التقت إيلاف بالشاعرة الإسبانية كارمين مورينو وهي من الجيل الشعري الحديث، بينما كانت تعد إجراءات تنظيم لقاء ثقافي، في إحدى المدن الإسبانية، حول "تطلعات المبدعين الشباب الأسبان "، ويقصد بهم مبدعي الأدب في أجناس القول المختلفة، من شعر وقصة ورواية. وكان اللقاء معها في البدء يتغيا الاطلاع على تجربتها الذاتية، فقد نشرت خمس دوواين شعرية منذ عام 1996 إلى اليوم، ثم نشرت كذلك مجموعة قصصية وهي الآن بصدد إنهاء مشروع روائي لها. غير أن مناسبة ذلك اللقاء المتعلق، بالقضايا الإبداعية التي تشغل جيلها الحديث، أوحت بتوسيع مجال الحوار معها ليشمل قضايا جيلها كذلك، وليس فقط تجربتها الذاتية فحسب. ومن ثمة اختمرت عدة أسئلة تروم استشراف طبيعة التفكير الإبداعي والنقدي وحتى الإنساني عند الجيل الشعري الإسباني الحديث، وطبيعة صلته بالأجيال السابقة. كما سعى الحوار كذلك في الإمساك بملامح تصورها وتصور جيلها للممارسة الشعرية. كما قاد حديث كارمن مورينو إلى إيلاف إلى ووضعنا في صورة موقفها وجيلها من المعركة الوجودية بين الشعر والرواية، وتصورهم للحداثة، ولمستقبل القول الشعري....إلخ . فتهيأت لنا جميعا من كل ذلك عتبة باب ندخل منها إلى مختبر الصناعة الشعرية لدى الجيل الشعري الإسباني الحديث، ولاستشراف رحلة الشعر لديهم أين وصلت؟.
وقد جاء الحوار مع كارمن مورنو على هذه الصيغة؟
* لا أعرف من أين أبدأ لتقديم تجربتك الشعرية، فهل تفعلين أنت ذلك؟
- بالطبع. صلتي بالشعر كانت على يد جدتي مذ كنت طفلة صغيرة، تلقيت أولى الحكايات والأشعار الرومانسية على يديها. أتذكر حينما كنت مريضة طريحة الفراش، وأنا مازلت طفلة، كانت تنشدني إياها، وتحكيها لي، لا تمل من إلحاحي الشديد عليها بتكرارها فتفعل، بينما كنت أجد فيها أنا خلاصا من رتابة قاسية. كانت تفعل ذلك كل يوم، ومع مرور الوقت قررت أنا أن أحكي وأنشد.
عندما بدأت الكتابة الشعرية بجدية، ما كان يشغلني كثيرا هو أن أظهر من خلال ذاتي ما كان بداخل الآخرين. وهكذا كان في عام 1996 أن صدر ديواني الشعري الأول، اتخذت له عنوانا "مخطط حضري"، تتمحور قصائد هذا الديوان حول تجربة خاصة عشتها في حياتي الجامعية، كان بطلها أنور شاب عربي تعرفت إليه في الجامعة، فتعلمت منه أن" الحياة أحيانا يمكن رسمها على الأرصفة". وأصدرت بعد ديواني الأول ديوانا جديدا سميته "الإسفلت الإنجيلي"، وكانت هذه التجربة الشعرية قد شكلت على مستوى الرؤية الشعرية امتدادا للتجربة الأولى، لكنها على مستوى البنية والمضمون بدت نصوصي الشعرية فيها تتناص مع نصوص إنجيلية، كنت أقتبسها أو أعيد إنتاجها، لكن ليس كخلفية عقدية بل كرؤية جمالية وأسلوبية. وفي عام 2000 صدر لي ديوان ثالث بعنوان "ظلي أنا" في هذا العمل الشعري حاولت التخلص من الرؤية الشعرية التي استغرقت التجربتين السابقتين، وسعيت في صياغة أخرى أكثر ذاتية، واستوحت قصائدي مضامينها وآفاقها الدلالية من التراث الموسيقي الإسباني، ومن تجارب إنسانية لموسيقيين أسبان كبار كانت أعمالهم الموسيقية دائما تصحبني. أما الديوانان الثالث والرابع فهما: "هدنة الجلد" صدر عام 2005، شطر بشكل حاسم عملي الشعري، حيث تم إحداث مجابهة بين أنا الذاتية وأنا الشعرية، وكانت تلك وسيلة شعرية لتجريب إحساس مختلف. و"أكثر من الموت"هو ديواني الأخير صدر عام 2006 يجمع بين نصوص شعرية وأخرى نثرية بنفس شعري، التحمت كلها لتصوغ صرخة قوية لإبلاغ صوت المرأة، ونقل الحيف الذي يلحقها.
