثل هذا التصنيف؟
لكل فيلم هوية خاصة أو شهادة ميلاد خاصة به. الفيلم هو عن الكائنات البشرية، عن الإنسانية. كل الشعوب المختلفة في العالم، على الرغم من اختلافاتها في المظهر و الدين و اللغة و أسلوب الحياة، لا يزال لديها شيء واحد مشترك، و ذلك هو ما يوجد بداخل كل فرد منا. لو صورنا بالأشعة السينية دواخل أو أحشاء كائنات بشرية مختلفة، فسوف لن نكون قادرين، انطلاقا من تلك الأشعة السينية، على تقرير و تأكيد لغة أو خلفية أو جنس كل فرد. دمنا يدور بالطريقة و الدقة ذاتها كما الحال مع أي فرد آخر، جهازنا العصبي و أعيننا تعمل بالطريقة ذاتها، نضحك و نبكي بالطريقة ذاتها، نشعر بالألم بالطريقة ذاتها. الأسنان التي توجد في أفواهنا جميعا، أيا كانت جنسيتنا أو خلفيتنا، تتوجع بالطريقة ذاتها تماما.
و لو أننا أردنا أن نقسم السينما و موضوعات السينما ، فإن الوسيلة لفعل ذلك هو أن نتحدث عن الألم و عن السعادة.. هذه هي أمور مشتركة بين كل الأقطار.
* في أحوال كثيرة، أفلامك لا تزودنا بمعلومات كاملة عن الشخصيات أو القصة. و لقد صرحت ذات مرّة بأن السبب يكمن في أن المتفرج هو طرف في العملية الإبداعية. و أن من واجبنا أن نفهم المادة و ندرك المراد منها، و كل فرد منا سوف يفعل ذلك على نحو مختلف. كيف لهذه الفكرة- كل فرد يتوصل إلى فهمه الخاص للفيلم- أن تتناغم مع فكرة أننا جميعا متشابهون جوهريا، بما أننا نتقاسم خاصيات إنسانية مشتركة؟
هذا سؤال صعب. الناس لديهم أفكار مختلفة، لكن أمنيتي هي أن لا يسعى كل المتفرجين إلى إكمال الفيلم في أذهانهم بالطريقة نفسها، مثل أحجية الكلمات المتقاطعة التي تبدو كلها متشابهة، لا يهم من يحلها. و حتى لو كانت محلولة على نحو خاطئ، فإن نوعية أفلامي تظل " صحيحة" أو مخلصة لقيمتها الأصلية. أنا لا أترك الفضاءات فارغة لمجرد أن يكون لدى الآخرين شيئا ناقصا يكملونه.إني أتركها فارغة من أجل أن يتمكن الآخرون من ملء هذه المساحات وفقا للكيفية التي بها يفكرون و حسب ما يريدون هم.
في رأيي، التعبير التجريدي الذي نقبله و نقرّ به في أشكال فنية أخرى- كالرسم و النحت و الموسيقى و الشعر- يمكن أيضا قبوله في السينما. إني أشعر بأن السينما هي الفن السابع، و من المفترض أن تكون الفن الأكثر اكتمالا بما أنها تضم الفنون الأخرى.لكنها أصبحت مجرد مجال لرواية القصص، بدلا من أن تكون الفن الذي ينبغي أن تكونه حقا.
* هناك عدد من المخرجين الذين يؤمنون بما تقوله الآن و يواصلون تحقيق أفلام لا تروي قصصا.. و التي هي حقا تجريدية، ذات شكل و لون و حركة.. لكن بدون صور تنقل قصة ما.. هل مثل هذه الطريقة تثير اهتمامك؟
كل فيلم ينبغي أن يحتوي على نوع من القص أو السرد. لكن الأمر الهام هو كيفية سرد القصة.
ينبغي أن يكون السرد شعريا، و ينبغي أن يكون قابلا للرؤية بطرق مختلفة. لقد شاهدت أفلاما لم تكن تحمل أي معنى، و لم تسحرني، أثناء مشاهدتها، لكنها تحتوي على لحظات تفتح لي نافذة أطل منها على المدهش، و تلهب مخيلتي. كما أن هناك أفلاما كثيرة لم استطع احتمالها، وغادرت الصالة في منتصف العرض لأنني كنت أشعر بأنني أعرف مجريات العمل و كيف ستكون النهاية، كنت أشعر بأنني ممتلئ تماما بالفيلم، و لو مكثت مكاني فترة أطول فسوف يتعرض ذلك الشعور للتخريب، لأن الفيلم سوف يستمر في إخباري بالمزيد، و سوف يرغمني على أن أصدر أحكاما على الشخصيات و أن أميز بين الطيب و الشرير، و أتابع ما سيحدث لهم. علما بأني أفضل أن أنهي الفيلم بطريقتي الخاصة.
