حين يبصر الشاعر ذاته الشعرية في مرآة الكتابة، يرى فيها ماضيه وحاضره ومستقبله أيضا.من هنا يمكن له أن يعبر عنها وهي تظهر في اكتمالها الشعري الذي يظل اكتمالا مرغوبا فيه على الدوام.الشاعر أسعد الجبوري أحد شعراء الحداثة المتميزين، يغوص في عمق هذه المرآة ليرى فيها ما يريد، ولينطق الشاعر المنغرس فيها.إليكم ما رآه الشاعر عبر هذا الحوار المرآوي المفرط في سورياليته.
1- من أين جئت إلى الكتابة ؟ من فرح الحب الأول أم من ألمه؟
الكتابة كهف. الكتابة سطح. الكتابة تخوم. وهي أيضاً زواج عشوائي بمختلف العوالم.وطلاق حر مع كل ما يسمم الكلمات أو يقتل المعاني في الرأس أو داخل السرير الوجودي عموماً. الكتابة في هذا السياق، ربما تكون توازن المخلوق الآدمي مع صفاته في العالم. ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن الكتابة الإبداعية مثلها مثل التماسيح، تسحق كل ضحية تقع في طريقها.
أما من أين جئت للكتابة، فلا علم لي بمثل تلك الغيبيات بالضبط. . ربما قد يكون الرب قد اصطفاني لأن أكون بمثل هذا الثقل من التجربة التي تتقاطع فيها براءة الحزن مع النوايا الحسنة لبعض الآلام التي تعيش على الكتابات. أجل. فالكتابات الإبداعية ليست سوى أعلاف لنمو القراء.
لا فرح في الحب ولا ألم منه. انه نظام أوبرا لي لتشغيل العالم، وتنظيفه من الملوثات.
2- عما تبحث فيها ؟ عن طفولة مفتقدة أم عن ظلال هاربة باستمرار؟
ما من طفولة تنتصر في عالم الكتابة. الطفولة مثلها مثل الشعر:لعبة جميلة. وكل من يتشدق بمحدودية برامجها في عالم الأدب، يبقى مسطحاً وبريئاً. الطفولة في معناها العميق، لا تعني الاستمرار بالتعايش مع الطاهرة. كل أدب أو شعر مُطهر أو يتمتع بشيء من الطهارة، هو أدب تافه لا يقدم أو يؤخر. الإبداع دائماً، من منشئ الشياطين وتفاعلاتهم مع الانقلابات والرفض في إطاعة الرموز القديمة المستهلكة.
3-ما أقرب كتاباتك إليك، شعرا ونثرا ؟
ما زال الأقرب عندي هو المحرك. أقصد مولدات الطاقة التي تدفع النص باتجاه مواجهة مصيره، سواء كان شعراً أم نثراً. في سابق طفولتي، كنت أحلم بأن أكون سائق شاحنة عملاقة (قاطرة ومقطورة) أحمل بداخلها كل ما أرغب وأحب لأطوف حول العالم. مع الأسف تلك الرغبة لم تتحقق. ضاعت . فعدت للانشغال بالشعر. بعدها كتبت أربع روايات، نشر منها روايتين "التأليف بين طبقات الليل"و "الحمى المسلحة". وقد دار بيني وبين الروائي الصديق نبيل سليمان حوار عميق حول مفهومي الجديد للنص الروائي. وكان سجالاً واسعاً اشترك فيه كتاب عديدون حول ما طرحته من مصطلح(الفراغ الواقعي) في الرواية. وقد وعد نبيا الرد بالكتابة عن رواية الحمى المسلحة ولم يفعل حتى الآن !!
وبالنسبة للشعر، فهو الكارثة العظمى التي ما تزال تجلب لي عداوات الشعراء والأدباء بأغلبيتهم العظمى. لا أعرف أن كنت منتصراُ في إنجاز نص شعري متفرد مختلف، لاتكتمل حلقات السكوت أو الصمت حول كتبي الشعرية، وبهذا القدر من الصمت المروع!!
