(الكائن في عزلته)، عنوان المجموعة القصصية الأخيرة للكاتب السوري
أحمد اسكندر سليمان، الصادرة مؤخراً عن) دار البلد ( في دمشق،
والتي ينحو فيها تجربة مغايرة لمجموعاته السابقة، حيث تتحاور الحقب
وتتجاور في لغة مشحونة بالقلق والارتباك والتوتر.
حول الكتاب، كانت هذه الأسئلة.
* أول ما يتبادر إلى ذهني السؤال التالي ماذا بقي اليوم من تجربة )ألف(؟
- للأسف، يمكنني القول بأن )ألف( كمجلة، ومشروعها الذي كان يتشكل مع محرريها، توقف في الوقت الذي كان يمكن فيه ل<<ألف>> أن تقدم شيئا مميزا للغاية، وفي وقت مناسب للغاية، حيث ثمة ما يتغير بقوة، وحيث على أحد ما أن يقول شيئا ما.. عندما يقول لي كاتب ما <<الآن>> بأن بين يديه نصا لا يجد مكانا لنشره، لأن هذا النص يحتاج حقاً لمثل تلك الرحابة التي كانت تعطيها <<ألف>>.. أقول بأن ما بقي من تجربة <<ألف>> هو كثير، لأنها ما زالت مشروعاً لم يكتمل.. لقد توقفت <<ألف>> عام 1993 بعد ما يزيد عن عامين من الصدور، وهي نفس الفترة التي توقفت فيها بعض المجلات التي يمكن الإشارة اليها كورشات عمل، او مختبرات إبداعية، ولا أظن بأن سبب تحوّل هذه المختبرات الى ورشات مهجورة كامن فيها، بل في المحيط او المناخ العام الذي كانت تعمل فيه هذه المجلات ذات النبرة الخاصة والمزاج المختلف والتوجه المغاير.. كانت محاولات لضخ روح جديدة ومتوهجة في مسرح لم يملّ الممثلون فيه من تقديم نفس المشهد!.. وأمام متفرجين لا يريدون معرفة غير الشيء ذاته منذ زمن طويل.. ربما كان هذا هو السبب أيضا الذي يجعلنا نرى كثيرا من المدن المهجورة في هذه المساحة من العالم التي تحيط بها الرمال والعقائد التي تجعل من الماضي حاضرا يتوالى، او من الحاضر مدمنا للارتداد والنكوص الى المواقع الخانقة.. إن ما بقي من <<ألف>> يمكن ان تعمل عليه مختبرات وورشات جديدة وفي وقت يبدو وكأنه أكثر سهولة فيه أن تعمل، وهذا العمل مطلوب بقوة، ولكنني لا أرى ذلك حتى الآن.. عندما توقّفت <<ألف>> عام 1993 كنّا قد بدأنا العمل على مجموعة من الملفات الحارّة، وفي وقت نضجت فيه إمكانات وأدوات المحرّرين الأساسيين.. هكذا أقول، التجربة بكاملها ما زالت في الأمام، وهي تنتظر من يعمل عليها، وليس بالضرورة تحت إسم <<ألف>>.
