أول ما ينظر إليه بول شاوول في أي مكان جديد: الجدران، ليطمئن إلي وجود نوافذ، فالشاعر يخشي الأماكن المغلقة ، والسقوف الواطئة، يكره الأنفاق ... وعندما يسافر يحرص أن يكون مقعده في الطائرة بجوار الممر، لا يجلس في الوسط حتي لا يشعر بأنه محاصر، أو بجوار النافذة لأن السقف عادة ما يكون منخفضا ... في بيته لا يستطيع النوم إلا وكل أبواب الغرف مفتوحة.
* ضحكت بينما بول يواصل حكايته... قلت هي الحرب؟
لا يجد تفسيرا لهذه الحالة ، ربما....
يصمت قليلا ويواصل: أثناء الحرب كنت أودٌع بيتي كل يوم، ألوح له بيدي، لأنني قد لا أرجع إليه مرة أخري، وقد أرجع ولا أجده سوي حطام.
بول شاوول شاعر خارج التصنيفات، شاعر التجارب المتعددة ، كل قصيدة لديه هي تجربة جديدة ، لذا لا تأخذه الرحمة بديوان قضي في كتابته ست سنوات، يمزقه إذا شعر أنه يكرر نفسه أو يعيد ما كتب.
شعره رغم ما يبدو فيه من ' عبث' خارج من تجاربه الشخصية. إذ لا شعر خارج الحياة، ولا لغة خارج الحياة أيضا.
*ولكن هل يتعالي بول علي الواقع؟ وأين يبحث عن الشعر ويجده؟ سألته في زيارته الأخيرة للقاهرة؟
وأجاب: عشت الحروب كلها حتي صارت هي المادة الأساسية لشعري، كنت قبل الحرب شيئا وبعد الحرب شيئا آخر، علي كافة المستويات: الاجتماعي والإيديولوجي، والعائلي والسياسي. الحرب 'دمغتني' ومازالت حتي الآن. ولكن قصائدي عن الحرب لم تكن خطابية أو وعظية. كتبت بوصلة الدم عن الحرب، وقد جاءت متماسكة حتي الجفاف، لم ارد أن أبكي أو أدمع أمام الحرب، ولذا عملت علي هذه القصيدة عامين كاملين، كانت 600 صفحة أبقيت منها 60 فقط ، جردتها من كل الانفعالات السافرة ، ومن كل التوابع والزوائد ، ولهذا هي من أكثر قصائدي تماسكا في بنيتها في وقت كانت البلد تتفكك.
*هل كان التفكك مقصودا ؟!
لا، لم يكن مقصودا، ولكن التجربة فرضت علي ذلك، جربت والآن أخاف من هذه القصيدة ، لا أحبها.
*لماذا؟
لأنها تذكرني بالحرب، وثانيا أشعر الآن أنني جردتها أكثر مما ينبغي ولذا أظن أنها فقدت طراوتها، أحيانا نحن بحاجة إلي البكاء. وبعد' بوصلة الدم' كتبت ' وجه يسقط ولا يصل' وكانت نقيضا لها، وأنا دائما أحرص ألا يكون لي كتاب يشبه آخر، وجه يسقط هي قصيدة البياض بامتياز ، ليس البياض زخرفا ولكن باعتباره جزءا مضمرا من اللغة ، نصف القصيدة كلام ونصفها الآخر صمت، ولكن بعض التقليديين من الحداثيين سخروا : كيف يكتب بول شاؤول قصيدة من سطر أو سطرين. هذه القصيدة من أصعب ما كتبت في حياتي لأن 'حرف واحد' زائد قد يدمر بنيتها، تماما مثلما تموت الفراشة بنقطة ماء، تريد أن تنحت هذه القصيدة بإزميل رهيف جدا.
*منذ أن بدأت الكتاب ما الثوابت والمتغيرات في تجربتك الشعرية؟
الثابت الوحيد هو التجريب الدائم المستمر، لأنك عندما تتحدث عن ثوابت فهذا يعني أن لديك نظرية تكتب علي أساسها، وأنا ضد ذلك تماما. بل إن مفهوم اللغة لديٌ أيضا ليس به ثوابت سوي تفكيك اللغة تكيكا شاملا، وهو ما قمت به في "'الهواء الشاغر' بينما في ' موت نرسيس' ستجد غنائية صاخبة، عنف باللغة لا يشبه إطلاقا أيا من دواويني السابقة. كتبت بعده أوراق الغائب علي مدي ست سنوات وأعدت كتابته 60 مرة وهو من أصعب أعمالي علي الإطلاق لأنه عبارة عن قصيدة واحدة مبنية علي التوازيات...وأعتبر هذه القصيدة تتويجا غير مباشر لكل ما اشتغلته.
