حاورته: نضال حمارنة
محمد عضيمة مثقف من طراز فريد يعمل على مشروعه الخاص منذ العام 1988 شاعراً وناقداً ودارساً وأكاديمياً ومترجماً ومحاوراً اختبر الثقافة العربية إضافة للثقافتين الفرنسية واليابانية.
لا يسكن، لا يستقر، دائم البحث عن جماليات التجديد في الشعر العربي المعاصر، ومناهضة اجترار الموروث، مثابر على الرصد والمكاشفة النقدية للعقل الإقصائي في المشهد الشعري العربي.
يكتب قصيدته مبتعداً عن المجاز والاستعارات وأدوات التشبيه، ويعدّ الشعر أكبر القضايا الكبرى في حياتنا، والفرحَ ضرورة وطنية.
في البداية اهتم بالنص الصوفي وتناولت أطروحته لنيل الدكتوراة في فرنسا محطات المعراج الصوفي عند النفّري ، وأصدر ديوانه الأول الميامر والتساعات التابعة عن دار الآداب.. في تلك الفترة ترجم إلى الفرنسية بالتعاون مع الشاعر الفرنسي جيرار فيستير نصوص النفري، ولامية الشنفرى، ورابعة العدوية، ونزار قباني، وكمال خير بك.
في العام 1994 انتقل إلى ضفة أخرى فأصدر كتاب الشعر الحديث واغتيال الحاضر وديوان ما حدث في السينما . ورمز إلى تلك المرحلة بأنها بداية التحرير من دبابات الذهنية والتجريد والماورائية والقنوط إلى تجريب أشكال متعددة ومختلفة من أساليب الكتابة الشعرية، شعرية جديدة، ممتعة مبتعدة عن الندب والتبرم الدائم من الوجود، ومنقلبة على الوهم وتقليدية المعاني ورتابتها.
ترجم إلى العربية نيتشه، و ديوان الشعر الياباني الحديث ، ومحاضرات في التقاليد الشعرية اليابانية، والكوجيكي (الكتاب الياباني المقدس). وترجم ديوان الشعر العربي الحديث إلى اليابانية بمساعدة مستعربة يابانية...
محمد عضيمة مؤسسة ثقافية سورية متنقلة تمويلها ذاتي (من جيبه الخاص) صاحب مشروع أنطولوجيا الشعر العربي المعاصر لشعراء قصيدة النثر في كل البلاد العربية، وقد أنجز خمس كتب/ أجزاء في ديوان الشعر العربي الجديد : العراق، الجزيرة العربية، بلاد الشام-لبنان، بلاد الشام-سوريا ، والمغرب العربي. وسيُصدر قريباً الأجزاء الخاصة بالأردن وفلسطين ومصر والسودان.
محمد عضيمة يتلقى أحجار الحرس الثقافي القديم بروح التفاؤل، فهو شخص غير قابل للتجهم يحاور الآخرين، يشاكسهم، يختلف معهم من دون أن تفارق شفتيه الضحكات الصاخبة..
محمد عضيمة، أستاذ الأدب العربي في جامعة طوكيو حالياً، وأثناء زيارته لدمشق، كان هذا الحوار حول تجربته:
* ماذا عن بداياتك مع الشعر...
- أعتقد أن بدايتي الشعرية قد بدأت منذ الصوت الأول الذي خرج أثناء الولادة، ذلك الصوت كان أشبه بقصيدة أو قصيدة ما تزال مستمرة بدمي حتى الآن، يختفي ذلك الصوت حيناً ويظهر في كثير من الأحيان. أميل إلى القول إلى أن تحديد البدايات الشعرية غير وارد في رأيي إلا بهذه الطريقة.
