برغم أني بدأت تجربة كتابة النقد التشكيلي من سن مبكرة نسبياً، 26 سنة، في العراق. ما زلت حتى الآن بعد تلك السنوات الطويلة ارفض الحديث عن عملي الفني، بل ارفض مجرد الرد على سؤال يلتمس شرح او تفسير عمل معين، سواء كان معروضا في معرض شخصي خاص، او حتى في مرسمي، ان مجرد عزوفي عن تسمية لوحاتي يمكن تفسيره بأنه محاولة لرفض التقيد بقراءة معينة للعمل الفني، بما في ذلك قراءتي نفسي، مع افتراض أني كنت أعي أثناء بناء اللوحة معنى او مغزى المفردات التي تتألف في لحظات، وتتصارع في لحظات أخرى. ولكنها لا تتساوى في النهاية من نسيج هارموني، قبل ان تتعرض لعمليات بتر وتحويل وتحول. ولكن لا استطيع ان أؤكد صحة هذا الافتراض. لأنني في معظم الأحيان أضع قدمي على طريق اجهل تماما إلى أين سوف يقودني. وربما انحرف خلال محنة الخلق فتبتلعني هوة سحيقة اخرج منها بصيد لم يكن من حقيقة الأمر غايتي المنشودة. لأنني حقيقة لا اعرف، في الغالب، ما هي غايتي الا بالتحقق فقط.
ولذلك، أدهش وأنا أشاهد الفنانين وهم يحللون ويشرحون خبايا أعمالهم، أو ما يعتقدون انها خبايا ينبغي تفسيرها وشرحها كما يشرح الشعر العربي الكلاسيكي. ولكنني لا أدهش طويلا، لان الفنانين الذين أتحدث عنهم هم في الأصل مدرسون تربويون وليسوا رؤيويين.
وينطبق ذلك على علاقتي بالشعر، على الأقل شعري، أنني اكتفي بكتابة القصيدة لأعبر فيها عن شيء غامض، في معظم الأحيان، دفعني إلى تصويره. برغم ان هذا الشيء يمكن ان يكون انفعالا بخاطرة أثارها مشهد بصري، او تذكر صفحة من الماضي تسربت من الذاكرة، أو الرغبة في التخفيف حمل تجارب العمر بتجريف الذاكرة نفسها وتكثيف ما يجرف شعريا، من محاولة يائسة لمقاومة فناء الإنسان المحتوم.
ولأنني لا استطيع ان أفسر قصيدة سجلت فيها تجربة لحظة ما، تجمع بعين الحاضر المرئي والملموس، والماضي ـ الحاضر المنتهي غير الملموس، والمحسوس مع ذلك، لا استطيع، بالقطع، ان أفسر حتى علاقتي بالمكان، وهو في حالتي، جزء لا يتجزأ من فضاء الماضي وفضاء الحاضر. ان لم يكن عاملا مشتركا في ما بعد الفضاءين: فضاء النفس.
إنني، على سبيل المثال، ألاحظ من شعري، ان إسكندرية اسكندريتي، تتجلى في لحظات خاصة، لا في قسمات نيويورك، مع الاعتراف بالاختلاف البين، بل في روح المدينة نفسها التي تتقمص أحداهما الأخرى.
ولا شك ان تقتنص الأمكنة وتداخلها هو في حقيقة الأمر احد تجليات تداخل الماضي والحاضر، والمتاع الخفي الذي لا يحمله المسافر او النازح او المنفي، حتى لو كان طوعاً، كما في حالتي، في حقيبة.
ورداً على التساؤل عن مفهوم المكان عند الشعراء، قام و.ت. فيفرل برحلة في أنحاء الولايات المتحدة استغرقت عاماً اجري خلالها مقابلات مع شعراء أميركيين، كما قام بتصويرهم بنفسه، وسوف تجمع حصيلة الرحلة في كتاب "شعر المكان"، الذي سوف يصدر في الربيع القادم عن دار النشر "مطبعة جامعة ولاية يوتا".
وفيما يلي مقابلة نشرها مع الشاعر دونالد ريفل الذي التقى به هو وزوجته في "وادي الموت" في كاليفورنيا الذي ضل الطريق فيه. وعندما اهتدوا أخيرا إلى الطريق الصحيح الذي يفضل إلى الحضارة ـ إلى لاس فيجاس، من بين جميع الأماكن ـ رحب بدعوتهما للحديث مع ريفل عن الشعر.