*هل تعتبرها معلقتك الشخصية إذن؟
لا، هي مرحلة، وأنا لا أتوقف عند تجربة ، المعلقة تعني أنك وصلت إلي القمة للتوقف أو تعاود تكرار ذاتك. أنا أصدر بعد هذه القصيدة أوراق الغائب ، ثم كشهر طويل من العشق التي لم يفهمها الكثيرون واتهموني بالعودة فيها إلي التراث وإن كان هذا ليس تهمة، لأنني اشتغلت تجريبيا علي المادة القديمة ، ووضعت تراكيب قديمة في سياق جديد، لتفقد هذه التراكيب القديمة هويتها الأصلية وهذا من أصول الحداثة. وبعدها كتبت نفاد الأحوال ، و'منديل عطيل ، و عندما كانت الأرض صلبة ....كل هذه التجارب تتنافس ، الشاعر لا ينافس الشاعر ، وإنما يجب أن ينافس نفسه، وكل كتاب له ينبغي أن ينافس كتابته السابقة، لأن الشاعر الحقيقي هو من ينفي هويته الشعرية باستمرار وهذا بالأمر السهل، لأنه يحتاج إلي معرفة شاملة ومخزون ضخم من التجارب اللغوية والإنسانية، المسرحية، الفكرية ، والتشكيلية، ولهذا السبب تحديدا لم أكتب شيئا منذ ثلاث سنوات.
* لماذا هذا التوقف .. لم تستطع أن تنافس ذاتك؟
حاولت أن أكتب ولكن وجدت ما أكتبه يشبه أعمالي السابقة، ولكن منذ ستة أشهر تقريبا بدأت العمل في خمس تجارب دفعة واحدة، إما أن أغرق فيها وإما أن يطفو كتاب منها.
*تم اتهامك بالعودة إلي التراث ، واستخدام لغة تراثية ..ما علاقتك بالتراث؟
علاقتي بالتراث عميقة جدا، فأنا اختصاصي أدب عربي بالأساس، رغم أن كثيرين يرون أني من القلائل علي دراية بالشعر الفرنسي، ولكن أنا أعتبر نفسي ابنا للنفري، وابن عربي، وابي تمام، والجاحظ ، أنا ابن هذا التراث النثري والشعري. وأنا أعتقد أنه إذا أردنا أن نبحث عن الشعر التغيري في الأدب العربي القديم فلن نجده عند المتنبي أو أبي نواس أو أبي تمام علي عظمة هؤلاء لأن شعرهم هو شعر المكان المغلق، يكتبون لقارئ واحد هو الأمير والملك، الشعر الحقيقي الذي يعبر عن تحولات اللغة والمجتمع والطبقات السفلية والمخيلة الجامحة والجنون سنجده عند النفري وابن عربي، وعند الصوفية وفي السير الشعبية والف ليلة وليلة ، الشعرية العربية ليست في الموزون وإنما في النثر العربي العظيم. وإذا أردنا أن نعود إلي الفرنسيين أو الإنجليز سنجد أن نثرهم لا يتجاوز ال ( 1000) عام بينما نحن لدينا نثر عمره 1500 عام ، هذا إذا اعتبرنا أن الفترة الجاهلية لم يكن فيها نثر عظيم ، وأنا أقول إن الجاهلية كان فيها نثر وفكر عظيم ولولا ذلك لما كتب الشعراء أمثال لبيد وامرؤ القيس وطرفة بمثل هذا العمق والإحساس باللغة.نثرنا العربي _ وأنا أتحدث _ ليس من منطقة فخر قومي تافهالنثر العربي أغني بكثير من الفرنسي بما لا يقارن، ولا أعرف لماذا يقال أن النثر العربي لا يتحمل الشعر، وهو نضح بالشعر في القرن السادس والسابع ، بل صار في ذلك الوقت منافسا للقصيدة العمودية بأبوابها سواء الحب أو المديح، _إلخ. ثم جاء النثر وكان أكثر قدرة علي امتصاص العلوم والتطورات والتحولات الكبري أكثر مما امتص الشعر الموزون. ولهذا ستجد أن كتب التفاسير وفقه اللغة تفيض بالشعر.
*ما مفهومك للشعر إذن؟
ليس لدي مفهوم للشعر.