*ما هو التيار الشعري الذي تجدين نفسك أقرب إليه؟
- تجربتي الشعرية هي أقرب ما تكون متأثرة بشعر جيل الخمسينيات، وعلى رأسهم بشكل خاص تجربة الشاعر فيرناندو كوينيونيس الذي تتلمذت عليه. ومع ذلك لا يمكن أن أقول إن شعري يتماهى مع هذا الجيل الشعري تماهيا مطلقا، ولا أقول كذلك إنني والشعراء الإسبانيين المجايلين لي استطعنا أن نخلق تيارا شعريا خاصا بنا كامل الملامح، ولا يستطيع أحد كذلك أن يضعنا في أي تيار شعري جاهز، وأقول ببساطة ما زلنا نبحث عن صوتنا الشعري الخاص.
*ما ملامح الجيل الشعري الخمسيني الذي اعتبرت شعرك أقرب إليه من أي جيل شعري آخر؟
- لقد كان جيل الخمسينات الشعري، إذ ا صح هذا التعبير، جيلا مقاوما بقوة. كثير من شعراء هذا الجيل سجنوا لأنهم عارضوا بشكل علني النظام المستبد في إسبانيا على عهدهم. ويمكن أن نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر الشاعر خوصيه ييرو.
إن ما يميز تلك التجربة الشعرية للجيل الخمسيني عن غيره من الأجيال الشعرية الأخرى في إسبانيا، وهي أجيال كانت قد تحولت إلى أجيال سجالية وللهجاء، كان هو بحثها عن الجمال. جيل الخمسينيات، بالفعل، انتقد وشكى من الحقبة لكن بطريقة كان الشعر فيها دائما فوق كل شيء.
*التجربة الشعرية للجيل الشعري الحديث الذي تنتسبين إليه، هل استطاعت أن تترك بصمتها الأدبية على التاريخ الشعري الحديث والمعاصر في إسبانيا؟
- بالتأكيد. لكن في الوقت نفسه أقول: ربما عدم التوحد، أو التعددية بتعبير آخر، هو الذي يمكن أن يشكل البصمة الخاصة بجيلنا الشعري. إن وصول التقنيات الحديثة إلى الحياة اليومية، جعلت كل فرد منا يعيش حيثما يرغب، وهذا خلق اختلافات وعدم توافق جيلي، ولكنه في الآن نفسه شكل إغناء لأنماط القول الشعري.
*من هم الشعراء الأسبان من الأجيال الشعرية السابقة الذين يمكن أن نرصد حضورا شعريا لافتا لهم في تجريتك الشعرية؟
- ثمة العديد من الشعراء من أجيال سابقة شكلوا مرجعا شعريا بالنسبة إلى عملي الشعري. أود أن أقول كذلك إن الموسيقى و النصوص التي تؤلف من أجل الغناء هي شعر كذلك. فكثير من هذا النوع الشعري أثر بي كثيرا. وقد يكفي أن أذكر بعضا من الأسماء الشعرية الوازنة التي خلفت ظلها في قولي الشعري، لأن القائمة قد تبدو طويلة، فأذكر على سبيل المثال لا الحصر: خوصيه ييرو، فيرناندو كوينيونيس، لويس روصاليس ، فيديركو لوركا، بيلار باث باسامار، ماريو بنيديتي، خواكين سابينا، أوتي، سيلفيو رودريغيز، غلوريا فويرتيس، كويك غونزاليث وغيرهم.