تشويه متواصل
* الكائن في عزلته>> مجموعتك القصصية الأخيرة تفترق عن <<الانقلاب الصيفي>> 1994، و<<نصوص لم تكتمل>> 1996، وتقترب منها في الوقت عينه.. تفترق في المناخات، إذ يسجّل الكتابان الأولان مراحل (مدينية) بمعنى من المعاني، بينما نجد في مجموعتك الأخيرة عودة إلى (مسقط الرأس) بكل تشعّباته وأشخاصه وحالاته.. الاقتراب يبدو في محافظتك على تلك اللغة المتوترة التي اتسمت بها أعمالك كلها.. لم هذه العودة.. أي مقترح لغوي تحاول العمل عليه؟
- هذا سؤال خطر.. على أي حال، لن أكون حذرا أثناء الإجابة عليه.. لكن، أريد أن يعرف القارئ بأن مسقط الرأس المشار اليه هنا، هو المدينة التي ولدت ونشأت فيها وهي مدينة <<جبلة>> على شاطئ المتوسط الشرقي، وهي واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم منذ بناها الفينيقيون، وأحبّ الأماكن الى قلبي بكل من فيها وما فيها من جمال وتشويه متواصل لهذا الجمال.. مذّ كان عمري ثمانية عشر عاما، أي منذ التحاقي بجامعة دمشق 1974، وأنا أندس بين مدينتين حبيبتين هما دمشق وجبلة، ولم تقدر إحداهما ان تسلبني من الأخرى.. مدينتان عريقتان وموغلتان في القدم، ومع ذلك فإن أيا منهما لم تنج من التدرنات ما قبل المدنية التي عطلت كثيرا العلاقات المدينية التي تتجاوب مع التحولات والمتغيرات، وليس كما هو الأمر مع التشكيلات ما قبل المدنية التي تتصف بالصلابة والكتامة والثبات، ولا تتجاوب مع المتغيرات التي يقبلها النسيج المدني أو المديني عادة بسهولة ويسر يجعل من الممكن تشكيل هوية ثقافية تتجاوز الهويات الصغيرة حتى ولو بعد زمن طويل من العمل المتواصل، وحيث يكون جوهر العمل الثقافي تشكيل حساسية الفرد المدني الذي لا يجد ملجأ له إلا في الجمال والقانون. هذا من مهام المدينة ومن مهام المثقف المديني، ولقد عملت عليه حقاً من خلال الانقلاب الصيفي 1994 ونصوص لم تكتمل 1996 .. في الانقلاب الصيفي أعلنت عن حساسيتي ووعيي المختلفين في المشهد الدمشقي، وبنصوص لم تكتمل حاولت تعميق الحوار مع المشهد الثقافي السوري بدمشق!.. الآن، وبعد عودتي الى جبلة منذ عام 1998، هل نعتبر الكائن في عزلته تجلّياً للعودة الى مسقط الرأس؟.. سوف يحلو لبعضهم أن أؤكد ذلك.. ربما كان الأمر صحيحاً على مستوى المادة الخام التي عملت عليها، ولكنها على المستوى الأسلوبي شيء مختلف تماماً لا يشبهه أي شيء آخر في القصة السورية على حد علمي، لا في مساقط الرأس، ولا في مساقط الأجنحة، او في المركز السوري دمشق اذا اعتبرنا دمشق مركزاً ثقافياً حياً!.. أي أنني لم أعد الى مواقع الذاكرة بفعل الحنين او بفعل الارتكاس، بل لأنني أقدر على صياغتها ورؤيتها بشكل مختلف لا يمكن لأحد آخر أن يفعله، وبعد ان رأيت بعض المحاولات التلفيقية الشوهاء تقترب من مدينتي التي أحبها. ربما كنت واحدا من قلائل قطعوا جميع حبالهم السرية مع المواقع الخلفية التي يرتد اليها الكائن في حالات نكوصه، لكنني لم أخرّب كينونتي، التي لم تكن بالأصل لتمثل أي حالة انغلاق، بل حالة تماهي حقيقية مع المدينة التي ولدت وكبرت فيها.. ربما لأنها اكبر بكثير من مكان ضيق، وأكثر غنى بتاريخ ومفردات وتفاصيل وأحوال وتوتر بما لا تقاس به أي مدينة أخرى بالنسبة لي على الأقل.. لم أرجع الى جبلة مهزوما او لاجئا، بل لأواجه مسقط رأسي بكوني فردا، ولقد كان الكائن في عزلته أول الجولات، ولقد بدأت الجولة الثانية مع كتاب يكاد يكون هو الآخر روائيا كالكائن في عزلته، وهو بعنوان الفينيقي وسوف يقترح هذا الكتاب أفكارا وتسميات جديدة وإعادة نظر في كثير من الأخطاء التي يصرّ السطحيون على فرضها والتعامل معها كحقائق غير قابلة للنقاش.. هو ايضا إعادة اكتشاف للبديهيات التي تصنع وتقرر ثوابت هوية ما.. أنا مشحون ومتوتر ومرتبك أحيانا، ويبدو هذا في لغتي.. ثمة حقبا كثيرة تتحاور في داخلي.. ايضا ربما كانت تأثيرات نيتشه.. هايدجر..
