لفاطمة ناعوت كتابة خاصة لها سماتها المميزة، تأسست على دعائم عدة منها: الاطلاع الواسع على الثقافة الغربية، والاغتراف من معين الثقافة العربية، والولع بفكرة اللغة سعيا إلى الابتكار والتجديد، صدر لها العديد من المجموعات الشعرية التي كشفت عن خصوصية تجربتها منها: " "نقرة إصبع - على بعد سنتيمتر واحد من الأرض - قطاع طولي في الذاكرة - فوق كف امرأة "، واضطلعت بترجمة العديد من القصائد والقصص لكبار الشعراء والأدباء في العالم لتزود المكتبة العربية بروائع المترجمات منها: " "انطولوجى: مشجوج بفأس، أحزان حمورابى - جيوب مثقلة بالحجارة - قتل الأرانب " كما ترجمت قصائدها إلى الهولندية والإنجليزية والفرنسية، ووصفها الدكتور صلاح فضل بأنها " شاعرة تخترق حواجز اللغات والثقافات، كي تتواصل مع ذاتها في لحظات صدق حميم وموجع، تترجم رؤيتها إلى كلمات لم يسبق لها الدخول في قاموس الشعر من قبل، تطمح ان تتحقق فيه وتبطل المطمور المخزون في ذاكرة الأسلاف، ترقص على الحافة الخطرة بين شعرية الائتلاف والاختلاف، وتلعب في تلك المساحة الحرجة بين حرية الإبداع وعقوبة التلقي ".
الحوار التالي لـ الشرق يكشف عن بعض تلك الخصوصيات المتوزعة بين الشعر والترجمة والدراسات.
* من واقع انشغالك بترجمة الشعر والقصة والمقال من الإنجليزية إلى العربية، هل ثمة شروط يجب توافرها في مترجم هذه الأجناس المختلفة؟ وما الذي يجعلنا نفضل ترجمة عن أخرى؟
ترجمة الأدب تختلف عن ترجمة العلوم وسائر الأجناس المعرفية الأخرى. كون الطاقة الإبداعية في الأدب بوجه عام، والشعر بوجه خاص، هي التي تجعل من الكلمات فنًّا وانحرافًا عن المنطوق البشري العادي. ومن هنا فالنص الأدبي المترجم لابد وأن يفقد جزءًا من "طاقته" الفنية خلال رحلته من لسان إلى لسان. بسبب سفره من معجمه الأم الذي يحمل حضارةً بعينها وتراكمًا معرفيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا وبلاغيًّا إلى معجم مستضيف مختلف كليّة في كل ما سبق. ووظيفة مترجم الأدب هي "تقليص" القدر المهدَر من تلك الطاقة قدر إمكانه. ومن ثم فبزعمي الخاص لابد أن يكون مترجم الأدب أديبا مكينًّا في لغته الأم بالأساس، وأن يكون مترجم الشعر شاعرًا رفيعًا، حتى يكون بوسعه استشراف الحال التي غمرت الشاعر لحظة كتابته القصيدة. فيما يشبه لحظة "الحلول" الصوفي. لو استطاع الشاعر/المترجم أن يقبض على هذه اللحظة ويستشرف تلك الحال وأن يحلّ في روح الشاعر الأصلي لحظة الانصهار، لأنتج قصيدة مترجمة رفيعة القيمة لا تقل طاقتها كثيرا عن القصيدة الأصل. لأننا سنحصل على نصٍّ مواز للأصل وليس تابعًا ذليلا أقل درجة. لابد من ذلك للمترجم وإلا نقل من القصيدة معانيها ومفرداتها فلا نجد بين أيدينا إلا بيانا صحافيًّا لا شعر فيه.