* الكثير مما تقوله يصف كيف يعمل الشعراء أكثر من كيفية عمل الروائيين..إنه أمر مثير للاهتمام ملاحظة أن آخر أفلامك " الريح سوف تحملنا" يستمد عنوانه و بعضا من نصه من الشعر.. هل تحاول أن تتحرك إلى مدى أبعد في ذلك الاتجاه.. نحو السينما بوصفها شعرا و ليس بوصفها رواية؟
نعم. أشعر بأن السينما التي سوف تدوم لفترة أطول هي السينما الشعرية، لا السينما التي تروي قصصا فحسب. في مكتبتي بالمنزل، الكتب التي تضم القصص و الروايات تبدو جديدة تماما، لأنني لم أقرأها إلا مرة واحدة فقط ثم وضعتها جانبا، بينما كتب الشعر تتساقط أوراقها في كل ركن لأنني قرأتها مرارا.
الشعر، على الدوام، يفلت بعيدا عنك.. و صعب جدا الإمساك به. و في كل مرة تقرأ الشعر، سيتكوّن لديك فهم مختلف، بحسب وضعك و حالتك أثناء القراءة. في حين أن الرواية، ما إن تقرأها مرة واحدة، حتى تكون قد فهمتها. بالطبع هذا لا يشمل كل الروايات. ثمة قصص تتضمن جوهرا أو روحا شعرية، كما أن هناك قصائد تخلو من الروح الشعرية.. أعني الشعر الذي كان يتعين علينا حفظه عن ظهر قلب في المدرسة: حوارات بين يرقانة و عنكبوت..وشيئا من هذا القبيل. لم يحاولوا تدريبنا و تنميتنا من خلال الشعر.
* أحد الاختلافات بين الفيلم و القصيدة هو أن أغلب الناس يعتقدون أن مشاهدة الفيلم مرّة واحدة أو مرتين تكفي لاستيعاب و فهم الفيلم. هل ستكون هناك دوما معضلات بشأن الوصول إلى الجمهور من خلال الشكل الشعري للسينما، بما أن الجمهور لم يتعود على مشاهدة الأفلام المرّة تلو الأخرى؟ و هل تتوقع من الناس أن يشاهدوا فيلما معينا من أفلامك عدة مرات، أو على الأقل تأمل ذلك؟
سأكون أنانيا جدا لو طلبت من كل شخص أن يشاهد أفلامي أكثر من مرّة واحدة. طلب كهذا يعني أنني أريد أن أسوّق نفسي و أروّج لأعمالي. في الواقع، لا أستطيع أن أوضّح السبب الذي يجعلني أحقق أفلاما بهذه الطريقة، إنها الطريقة التي أعرفها..هكذا هو الأمر ببساطة.
أثناء عملية تحقيق الفيلم، لا أفكر في النتيجة النهائية، و ما إذا يتعيّن على الجمهور أن يشاهده مرّة أو أكثر من مرّة.. كما لا أرهق نفسي في محاولة معرفة ما سيكون رد الفعل تجاه فيلمي. إني أحققه فحسب، و بعد ذلك أتعايش مع النتائج، التي بعضها قد لا تكون سارة أو مرضية بالنسبة لي. شيء واحد أعرفه: العديد من المتفرجين سوف يغادرون الصالة و هم غير راضين، لكنهم لن يقدروا أن ينسوا الفيلم. أعرف أنهم سوف يتحدثون عن الفيلم أثناء تناولهم العشاء.. و أريدهم أن يشعروا بشيء من القلق تجاه الفيلم، و أن يستمروا في محاولة العثور على شيء في الفيلم.
انتهى زمن شهرزاد
* أنت واحد من جماعة صغيرة تسعى على نحو ثابت و مثابر إلى تحقيق أفلامها وفقا لمبادئ و أفكار معينة تؤمن بها.. و هذه الجماعة تحرص على تربية جمهور أفلامها و تعليمهم كيفية تقدير نوعية معينة من الأفلام و التي تشكّـل تحديا صعبا. مع كل فيلم، نحن نفهم على نحو أفضل قليلا كيف نتعاطى و نستوعب أعمالك..
أعتقد أن الفرصة التي توفرت لهذا النوع من السينما في الوقت الحاضر، لم تكن متوفرة قبل عشرين سنة. الجمهور شعر بالضجر من نوعيات الأفلام التي يشاهدها في هذه الأيام، و هم يرغبون في مشاهدة شيء مختلف. بالطبع، في إيران، هذا النوع (الشعري) من السينما لا يجد إلا دار عرض واحدة فقط، و في الولايات المتحدة لا يجد إلا صالتين.. لكنني قانع بذلك.