*هناك من النقاد من يقول، وهم يصفون نقديا جيلكم الشعري، بأنه سعى إلى فتح أفاق شعرية جديدة بتبني النزعة التجريبية؟ فهل ينطبق الأمر عليك؟
- لا أعتقد أن رصيدي الشعري، بخصوص الشكل الشعري، هو كله حبيس النزعة التجريبية فقط. ومع ذلك فإني أومن بتداخل الأجناس والأنواع وحتى المعارف، من أجل صياغة قصيدة. ومن ثم فعملي الشعري الذي نشر مؤخرا، قد التزم بهذه القاعدة، وستجد بها مزيجا بين ما هو من جنس الشعر وما هو من جنس السرد النثري. دعني أقول إنه علينا أن نبحث عن أشكال جديدة للتعبير، تجعل الشعر شفافا و يرشح بجوهره كما هو، ونعني بذلك : البحث عن الجمال في أبدية الأبد.
*ما هي بعض تلك الآفاق الشعرية التي فتحها جيلكم الشعري؟
- أفترض أننا فتحنا أفاقا شعرية مختلفة كأفراد لهم رؤيتهم الخاصة. بمعنى أنه إذا كان جيلي الشعري قد تميز بشيء، كما قلت من قبل، فهو ذلك التناغم الذي يسود أعماله الشعرية. إننا مختلفون كذلك، وهذا ما يجعل هذا الجيل مميزا كذلك.
*عادة كل جيل شعري في سياق تثبيت هويته ورؤيته الشعريتين يكون مهووسا أحيانا بالمراهنة على الانفصال عن الجيل السابق، هل ساورك أنت هذا الهوس؟
- في الواقع الجيل الذي سبقنا، كان جيلا ملتزما سياسيا ومنخرطا في مقاومة النظام الديكتاتوري. أي أن هناك ظروفا فرضت انشغالا شعريا بقضايا بعينها. لكن للحقيقة أقول بأني أبدا لم أشغل نفسي لمعرفة ما إذا كنت استطعت أن أنفصل عما كتب في السابق أولا، أو أن أتعمد تفاديه بكل ثمن. إن المبدع عليه أن يبدع على أساس ما هو. وإن كان بطبيعة الحال، علينا أن نقر بفضل الجيل السابق. لكن في المقابل كذلك لا أؤمن بالحركات التي تكون مجرد رد فعل، بل أن تكون الحركات الإبداعية من أجل أن تضيف شيئا ثم تتجاوز سابقتها.
*ما هي بالتحديد انشغالاتك الشعرية؟
- في مجال الشعر ليس ثمة من شيء آخر يشغلني غير الجمال، سواء أكان على مستوى الشكل الشعري أم على مستوى المضمون. إن أي إبداع فني عموما يجب أن يكون جوهر اهتمامه هو البحث عن التوازن كشكل نهائي من أشكال التعبير السامي.
*كيف تفهمين أنت وجيلك الشعري مقولة الحداثة الشعرية؟
- بخصوصي أنا أقول : إن الحداثة الشعرية بالنسبة إلي هي الالتزام والانهمام بكل ما يحيط بنا، وذلك من خلال فعل للمصالحة بين ما نتمناه ونطمح إليه، وبين ما هو متحقق لدينا.
*ثمة ظاهرة تعرف بين العديد من الشعراء المعاصرين على الأقل، هو الانتقال أحيانا من كتابة الشعر إلى كتابة جنس تعبيري آخر وخاصة السرد. وهذا أيضا حصل معك فبعد إصدار خمسة دوواين ها أنت تشرفين على إنهاء عمل روائي سيصدر لك قريبا، هل يمكن أن يفهم من ذلك التحول أنه إعلان عن إفلاس الشعر؟
- عندما تكون شاعرا لا يوجد شيء يستطيع أن يفلس حسمك الشعري. إن كتاباتي السردية تغتني من ذاتي الشاعرة، لأن الإيقاع والصور تغتني من الكثافة. وبالطبع ليس بالضرورة أن يكون كل شيء جيدا، والأسوأ هو الاستمرار في التمسك بعقلية باردة بمافيه الكفاية من أجل ألا نقع في نص نثري ساذج ومجاني.