* ما هي شهادتك على واقع الترجمة من وإلى العربية في الوطن العربي في المرحلة الراهنة، سلبًا وإيجابًا؟ وما ينبغي أن يكون عليه مستقبلا؟
لنتكلم عن الإيجابي أولا كيلا نكون عدميين. لدينا في مصر المشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة، ولدينا مشروع الكتاب الألف الأول والثاني عن هيئة الكتاب المصرية. كلاهما مشروعان ممتازان. وفي لبنان والمغرب العربي والكويت وسائر البلدان العربية ثمة مشاريع مشابهة مهمة. وفي مصر أعرف أن د. جابر عصفور وفريق عمله يبذلون جهودًا حقيقية من أجل إنعاش حركات الترجمة إلى العربية. ورغم ذلك فمازالت حركات الترجمة العربية أشبه بفضيحة كونية. سأقول لك إن اليابان عملت اتفاقية دولية تنص على ترجمة كل كتاب علمي يصدر في الغرب إلى اليابانية "فور" صدوره في بلده بلغته الأم! ولا تعليق لدي سوى الدعوة إلى التأمل والمقارنة. أما عما ينقل من أدبنا إلى اللغات الأخرى فمن أسف ليس دائما الأجمل هو ما ننقله إلى الغرب، لأن تلك الآلية تحتكم للعلاقات والصداقات والمصالح أكثر مما تحتكم إلى المعايير الفنية الرفيعة.
* تحظى مجموعاتك الشعرية باحتفاء نقدي واضح ما يكشف عن تجربة حقيقية. ترى ما الذي يضيفه إليك هذا الاحتفاء النقدي؟
أشكر لك ثقتك في كتاباتي وكلامك الطيب، غير أنني أرجو ألا أصدمك لو أخبرتك أنني لم أُقرأ بعد، وأعتبر نفسي مظلومة نقديا. شأني شأن كل امرأة تكتب في مجتمعاتنا، وربما أكثر قليلا كوني لا أجيد لعبة العلاقات الاجتماعية لأنني كائن يميل إلى العزلة بطبعي.
* ربما كشف ذلك عن أزمة قصيدة النثر، لنتعرف منك عن بعض سمات قصيدة النثر.
"أزمة قصيدة النثر" هي أكذوبة ابتكرها السلفيون وبعض النقاد الكسالى. لا أزمات في داخل الشعر أو في القصيدة الجديدة. لكن الأزمة في المديا "المخدِّمة" على الشعر من تعليم وإعلام ونقد. القصيدة الجديدة، شان كل فنٍّ جديد، تحتاج إلى نقاد يسهرون عليه لينظّروا لها ويفككوا شفرتها للقارئ الذي يجب أن يشتغل أيضًا على دماغه وذائقته ويطورها مثلما تتطور الحياة. القصيدة الجديدة "مغيّبَة" عن الميديا التعليمية والإعلامية بفعل فاعل وبمعرفة من يربضون على كراسي المؤسسات من السلفيين والرجعيين الذين يخشون أن ينسحب البساط من تحت أقدامهم. ما تسميه قصيدة النثر أسميه أنا شعرًا جديدا متمردًا، فالتمرد نسغ كل فن، لأن الفن في جوهره الأساس تمرّد على ذائقة قارّة خاملة، يحتاج وحسب إلى عقول نقدية نشطه تستطيع أن تحفر فيه لتخرج لنا بمفاهيمَ جديدةٍ بكر. الشاهد أن النقاد الخاملين الذين لا يرومون بذل الجهد سلكوا أحد سبيلين حيال الأمر أحلاهما مر، إما أن عالجوا النص الجديد بمباضع الشعر التقليدي فخرجوا لنا بمقاربات نقدية مشوهة تعسة، وإما ارتعبوا من ذلك النص المختلف إذ لم يجدوا في أدمغتهم الدوجمائية الجامدة مناهج جاهزة تصلح له، فاختبئوا له خلف الأشجار يرمونه بالحجارة والنبال بوصفه شبحًا شيطانيًّا لا كتالوج جاهزا له في حقيبة بوقراط التي يحملونها. وفي المقابل ثمة نقاد يفهمون "فكرة الفن" بمفهومه الصحيّ الصحيح، فقبلوا النص الجديد أولا وتقبلوه باعتبار أن الشعر هو ما يكتبه الشعراء وباعتبار أن الفن تجديد وحفرٌ في مناطق موحشة وليس غرفًا سهلا من نبع جاهز، فاشتغلوا على النصوص وحللوها ونظّروا لها.