أغلب الناس يرغبون في البساطة، يرغبون في الحصول على الإثارة، أن يبكوا وأن يضحكوا.. و نحن لا نستطيع أن نتوقع المستوى ذاته من الحماسة ذاتها تجاه السينما الشعرية. أنا لا أقارن أعمالي بأعمالهم، لكن إذا كان لديك لوحات كاندنسكي أو براك أو بيكاسو في مزاد علني في منتزه، كم عدد الأشخاص الذين سوف يشترونها.. حتى بسعر مئة دولار؟.. يتوجب على المرء أن يكون واقعيا في توقعاته للفن الذي هو حقيقي ونقيض للترفيهي. الجمهور العام لن يدفع مقابل لوحة لا يفهم جيدا ما تحويه وما معناها.
* أحيانا أفكر في هذه المسألة في ما يتصل بالأعمال التي تغلق التفكير – مثل الشعر الذي كنا نضطر أن نتعلمه في المدرسة، و الذي يزودنا بالأجوبة والأفكار التي يريد غرزها فينا – كنقيض للأعمال التي تفتح مجالا للتفكير وتصلح لأن تكون موضعا فيه نشغّـل تفكيرنا الخاص.
أتفق معك. الفيلم الشعري أشبه بأحجية، حيث تضع القطع معا لكنها لا تتوافق أو تنسجم بالضرورة. بوسعك أن تقوم بأي ترتيب تشاء. بخلاف ما اعتاد عليه الجمهور العام، هو لا يعطيك نتيجة واضحة في النهاية، و لا يقدم لك نصيحة.
* بالعودة إلى فيلمك " الريح سوف تحملنا"، الثيمة التي تثير اهتمامي هي التوتر الأخاذ‘ أو الحوار‘ بين ما هو فيزيائي، مادي، متجذر في الأرض، وما هو غير قابل للإمساك أو الفهم بطرق فيزيائية. هذا يجري على عدد من المستويات، من بينها ذلك الاتصال داخل القرية – حيث الأفراد يتحادثون ويتبادلون الأشياء- و على العكس من هذا، لدينا الهاتف النقال، المحمول على الريح.. إن جاز التعبير.أنا مهتم برؤيتك بشأن كيفية ارتباط التجريدي أو غير القابل للامساك بقصور حيواتنا الفيزيائية.. بحقيقة أننا كائنات مادية وفانية. هل هناك توتر في فيلمك بين ما قد نسميه الفيزيائي والروحاني؟
في الواقع أنا لم أشاهد فيلمي بعد. طوال عام كنت أشاهده كتقني، بمعنى أنني لازلت قريبا جدا منه، بالتالي لا أستطيع أن أصدر حكما عليه. لكن أحد الذين شاهدوا الفيلم أخبرني بأنه عن الأرواح، عن الناس الذين راحوا و لم يعودوا أحياء.. على سبيل المثال، الرجل الذي يحفر الخندق، أو المرأة العجوز التي تحتضر. نحن لا نرى حياتهم. و كما قلت، للفيلم جوهر فيزيائي، لكنه أيضا يتضمن جانبا غير فيزيائي أو روحاني. نحن لا نرى بعض الشخصيات، لكننا نشعر بوجودهم. هذا يظهر أن ثمة إمكانية للوجود دون وجود.. تلك هي الثيمة الرئيسية للفيلم، كما اعتقد.
* الوجود دون وجود..هل يمكنك أن تتوسع في ذلك؟
مع هذا النوع من الأفلام، نحن كمتفرجين، بوسعنا أن نخلق أشياء وفق تجاربنا الخاصة.. أشياء لا نراها، أشياء هي خفية، غير منظورة. في الفيلم 11 شخصا غير مرئيين. في النهاية أنت تعلم بأنك لم ترهم، لكنك تشعر بأنك تعرف من يكونون و مكان وجودهم. إني أريد أن أخلق نوعا من السينما و الذي يُظهر عن طريق عدم الإظهار. هذا مختلف جدا عن أغلب الأفلام في هذه الأيام، و التي هي ليست إباحية حرفيا لكنها إباحية في الجوهر، لأنها تُظهر الكثير، إلى حد أنها تحرمنا من أي إمكانية لتخيل الأشياء بأنفسنا. إن هدفي هو إتاحة الفرصة لنا لكي نخلق الأشياء في أذهاننا. من خلال الخلق و المخيلة أريد أن أنزع المعلومة المتوارية داخل ذاتك و التي ربما لا تعلم بوجودها داخلك.
لدينا مثل بالفارسية، عندما ينظر شخص إلى شيء ما بحدّة، نقول: لهذا الشخص عينان و استعار عينين إضافيتين.. تلك الأعين المستعارة هي ما أريد أسرها، الأعين التي سوف يستعيرها المتفرج ليرى ما يوجد خارج المشهد الذي ينظر إليه.ليرى ما يوجد هناك و أيضا ما لا يوجد.
