هذه المرة أيضاً، أريد أن أقول للشعر: لا تخف أيها الشعر.
ما يحدث لكَ في مصر، وفي شقيقاتها، وفي أشقائها، وها هنا، لممّا يدعو الى أن تكون "ضعيفاً" بالشعر، ذاتكَ القصوى، التي لا شكل لها سوى الكلمات.
فما أضعفكَ، وما أقواكَ.
يتغلّبون عليكَ بالقوة، تتغلّب عليهم بالضعف. فأيّ قوة، وأيّ ضعف!
إفعلْ، إذاً، ما يحلو لكَ أن تفعل، واكتبْ ما يأمل منكَ الحلم أن تظلّ تكتب، وليذهب الحكّام والعسس ورجال الدين والمخابرات، في دنيا العرب هذه، وفي الدنيا كلها، الى أهوائهم وأعمالهم، والى العماءات. وليذهبوا أكثر، أبعد، أعمق، وأعلى، والى الجحيم، والى النعيم، إذا شاؤوا، أو إذا لم يشاؤوا. فلن يصلوا اليكَ.
ليس شأنكَ أن تخسر، يا شعر. شأنكَ، فقط، أن تظلّ شعراً.
الجبل لا تهزّه ريح. الجبل ترقّصه غيمة. هؤلاء ريحٌ، يا شعر، وقبضُ ريحٍ، وأنتَ الجبل ترقّصكَ غيمة.
حتى لأنتَ غيمةٌ، يا شعر، وترقّص الجبلَ والريحَ، فكيف تخشى غيمةٌ، كأنتَ، الجبلَ والريح!
وإذا شئتَ، وتستطيع، ففي مقدوركَ، يا شعر، أن تكون العكس. وأن لا تكون. ومعاً. ولن يصلوا اليكَ.
فما أقواكَ، وما أضعفكَ!
ذهب كثرٌ "ضحيتكَ"، وسيذهب كثرٌ، أيها الشعر. ليس فحسب، سيذهبون، هنا، في أمتنا العربية، هذه اللذيذة العزيزة، بل وفي كل مكان، أيها الشعر.
لمحزنٌ، ومفجعٌ، ودائماً، أن يذهبوا. لكن "ضحاياك" فائزون بكَ، أيها الشعر. وأنتَ، لا بدّ، فائزٌ بهم.
لا تزعل. لا ترتجف. ولا تنكفئ. أمامكَ الكلمات، فاكتبْها. وأمامكَ الغيوم، والرياح، والليالي، فارقصْ لها، ورقّصْها. وأمامكَ ما ليس أمامكَ، وما ليس وراءكَ، وما ليس في مكان، ولا في زمان، فاكتبْ إذا شئتَ أن تكتب، وافعلْ ما تشاء إذا شئتَ أن تشاء.
"طمئنْهم"، يا شعر، فلا أحد يستطيع أن يصل اليكَ، حيث أنتَ، ولا الى حيث تصل أنتَ.
يصلون، نعم، يصلون، وفقط، الى الكتب التي تُخلّيها بعد المجيء. فليأخذوها. وليصادروها، إذا شاؤوا، وليمنعوها. وليحرقوها. وليكفّروها. أما أنتَ، حيث أنتَ، وحيث تصل، فلا بدّ أنهم خاسئون، يا شعر، وخائبون، وخاسرون.
بعد عام، بعد مئة، بعد ألف، والآن، ستظلّ، يا شعر، تربح الشعر.
سببُكَ بسيطٌ ومعقَّد، يا أخي، وليلُكَ مُهلِكٌ، ويُعميهم، أيها الشعر.
سببُهم، هو أيضاً، بسيطٌ ومعقَّد، وليلُهم "منجٍّ"، وساطعٌ، ونهارُهم، يا شعر، وهم لا يرون، ولا يخلصون.
يدُهُم طويلةٌ، طويلةٌ، وطويلة، أيها الشعر، لكنها قاصرة، يا لطولها، يا لقصرها، عن الوصول اليكَ.
شغلتُكَ ترويضُ العدم، وصناعة الليل من جروح الليل، يا شعر، وهم لا يعرفون، ولا يرون، ولا يصلون!
***
لستَ خريفاً أيها الخريف، لنزفّ أخضركَ السكران الى هاوية. ها هنا حريقٌ فحسب، وهذا، إن هو سوى رمادكَ أيها الحريق.
الساكنون جريمة الصيف، الوالغون النارَ، النحّاتون شمساً فاجرة، وتاجرة، من أين لهم أن يشاهدوك، ليعرفوك، أيها النزِق، العاري قليلاً، الممزَّق كثيراً، أيها القتيل الناجي قليلاً وكثيراً وجميعاً، كصبيٍّ هاشلٍ من جحيم لبنان. الشاهدون الغافلون عن الصمت، كيف لهم أن يسمعوا، لكي يسمعوك. والقاتلون، بأيديهم، وبأيدي السوى، مَن يعطيهم أن يندموا، أيها الخريف، كي يندموك!
أنتَ لستَ هنا، ولستَ أنتَ الخريف، لأن المجرم دبّر كل شيء، وذهب بكل شيء. وهذا، إن هو سوى رمادكَ أيها الخريف.
لكنكَ هنا، في رأسي، أيها الأزعر الأرعن، كمثل جبلٍ أعزل يتزوج غيمةً عزلاء وناضجة. وأنتَ تجرحني بقدر ما أجرحكَ. وأنتَ تشربني بقدر ما أشربكَ. وأنتَ، سرّاً وعلناً، تقتلني بقدر ما أقتلك.
لكني هنا، أيها الخريف. وأنتَ لا تستطيع، أكثر مني، أقلّ مني، أن تفرّق الطيور التي أجمّعها، ولا أن تذرّي الأوراق التي أربّي شهواتها، ولا أن تحوك رصانة النجوم، والغيوم، والهموم، التي أهرّب ابتساماتها، ولا أن تستدعي شيطنة الثعالب التي تأكل ما تبقّى من كروم العنب المستلقية لديَّ في السهول.
أنتَ لستَ خريفاً أكثرَ مني أيها الخريف. أنتَ تجرحني فحسب. تقتل وتحيي. تجعلني أغادر وأنا لا أغادر. تأخذني الى المنجم لتبرّئ جوع عينيَّ من تهمة كل عينين. تضعني أمام غواية الذهب وتسأل بصري أن يتعالى، وأن يترفّع. أنتَ ساديٌّ أيها الخريف، وتغسل يديكَ من تبعة الساديّة. تضحك في عبّكَ عندما تجعل الوحش على مقربة من فريسته، ثم تقول له: لا. وأنتَ متورّطٌ أيها الخريف. ترتكب ما ترتكب، وترقّص الحبال على الحبال، تاركاً هذا الجبل ينوء وحيداً تحت أعباء القمر المكتمل.
ليس من جرحٍ يجرح أكثر أيها الخريف. فأنتَ جارحٌ بعسل عمركَ، وأنتَ جارحٌ بعسل وهجكَ وبالنظرات. وإنْ أنا سوى رماد وهجكَ أيها الخريف، فترفّق بوهجكَ والرماد!
عقل العويط