ومثل غيره من الناس الذين يعيشون في لاس فيغاس، يقضي ريفل أيامه بعيدا عن "القطاع": الملاهي الليلية بضجيجها البصري، وكازينوات القمار بوعودها الضخمة، والأضواء المبهرجة والسياحة.
وهو يعيش هو وزوجته، الشاعرة كلوديا كيلان، وابنهما بن، بالقرب من مستوطنة صغيرة تسمى "بلو دياموند" ـ الماسة الزرقاء ـ جنوب غربي المدينة. ويعلق بيفرل على التناقض بين طاقة لاس فيغاس المجنونة المنتشرة وسكينة فِناء ريفل بقوله انه كان يبدو سوريالياً.
جوائز
وقد اصدر دونالد ريفل ثماني مجموعات شعرية، وترجمه لأعمال الشاعر الفرنسي جوييوم ابو للينير في مجلدين. وحصل على عدة زمالات من بينها زمالة مؤسستي جوجنهايم وانجرام ميريل، وفاز بعدة جوائز شعرية من بينها جائزة رابطة PEN الأميركية وجائزة جيرترود ستاين للشعر الأميركي المبتكر. ودرس خلال العشر سنوات الأخيرة اللغة الانكليزية والكتابة الإبداعية بجامعة يوتا.
***
* ما هو الدور الذي لعبه المكان في حياتك؟
ـ لا بد أنني ساذج او مجرد محظوظ. لقد وجدت ان كل مكان عشت فيه رعوي بشكل جوهري. لم اعرف ان جنوب برونكس (في نيويورك) حي فقير الا بعد سنوات منذ تركته. لقد نشأت في شقة من ثلاث غرف. وقد أخذت انا وأختي غرفة النوم، وكان والداي ينامان على الكنبة التي تتحول إلى سرير في غرفة المعيشة. وكان الحال أشبه بمسلسل The Honeymooners. وكان الغسيل ينشر خارج شباك المطبخ، لكنني لا احتفظ الا بذكريات طيبة. إنني أتذكر ما يمكن ان يكون الشجرة الوحيدة، وأتذكر بعض النجيل وأتذكر ناسا طيبين. أعرف انه كان مشهدا حضريا قاتما للغاية، لكنني لا أتذكره على هذا النحو:
كانت الكنيسة هي محور حياتي كصبي صغير. وكانت الكنيسة التي كنت أتردد عليها... القديس بطرس بميدان وستشستر في برونكس، قد بنيت في 1853. كانت جميلة. وكان معظم الناس هناك، راهبات وقساوسة انجيليكيون، من انكلترا وكندا، وكانوا طيبين للغاية. التراتيل والصلوات، اللغة ـ مرة أخرى رعوية. كانت محطة قطارات الأنفاق المجاورة للكنيسة مرتفعة فوق سطح الأرض، يحوطها الضجيج والسخام. ولكن كل ما أتذكره هو هذه الطيبة واللطف والتحضر.
لكن حياتي بأسرها اتسمت بتلك الوداعة الرعوية الخضراء، وبطبيعة الحال، بغزوات الدهماء والغرابة. كنت حظيظا لان والدي كانا طيبين للغاية. وأعتقد ان الجميع كانوا يدرون ان ظروف طفولتي الفيزيقية كانت صعبة. وكانت الظروف الفيزيقية لجميع الأطفال، في الكنيسة وفي المدرسة صعبة. ومن ثم كان الناس يعملون عملا شاقا للغاية ليجعلوها أفضل. وفيما يتعلق بالأشياء المادية، وبإمكان الوصول إلى أنواع بعينها من المتع، لم يكن لدينا شيء من ذلك، ومن ثم لم نشعر بافتقادها، لأننا لم نعرفها أبدا. ولما أصبحت غير متاحة، كانت رائعة. رحلة مدرسية إلى متحف متروبوليتان للفن. رحلة مدرسية إلى مزرعة بشمال ولاية نيويورك. شيء أشبه بلحظة توماس تراهيرن (شاعر انكليزي ميتافيزيقي، وثيولوجي) عجائب!
راشد
ان العودة إلى هناك الآن كرجل راشد تحزنني. لن أعيش في نيويورك مرة أخرى أبدا. لا تزال أمي تعيش هناك، ولن تعيش في أي مكان آخر أبدا. لقد فقدت الموهبة. لا بد أني كنت املك التركيبة ـ الذهنية، أيا كانت، اللازمة، لكنني لم استطع ان أعود إلى هناك. إنني لم أكتب كلمة شعر واحدة أبداً هناك.