*سؤال تقليدي ومكرر..ولكن كلامك عن النثر العربي يدفعني إلي طرحه... هل نحن نعيش زمن الرواية؟
هذا كلام غير علمي وغير دقيق، أولا إذا كانوا يستندون إلي أن الرواية أكثر رواجا، فهذا ليس قياسا، دائما كانت الرواية أكثر رواجا من الشعر، أيام ديستوفيسكي ، تولستوي ، وفي ذلك الوقت كان بلزاك يوزع أكثر بكثير من رامبو الذي وزع 37 نسخة من كتابه، وبودلير لم يطبع من أزهار الشعر سوي 100 نسخة، ولم يطبع مالارميه أكثر من 70 نسخة ..إذن من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت الرواية تتقدم الشعر في التوزيع والرواج ولم يقل أحد أن الرواج مات وأن الرواية هي الديوان. هذا منطق استهلاكي ، بل أنا أظن أن ما يهدد الرواية العربية والعالمية حاليا هو ظاهرة best sellerأو الكتب الأكثر رواجا والتي صارت تخضع للاستهلاك والابتزاز، وللذوق العام، في الوقت الذي تكون هناك روايات لكتاب مهمين في فرنسا مثلا ولا يلقون الاهتمام الذي تلقاه روايات البيست سيلز، إذن التوزيع ليس قياسا لأنه قياس استهلاكي، وليس هناك منافسة أصلا بين الشعر والرواية. الشعر لا ينافس الرواية، وإذا أردنا أن نتبع هذا المنطق فالأصح أن نقول أننا نعيش زمن التليفزيون ، مجرد ظهورك في التلفزيون قد يجعل مليار شخص يرونك، بينما الرواية قد لا تبيع سوي ثلاثين ألف نسخة.
*ولكن الرواية تستطيع أن تحمل مدلولات العصر وتناقضاته وتحولاته أكثر من الشعر ولهذا هي السائدة؟
بالتأكيد هي تحمل مدلولات العصر بطريقة روائية ، لأن التحولات نفسها يتحملها الشعر ولكن بطريقة شعرية، وكذلك المسرح وهكذا. الآن هناك في فرنسا مقالات عن موت الرواية ..أي موت الرواية التجريبية أمام الرواية التي تسعي إلي الجمهور الواسع وهو ما يؤدي إلي موت الرواية بالمعني العميق.
*ولكن قيل أيضا عن موت الشعر؟
للأسف الشديد من يقول بهذا هم شعراء، يعتلون المنابر ويسعون إلي الجوائز، يقولون بموت الشعر وهم أحياء، وأنا لا أعرف كيف يموت الشعر ويبقي الشاعر. هذه الجنازات تتوالي لأنها تخضع للمنطق الاستهلاكي القائم علي إعدام سلعة قديمة للإعلان عن سلعة جديدة، والكلام عن أننا نعيش زمن الرواية وهو تسليع للرواية وتكريم للشعر. ولو تأملنا قليلا التاريخ سنجد أن الكثيرين قالوا بموت المسرح بعد اختراع السينما وهذا لم يحدث، ثم موت اللوحة بعد اختراع الصورة الفوتوغرافية ..وهذا أيضا لم يحدث ، إنه منطق استهلاكي انقلابي في العمق، لأنه لا شئ يحل محل شئ في الإبداع، الرواية ليست بديلا للشعر ، ولا الشعر يصلح لكي يكون بديلا للفن التشكيلي، لأن هذه الفنون لها وجودها المستقل. اليوم يعيش الشعر عصره الذهبي ففي الماضي كان الشعر الرديء يتكئ علي قضية كبري فيكرٌس شاعرا كبيرا. الإيديولوجيا الكبيرة والقضية الكبيرة لا تصنعان شعرا كبيرا. اليوم الشاعر بات حرٌا متحررا من الإيديولوجيا والأفكار السابقة. صار الشاعر أمام الشعر إما أن يجيد الكتابة أو لا يجيدها، ليس هناك من يتكئ علي عنصر خارجي غير شعري ليكرٌس نفسه شاعرا.
* ما الذي يهدد الشعر إذن في تقديرك؟
الشعراء أنفسهم، الشعر صامد منذ آلاف السنين كالمسرح والتشكيل. التهديد الحقيقي للشعر هو الشعراء الذين يخونون الشعر بتوظيفه لما هو خارجه: للسلطة أو الحزب للاستهلاك أو للمال أو للسهولة أو الارتزاق .. وكثير من الشعراء ارتكبوا هذه الموبقات، وكثيرون أيضا حافظوا علي شعرهم من هذه الأوبئة التسلطية القمعية وحموا شعرهم من الارتزاق.
* ولكن البعض يري أن العالم لم يعد يستوعب الشعر... أصبح يلهث خلف العوالم الافتراضية؟
هذه عوالم هشة، قد يتأثر بها الشعر ولكن جوهر الشعر أنه دائما قادر علي مواجهة مثل هذه الظروف، سبق له أن واجه الثورة الصناعية، والتحولات الاجتماعية والحروب، واجهها وانتصر ، وأظنه سينتصر علي هذه التحولات الاستيعابية التسلقية اللإنسانية. لأنه خط الدفاع الأخير للإنسانية.
* أخيرا عالم بلا شعر ماذا يعني لك؟
جثة مطيبة ... أو غير مطيبة.
اخبار الأدب
11-11-2007