* هل ينبغي أن تتحرر قصيدتك من المصطلحات الأجنبية والهندسية؟
أنت شاعر وتعرف أن كلمة "ينبغي" غير مطروحة إذا ما تعلّق الأمر بالفن. لكل شاعر بصمته الخاصة التي تشير إليه وحده دون سواه. أحب نصي كما هو ولا أراهن على شيء بعينه سوى متعتي الخاصة لحظة الكتابة، إضافة إلى رسالة الكترونية منا هنا ومن هناك تقول لي شكرا لقد قرأنا لك قصيدة جميلة. هل من مطمح للشاعر يفوق ذلك؟
* "من العدل أن يأتي الفرح بين وقت وآخر على الأقل"، مقولة شهيرة لكامو لها دلالتها، كيف تم توظيف هذه المقولة للتعبير عما هو خاص وعما هو إنساني ليشكلا جناحي طائر يحلق بمجموعتك "فوق كف امرأة"؟
أشكر لك تلك الصورة الشعرية الجميلة التي تؤكد أنك انتبهت لاستخدامي هذا التناص مرتين. فقد كتبت مقولة كامو تلك في مفتتح الديوان، ثم رددت عليه مرتين. مرة في صفحة المفتتح ذاتها بقولي: "في انتظار العدل إذن". ومرة في نهاية الديوان بقولي: "من أخبرك عن وجود عدل يا كامو؟!". طبعا من العدل أن نفرح، لكن تعريف العدل فوق الأرض بشرطها الراهن بات يحتاج إلى إعادة صياغة. وكأنني في بداية الديوان/الحياة، اتفق مع كامو وانتظر "معه" العدلَ ثم الفرح بالتالي. وفي نهاية الديوان/الحياة أرفض المقولة لأنني سأكتشف ألا وجودَ حقيقًّا للعدل. مقولة كامو تمثل قضية صحيحة بمفهوم "المنطق" الفلسفيّ. فالمقدمات الصحيحة التي تؤدي إلى توالٍ صحيحة، والمقدمات الخطأ التي تؤدي إلى توال خطأ، تكون جميعها قضايا صحيحة. كأن أقول: "لو وضعتَ الفيل في جيبك ستشرق الشمس من المغرب"، هذه قضية صحيحة منطقيًّا، وصحيح أن الشمس ستشرق من المغرب حقًا دون مجاز، لأنك لن تستطيع أن تضع فيلا في جيبك. وهكذا فالفرح موجود، لو كان العدل موجودًا!!