وفي بعض الأحيان تراودني فكرة أن أفضل شيء يمكن أن أفعله ألا أنظر إلى الخلف. وإذا كان المرء يحتفظ بذكرى الطيبة والوداعة، لماذا يختبرها من جديد؟ لذلك لا أشعر بأي غضب أو سخط، باستثناء الشعور استرجاعياً. لقد عدت إلى حيي منذ حوالي عام. ومن بين الأشياء التي تذكرتها أني كنت قادراً على المشي حتى طرف الماء، والآن لا يمكن أن أفعل ذلك، لأن هناك مباني (كوندومينيوم). حتى ذلك المشهد الرعوي قد زال. لقد أتت "طواحين شيطانية سوداء" إلى البرونكس.
إنني أتذكر الـ"يانكي ستاديوم". لقد شاهدت ميكي مانل وروجزر ماريس يلعبان. المزيد من الملذات الرعوية. وأعتقد أني، بعد أن تقدمت في العمر، كان عليّ أن أبذل جهداً أشد وأقطع شوطاً بعيداً لكي أحتفظ ببراءتي، سذاجتي الشخصية. ينبغي أن تكون ذا حيلة لكي تكون ساذجاً.
* من مجموعتك الأخيرة My Mojave، يوجد المكان، لكنه لا يسمى دائماً أو ليس واضحاً. كيف تعتقد كيف تستخدم المكان في شعرك؟
ـ إن المكان هو الذي يستخدمني. لأنني أصبحت أثق، أكثر وأكثر مع مرور السنين بما يعطي في لحظة الكتابة وليس بما يقصد. لقد عدت إلى قراءة "المعبد" لجورج هربرت خلال صباحات هذه الأيام الأخيرة، وقد أدركت أني لم ألاحظ عندما كنت طالباً، إلى أي مدى قد سلم نفسه لبصره. لقد أحببت ذلك في تراهيرن، لكنني لم أتذكره من هربرت.
وقد أعززت، من شعراء القرن العشرين، من أمثال إزراياوند ورونالد جونسون، ذلك الإحساس بـ"سوف أفتح عيني وأعطي القصيدة". كما يقول هربرت، "إذا رفعت عيني فحسب، تصنع حقيبتي".
يؤلف نفسه
فالمكان سوف يؤلف نفسه عن طريقي. وقد أصبحت الكتابة، أكثر وأكثر، عمل ثقة أكثر منها عمل صنعة. والمكان، إذن، أليس مجرد شيء هام، لكنه كل شيء تقريباً. والقصيدة سوف تصبح ما هي عليه بسبب المكان الذي أكتبها فيه. ولحسن حظي، حيث أكون هو حيث أكون. وفي My Mojave، كتبت المكان القصيدة. "لقد رفت عيني ـ كما يقول هربرت، وإذا بها هناك، كانت هناك القصيدة. وتستمر القصيدة ما دام انتباهي يستمر. إنني أقول لطلابي دائماً "كلما طالت نظرتكم، رأيتم أكثر".
عندما تذهب إلى الصحراء لتعيش هناك، تتراجع تقريباً. كيف يمكننا أن نفعل ذلك؟ كيف يمكننا أن نعيش هنا؟ وبعد ذلك، تعلمك الصحراء ببطء، إذا انتبهت، كيف تعيش هنا. وهي تعلمك ما الذي تبحث عنه، تعلمك أن ترى كم هي جميلة، كم هي ملأى. وهي تترجم إلى طريقة تفكير في القصيدة. القصيدة ليست خاوية، حتى لو كتبت في عشرين كلمة، فهي لا تزال ملأى، وإذا كانت مؤلفة من واحدة وعشرين كلمة، لا تزال القصيدة مجرد ملأى.