*هل نعيش زمن الشعر أم زمن الرواية؟
- بدون شك نعيش زمن الرواية، الشعر يحتاج إلى جهد يبدو أننا لسنا مستعدين لبذله.
* ماهي القصيدة بالنسبة إليك؟
- القصيدة هي التعبير بدقة مليمترية وإيقاع رسمي، عن نظرة أو إحساس أو واقع معاش..إنها محاولة للبقاء عبر اللجوء إلى ماهو جميل.
*أنت من أصل أندلسي ماذا في شعرك من تلك الأرض ومن أناسها ومن تاريخها؟
- لقد قلت دائما إني أندلسية، بل أنا من أصل قادسي بمحض الصدفة الخالصة. ولا أتخلى عن أصلي شعريا أبدا، لكن كذلك لا أجعل ذلك شعارا ألوح به كيفما اتفق. يعجبني الناس في الأندلس كثيرا لأنهم لديهم نظرة حيوية ومتفائلة، على الرغم من أن التاريخ المعاصر لم يكن منصفا لها. كنت أتطلع دائما إلى جعل الأندلس تشرق صورتها في أشعاري، وخاصة قيمة التضامن تلك التي تجعل الجميع يشعر بعزة عندما يتم الحديث عنها.
*نرغب في تعليقات منك على أحداث بعينها عايشتيها.
* سقوط جدار برلين؟
ج- هو حدث تاريخي اقتضى وصول العولمة. كان يفترض بداية عالم جديد ينظر فيه الناس إلى بعضهم كما هم وليس من جهة ما يملكون. لكن ظلت هناك طرافة تاريخية جعلت، وهنا أنقل ما قاله مانويل ريفاس في عمود له نشر يوم الأحد 29 أكتوبر الماضي في "الباييس"(صحيفة إسبانية واسعة الانتشار)، العديد من الناس يعرضون تذكاراتهم في الواجهات الزجاجية على هيئة جدار.
*احتلال العراق؟
ج- إنها واحدة من الحماقات، التي للأسف تطبع سلوكاتنا نحن بني البشر. لقد كان احتلالا غير شرعي وقاسيا. لقد أفرز ذلك الحدث انبثاق حركة مدنية صرخت "لا". أريد أن أشير إلى أننا نحن المواطنين الأسبان، خرج أغلبنا في تظاهرات للمطالبة بوقف ذلك الاجتياح. الشيء الآخر هو أن القادة السياسيين، وفي هذه الحالة كانوا قادة من الحزب الشعبي، هم الذين بنية غير حكيمة وضعوا أصابعم في أذانهم حذر صرخة الرعب.
* سقوط سبعة وثلاثين مهاجرا سريا غرقى في سواحل الأندلس في يوم واحد؟
ج- لقد كانت واقعة مأساوية، ويبدو أنه لا أحد كان يرغب في تفاديها. صحيح أن إسبانيا قد لا تتسع لكل المهاجرين الذين قد يأتون من مختلف بقاع العالم، غير أننا في كثير من المناسبات ننسى بأننا نتحدث عن كائنات بشرية وليس عن مجرد أرقام.
* إقامة جدار عازل بين الولايات المتحدة والمكسيك؟
ج- إنها واحدة من تلك السخافات التي تسم سيدا يملك حظ العالم تحت ضغط زر من أصبعه.
- جدار العزل العنصري في فلسطين؟
ج- إنه ظلم تاريخي. إنه يبدو في هذا العالم أنه يتم إسقاط جدار من أجل إقامة أربعة جدران أخرى. آمل في يوم من الأيام أن ندرك أننا جميعا قلبنا يخفق بالطريقة نفسها .
إيلاف
14 نوفمبر 2006