أنا أعرف بأن الناقد العربي ليس لديه من المصطلحات ما يمكنه من تطبيقها على شعريتي. كل النقد السابق متخلف ومصطلحاته ليست أكثر من مناجل لحصد الموجودات من الزرع. وفيما عدا ذلك ، فهم لا يعرفون شيئاً عن منتوج المخيلات العملاقة. لقد طرد الواقعيات من نصي، لأنها مكتشفة وليس من مبرر لوجودها. الشعر بالنسبة لي بلا أهداف. حتى أنني بدأت في الآونة الأخيرة من كتاباتي، بقتل متعة القراءة داخل نصوصي. ربما بسبب أن الشعر لم يعد من الملاهي التي تضاف للمقتنيات الخاصة بالترهل وبالبرستيج.
لقد تعلمت أن أكون معلماً فذاً في تحطيم البنى السلفية داخل النص. ولن آخرون على عمل النسيج الذي أعمل عليه إلا بمشاق الأنفس. لقد كان الرواد كذبة سمجة، سرعان ما انتهى مفعولها . مثلما هي أحوال الكثيرين، ممن يعملون بالأسود الشعري، ويحاولون استدراج شعراء آخرين لنصرتهم.
4-ما طقوس الكتابة عندك ؟ أتحضر ليلا أم صبحا أم في كل الأوقات؟
لا أعاني من مشكلة فيما يخص زمن الكتابة. كل الوقت لكل الكتابة بما في ذلك أثناء النوم.. فكثيراً ما انهض لتسجيل ما رأيته من الرؤى على سبورة الذاكرة. في الشعر، لا أعمل وحيداً، هناك طواقم عديدة من المخلوقات تعمل معي في كتابة الشعر. وفي مقدمة تلك المخلوقات أعمدة الكهرباء. ربما لان الشاعر مصباح إنارة لحواس العالم ، وليس صفقة تخمد على مسرح مهرجان أو وراء كواليس لجائزة.
من هنا.. فالليل هو مجمل طقوس تصادم الجاذبيات بالنسبة لي. كأن الشعر مثل زهرة عباد الشمس، لا يمنح نظراته إلا لهاوية الأرض التي يمكن تسميتها بالليل.
5- ما الكتاب الأدبي الذي تمنيت لو كنت صاحبه ولم ذلك التمني؟
لم تتملكني مثل تلك الرغبة. هناك كتاب وشعراء عظماء ورائعون على كرتنا الطينية هذه، ولكنني لا أشغل نفسي بأمر عبثي وضال كهذا، حتى لو كان ذلك العمل لشيطان ما. لقد بت أعتقد ومنذ زمن ليس بالقصير، بأن ليس للشيطان علاقة مميزة أو استراتيجية بالشعر. فهذا الكائن النازي المهلك، ربما يكون أبعد المخلوقات عن روحية الشعر ورومانتيكيته، لأنه مخيلته من نار ، فيما مخيلة الشعر من الحرير.
6-حين تبصر في مرآة الكتابة وجهك، ما الصورة التي تتراءى لك فيها ؟
-مرة رسم لي الفنان الكاريكاتوري الكبير على فرزات بورتريه ، وعندما سألته لمَ جعلت وجهي بكل هذه العجرفة ؟ أجابني: شكل وجهك الجغرافي يغطي على ما فيك من روح شعرية سريّة. لقد كنت وما أزال في حالة شبه طلاق مع المرآة. المرآة تنكسر قبيل دخولي إلى زجاجها. لذا طالما تحاشيت النظر إليها ، والاستعاضة عنها بالنظارة الطبية السوداء التي تخفف مضار قوة الضوء وتأثيراته على شبكية العين .
من هنا.. لا أبصر في كتاباتي غير روح الخلق. إما محافل العدوانيين، ممن تسحقهم نصوصي هتكاً وإلغاءً وتعريضاً بأدوارهم السيركوية، فكل هؤلاء أرحام قاحلة لا تنجب غير السموم والكراهية والنوم الثقيل في مواسير التاريخ.
7- ما هي الكتابة التي تسعى لبلوغها قبل أن تبلغ السبعين من عمرك؟
الكتابة وحدها تمنح المؤلف حيوات بقرون مثالية متعددة. الانفصال عن الحياة موتاً، لا يعني توقف المؤلف عن الكتابة.