* هل تعتقد أن فكرة "سوف أفتح عيني وأعطي قصيدة" تتعارض مع الفكرة "الوردوورثية" عن "عاطفة مستذكرة في سكينة"؟
ـ هناك دائماً ذلك الصراع بين الذاكرة والادراك. فأنا أرى ما أراه الآن، لكن هناك دائماً صوت الخلفية هذا، ضوضاء خلفية الذاكرة هذي وهي في بعض الأحيان تتقدم. ولا أعرف ما إذا كانت "عاطفة مستذكرة في سكينة". إنها أكثر من ذلك. هل سوف يتصادقان. هل ما أراه الآن، بينما أكتب القصيدة، يتصادق مع ما أتذكره طوال الوقت؟
لقد جعلت أحداث 11 سبتمبر كل ذلك واضحاً بصورة مذهلة، عند الانتهاء من كتابة My Mojave. لقد كنا هنا. كنا نوصل ابننا بالسيارة إلى مدرسته المكونة من غرفة واحدة من "بلو دياموند". وكانت هذه الأحداث الرهيبة ترتشح حيث نشأت. الحي الذي تعيش فيه أمي كان معبأ بالدخان. وقد عجزت عن الاتصال هاتفياً بها، ولذلك، بطبيعة الحال، لم يكن في وسع أحد أن يتصل بأي أحد. وهذا ظرف من أكثر الظروف التي نتحدث عنها مبالغة. كنت أقود السيارة ومعي كلوديا وبن. كنا في الصحراء. وكانت الشمس تتلألأ. لم يكن هناك الشيء غير السلام. وكانت هناك خيول برية. وكان هناك أطفال. كان كل شيء في أحسن حال. ومع ذلك، كانت هناك في الخلفية ضوضاء ما كان يحدث في ـ ما رأى بعض الناس أن يسموه ـ العالم.
لكنني كنت لا أزال في العالم، كانت هناك الشمس، كانت هناك السماء، ولا شيء قد حدث.
ومع ذلك، كل شيء ما قد حدث. ويخيل لي أن أية قصيدة لأي رجل أو امرأة يمكن أن تكون من قبيل هذه التركيبة. وما لم يكونوا قد اختاروا عن عمد أن يتجاهلوا ظروف وجودهم. أو أنهم أنفسهم لن يتذكروا ما يخطر على البال. ان الناس الذين تعلمت منهم كيف أكتب الشعر يتقنون حقيقة كيف يدعون كل ذلك يحدث. لذلك يستطيع شاعر مثل جون أشبري أن يكتب عما يراه من نافذته من هذه اللحظة وعن طفولته من غربي ولاية نيويورك، في نفس الوقت في آن واحد أو بإتقان. وهذا فيما يبدو لي شيء رائع.
* ماذا عن المكان الذي تعيش وتعمل فيه الآن؟ إن سولت ليك سيتي ولاس فيغاس تبدوان مثل تركيبة غريبة؟ فهل ترى أوجه تشابه فيهما؟
ـ إن كلتا المدينتين، كل الثقافتين، مرتجلة في فراغ. كلتا المدينتين رافد للطبيعة الارتجالية للروحانية الأميركية. فهل تلك ديانة حقيقية، أم أنك اختلقت ذلك؟ هل تلك مدينة حقيقية، أم أنك اختلقتها؟ إنها مثل قول الشاعر روبرت كريلي: "هل تلك قصيدة حقيقية، أو هل كتبتها بنفسك؟" وبرغم أنها تنطوي على شيء من الخفة والحماقة إلا أنها مصنعة مع ذلك.
إن الإيمان بشيء مقنع لا يثيرني. لكن الإيمان بشيء تعرف أن عمره ساعة ونصف الساعة يتطلب طفرة من الإيمان. وقد بنيت المدينتان كلتاهما بالإيمان فقط. فقد كان لا ينبغي أن تكون هناك مدينة في لاس فيغاس.
وكان لا ينبغي أن تكون هناك مدينة في سولت ليك. ويخامرني الإحساس أنهما انتهجتا الطريق الخاطئ. كان لا ينبغي أن تمتدا شمالاً لأن وادي "كاشي". أخضر وجميل للغاية. فلماذا تذهب إلى أرض ملحية مجففة إذا كان هناك واد أخضر قريب للغاية؟ إنها تركيبة الإيمان والحماقة التي تربط المكانين. إنني شخصياً أشعر أنها قد خدعتني وروعتني.
إنني لا أستخدم كلمة شجاعة من قبيل الرفض. ولكنني استعملتها باحترام كبير وبرغبة في أن أكون قادراً على محاكاتها.
لقد شعرت، في الأيام التي أعقبت 11 سبتمبر مباشرة، أننا كنا نعيش في آخر أماكن بريئة في أميركا، ان لاس فيغاس، ومدينة سولت ليك، إلى حد ما، لم تتغيرا. إنهما ليس لهما جذور. وفي وسعهما ببساطة أن تطوفا فوق الأحداث. وأنا على يقين أن آباء المدينتين قد يزعجهم ذلك. فقد تأسست كل من المدينتين على أساس فكرة "لن نبقى هنا طويلاً". ففي لافيغاس سوف تحقق أرباحاً طائلة وتذهب إلى مكان آخر. وفي سولت ليك سيتي، سوف تذهب إلى السماء.
إنهما محطتا طريق.
المستقبل
الاثنين 18 أيلول 2006