* ما هي دوافعك لإصدار ديوان شعر بالإنجليزية ؟
كنت أحاول أن أختبر "عمليًّا وشخصيًّا" فكرة تناولها الفلاسفة والألسنيون كثيرا. كيف تتولد الأفكار والمشاعر في رؤوسنا؟ الفكرة الهيولية تلك التي لا شكل لها ولا قوام ولا لغة، كيف تتحول إلى حروف فوق شفاهنا أو كلمات فوق أوراقنا؟ مازالت فكرة تحوّل الأفكار إلى كلمات وحروف تدهشني جدا حتى الآن. أذكر قديما أول ما تعلمت القراءة على نحو صحيح بدأت برواية "أحدب نوتردام" في نسختها العربية. وكان جدي قد حكي لي أن فيكتور هوجو هذا هو رجل فرنسي يعمل أديبًا يعني حرفته أن يمسك القلم ويكتب في دفتره ما يتحرك في رأسه من أفكار! وقتها، ومن أول سطر في الرواية، بدأت أشعر بحال من النشوة العجيبة، ليس بسبب أحداث الرواية وجمالها، بل لأنني وقتها كنت أفكر أنني لا أقرأ، بل أتجول داخل دماغ هذا الرجل الذي كلمني عنه جدي. أخرج من غرفة لأدخل غرفة أخرى، أشاهد رفوفًا فوقها أفكار وألمح درجًا مفتوحا تطلُّ منه خاطرة الخ. لم يبرحني هذا السؤال أبدًا لأنني لم أجد له إجابة. كيف تتكون الأفكار والمشاعر في عقولنا، وكيف تتحول إلى كلمات وجمل وقصائد وفلسفات ونظريات ومعادلات الخ؟ حين تباغتني حال شعر أنتظر أن تتكون الجملة الأولى من القصيدة حتى تنكتب، فماذا لو جاءت موزونة خليليا؟ هل أكسرها "عمدًا" لأكتب قصيدة نثر؟ وماذا لو أن الجملة الأولى جاءت بالإنجليزية؟ هل أترجمها لأكتب نصا عربيا؟ أنا كائن متمرد وعنيد بطبعي وصعب المراس ولا قِبل لجيش مسلّح أن يسوسني أو يقمع إرادتي، لكنني في المقابل أضعف ما أكون أمام قلمي ذلك أنني لا أحترم شيئا في الوجود أكثر منه. لذلك أتركه يكتب كما يشاء وأطيعه صاغرةً. سوى أنني أتماكر عليه بأن أنتقي مما يخطّه ما أحب أن أنشره فأنشره، وما أذروه للرياح مما يخالف مشروعي الكتابيّ. الشعر بالإنجليزية كانت تجربة مجنونة، لابد منها، ولا أظنني سأعاودها.
* ترجمتِ للروائية الإنجليزية فرجينيا وولف في كتابك "جيوب مثقلة بالحجارة"، وللقأصيح:نجليزي المعاصر جون ريفنسكروفت، الذي لم يُترجم للعربية من قبل، في مجموعة "قتل الأرانب" الصادرة مؤخرًا عن دار شرقيات، عدا الكثير من الشعراء الأمريكان والإنجليز في أنطولوجي شعري هو "مشجوج بفأس". على أي أساس تختارين من تترجمين لهم.
باستثناء فرجينيا وولف، أحتكم للنص الجميل. أو بكلمات أكثر صدقا، أقوم بترجمة القصيدة التي أجد نفسي بعد الانتهاء من قراءتها أصيح :يا الله، ما أجمل هذا! كم تمنيتُ أن أكتب ذلك وأخفقت! وقتها – بحسٍّ برجماتي محض- أترجم النصَّ كي يتجاور اسمي معه ولو كمترجمة. وإلى حد ما ينطبق الكلام ذاته على القصص رغم أنني لا أكتب القص، سوى أنني أترجم القصة التي أراها أقرب للقصيدة بما تحمله من طاقة شعرية ووجودية عالية. أما فرجينيا وولف فأنا مفتونة بها ككاتبة وكإنسان، لذلك أترجم لها وسأظل أترجم لها إذ أعتبر كل ما تكتب شعرًا بامتياز رغم أنها روائية وقاصة. ولأنني مؤمنة أنها ظُلمت عربيًّا حين لم يتعرف عليها القارئ العربية بسبب ندرة ما تُرجم لها إلى لغتنا. ودون أدني حسٍّ تحيزي أو نسوي أقول مطمئنة إنها تفوق جويس وبروست وكل مجايليها من رواد تيار الوعي. بل إنني رصدت العديد من ملامح ما بعد الحداثة في قصص كتبتها في عشرينيات القرن الماضي، وهو ما سيرد في مقدمتي المجموعة الجديدة التي أتوفر على ترجمتها الآن وتصدر عن المشروع القومي للترجمة أيضًا لتكون متممة كتابي الأول عنها "جيوب مثقلة بالحجارة".
الشرق القطرية
9 - 2006