* من هم المخرجون الذين تشعر في أعمالهم بشيء من التماثل؟
(التايواني) هاو شاو- شن Hou Hsiao-Hsien هو أحدهم. أعمال تاركوفسكي تعزلني كليا عن الحياة الفيزيائية و هي أكثر الأفلام التي شاهدتها روحانية. إن ما فعله فلليني، في أجزاء من أفلامه، و هو جلب حياة الحلم إلى الفيلم، يفعله تاركوفسكي أيضا. أفلام ثيو أنجيلوبولوس أيضا تجد هذا النوع من الروحانية في لحظات معينة.
عموما، أظن أن على الفيلم، و الفن بوجه عام، أن يأخذنا بعيدا عن الحياة اليومية، ينبغي أن يأخذنا إلى حالة أخرى، حتى لو أن الحياة اليومية هي المكان الذي تنطلق منه هذه الرحلة. هذا ما يمنحنا الراحة و الطمأنينة. إن زمن شهرزاد و الملك، زمن سرد القصص، قد انتهى.
* بطل فيلمك " طعم الكرز" يبدو أنه يريد هروبا كاملا من الفيزيائي، المادي. كان يمكن لمخرج تقليدي أن يحوّل هذا إلى حكاية سيكولوجية، و هذا ما لا يريده فيلمك، ذلك لأننا لا نفهم الطريقة التي بها يفكر هذا الرجل، لا في البداية و لا في النهاية. لذا فإن هذا الفيلم أيضا يبدو أنه يهتم بالبحث للمضي، بطريقة ما، وراء الفيزيائي، حتى لو كان ذلك يعني الاضطرار لأن يكون سلبيا جدا، و هذا يتصل، مرّة أخرى، بالتوتر بين المادي و الروحاني..
متفرجون مختلفون لديهم آراء مختلفة بشأن هذا الفيلم. القيام بمحاولة الانتحار هو أمر محرّم في الإسلام، و لا يستحسن الحديث عنه. لكن بعض رجال الدين أعجبوا بالفيلم لأنهم شعروا بأنه- كما أشرت أنت- يُظهر بحثا للارتباط بشيء أكثر سماوية، شيء هو فوق الحياة الفيزيائية. المشهد قرب النهاية، حيث نرى الشجرة تثمر الكرز، مع صور أخرى جميلة، يحمل – هذا المشهد- تلك الرسالة: لقد فتح الباب إلى السماء، و ما فعله لم يكن شيئا جهنميا، بل هو انتقال سماوي.
* هل واجه فيلم " طعم الكرز" صعوبات مع الرقابة بسبب موضوعه؟
كان هناك خلاف بشأن الفيلم، لكن بعد أن تحدثت إلى السلطات، أقروا واقع أن هذا ليس فيلما عن الانتحار، بل أنه عن الاختيار الذي نقوم به في الحياة، و أن ننهي هذا الاختيار متى نشاء. لدينا باب نستطيع فتحه في أي وقت، لكننا نختار أن نبقى. و واقع أن لدينا هذا الخيار يبرهن على رحمة الله. الله رحيم لأنه منحنا هذا الخيار. الرقباء كانوا سعداء بهذا التفسير.
إن جملة من فيلسوف، من رومانيا، ساعدتني كثيرا في تحقيق هذا الفيلم: " لولا إمكانية الانتحار، لقتلت نفسي منذ زمن طويل". الفيلم هو عن إمكانية العيش، و كيف أن لدينا خيار أن نعيش. الحياة ليست مفروضة علينا. تلك هي الثيمة الرئيسية للفيلم.
* أنت لا تعمل انطلاقا من سيناريو بل من مخطط تمهيدي، ربما صفحات قليلة. و معروف عنك أيضا أنك تقوم بتركيب الكثير من الأداء و الحوار في الدقيقة الأخيرة.. ما هو امتياز العمل بهذه الطريقة؟
خلق الحوار في الموقع أمر ضروري، لأنها الطريقة الوحيدة التي بإمكاني العمل بها مع أفراد هم ليسوا ممثلين محترفين، و بعض اللحظات التي تراها في أفلامي فاجأتني مثلما فاجأت الآخرين. أنا لا أعطي الحوار للممثلين، لكن ما إن تشرح لهم المشهد حتى يشرعوا في الحديث، متجاوزين ما كنت أتخيله. ذلك أشبه بحلقة، لا أعرف من أين هي تبدأ و لا أين تنتهي.. لا أعرف ما إذا كنت أعلمهم ما ينبغي أن يقولوه، أم أنهم يعلمونني ما ينبغي أن أتلقاه.
إقرأ أيضاً:-