دوستويفسكي.. وبعض الذين يشحنون مخيلتي وحساسيتي بكل هذا الشك والارتياب حول كل شيء يبدو مألوفا الى حد القتل.
الأحلام والهزائم
* ثمة سمة عامة في كتاباتك كما في كتابات (جيلنا) وهو العمل انطلاقاً من (سيرة ذاتية ما).. هل لا يكتب المرء إلا نفسه فقط؟.. أين يتقاطع العمل التخييلي مع العمل السيري؟
- نعم، هذا صحيح.. ننتمي معا الى تلك الموجة التي تواجهت وتمازجت في وجدانها الأحلام الكبرى مع الهزائم الكبرى.. المآتم الكبرى مع تلك الأفران الصغيرة المتناثرة.. هنا حيث اتفق الجميع على التشابه الى حد الإغماء، ليبدأ من يعلن او يكشف عن نفسه من خلال سيرته بكل جرأة وصدق وكأنه قادم من كوكب آخر!... من المخيلة وليس من الواقع!... في هذا الموقع من العالم الذي ننتمي إليه ونعيش فيه، وحيث يمكن للواقع الذي لم يتعرّض للحذف ان يطرد المخيلة الى المواقع الخلفية، كيف يمكننا ان نشكل النماذج الأساسية التي يمكن للقراءة ان تعمل عليها وعلى النصوص التي احتوت هذه النماذج؟ هذا سؤال صعب لان النماذج الثقيلة والمهيمنة على الوعي هنا، تنتمي الى نصوص صلبة غير قابلة للتفكيك والقراءة. على مثل هذه المساحة التي يتشوّه عليها الوعي، لا نجد إلا العمل على أنفسنا كنماذج أساسية تتكثف الحساسية فيها، وتظهر فيها السيرة الذاتية الحامل الرئيس لتلك التساؤلات التي تقتضي الإجابة عليها دفع الأثمان الباهظة ونحن نفعل هذا حقا... لقد فقدنا الثقة بكل تلك المصادر التي يمكن ان تنتج نماذج أساسية، بعد ان استهلكوا بموجبها الحياة والقيمة والثقة من حولنا، ولم يعد لنا إلا ان نستهلك أنفسنا على طريقتنا قبل ان يفعلوا ذلك على طريقتهم...
* يقال إن القصة القصيرة هي من أصعب الأعمال الأدبية، وهي في الوقت عينه الأقل شهرة بين القراء... ما رأيك؟
- سوف أجرؤ وأقول بأن فن القصة القصيرة، هو فن تبديل مواقع الرؤية المشبعة بالشعور بالزمن في المساحة الضيقة او المحدودة بالإحساس، بالمكان... هذا التبديل سوف يولد نقصا او خلخلة او إزاحة... القصة هي ملء النقص الناتج... هذا يقودنا الى الحديث عن مشروع لكاتب ما هو إنقاذ رؤيته او حريته بتبديل متواصل لمواقعها على نفس المساحة المحكومة او المتأسسة على شروط القسر او الإكراه او البلادة... هذا صعب للغاية. لأنه بقدر ما يؤكد خصوصية هوية ما، فإنه يخلخلها في الوقت ذاته... هذا هو التدفق... هنا يظهر القص في مواجهة الحكي... القص كحركة وخصوصية في مواجهة الحكي كاستقرار وعمومية تهيمن على تلك المساحة... نعم، هذا يجعل من القصة القصيرة من أصعب الأعمال الأدبية، إذ ليس من السهل تمييز القصة عن الحكاية لقد تمّ استثمار الحكاية لتأكيد هوية الطاعة وفقا لما إرادته منظومات القوة التي تحكم مساحة تلك الهوية، هنا تبدو الحكاية حاملة للامثولة وللموعظة ومشبعة بالطاعة، حتى ولو كانت نافرة على مستوى موضوعها.
السفير