* ما هي الأسباب التي دعتك لتقديم أطروحة الدكتوراة عن النفّري، وفي فرنسا تحديداً؟
- مما لا شك فيه أن أدونيس هو أول من أخرج النفّري وكتابات النفّري إلى دائرة الضوء إعلامياً، وأعتقد أن اهتمامي آنذاك في بداية الثمانينيات بشعر أدونيس وبالبحث عن مفاتيح لنصوصه وكتاباته قادني إلى التركيز على كتابيّ النفري المواقف و المخاطبات ، ولولا أن أدونيس فعل ما فعل لما أمكن لي أو لغيري الاهتمام بالنفّري تحديداً وبالنص الصوفي عموماً. إن ارتباط أدونيس الشاعر بالتراث الصوفي جعل الحركة الشعرية العربية المعاصرة مرآة صريحة للتراث الصوفي.
* ثم انتقلت بعدها إلى المفكر نيتشه. هل تخليت نهائياً عن الاهتمام بالنص الصوفي؟
- عندما كنت أقرأ التصوف، كنت في الوقت نفسه أقرأ نيتشه. نيتشه لم يكن طارئاً.. التصوف كان قصة دراسة ومحاولة فهم.. الغرب يهتم بالتصوف.. وأنا كنت مهتماً بالتصوف وأريد أن أقدم أطروحة دكتوراة. وبالنسبة للغرب، التصوف هو الوجه الآخر للمسيحية. لكني اهتمّيت بالأدب الصوفي وليس بالفكر الصوفي.. وكل بداياتي كانت تقليداً للنص الصوفي.. والنص الصوفي معقد.
* مغادراً سوريا إلى فرنسا ومنها إلى الجزائر، الآن أنت في اليابان. ماذا أضافت الأمكنة والثقافات إلى تجربة محمد عضيمة؟
- فتحت لي فرنسا آفاقاً جديدة. اكتشفت في نهاية المطاف أنني جزء من ثقافة البحر الأبيض المتوسط، لم يحدث نقلة نوعية كبيرة فيما يتعلق بالثقافة.. إنني والفرنسي من دم ثقافي واحد.. نحن وهم ننتمي إلى عرق فلسفي واحد - هو حضارة المتوسط - الفلسفة اليونانية، ثم فيما بعد رؤية الأشياء من الزاوية التوحيدية، لأن الأديان السماوية الثلاثة من جذر واحد..
الغرب ليس آخَرَ بالنسبة لمحمد عضيمة، وحياتي في وهران (الجزائر) أكدت لي هذا أيضاً.. وأثناء اطلاعي على الشعر الفرنسي لاحظت أن المصطلحات النقدية نفسها تطبّق على الشعر الفرنسي: التجريد، الاستعارة، الحوامل الفكرية والأسطورية كلها مستمدة من الفكر المسيحي (الإنجيل) والفكر الديني العربي (القرآن).
أما تجربتي اليابانية فتشير حتى الآن إلى أن تلك الجزر ما تزال غابات من الألغاز، والغريب أنني لا أفهم لماذا حتى اللحظة لا أستنفد تلك التجربة (أو لا تصل إلى حدودها) فأضجر من سكان الأرخبيل، وما يساعدني على الاحتفاظ بطراوة هذه التجربة هو تنقلي الموسمي بين طوكيو ودمشق بحيث لا أضجر من طوكيو ولا من دمشق. وفي النهاية، القضية مكان نحن نتعلق به ثم نتركه ونعود إليه، وفي كل عودة أكتشف أن هناك شيئاً أو أشياء كثيرة لم أرها من قبل مع أنني كتبت مطولاً عن تلك التجربة وترجمت الكتاب الياباني المقدس (الكوجيكي)، والحقيقة هي أنني أرتبك دوماً عند الحديث حول اليابان، لأنني أشعر أنني أمسك بكل شيء ولا أمسك بشيء، والأمر لم يكن كذلك بالنسبة لي عندما أقمت في باريس عقداً من الزمن (الثمانينيات بالكامل)، لذلك تبقى اليابان غابة ألغاز وثكنة مرايا.
* بعد ذهابك إلى اليابان تغيّرت رؤيتك للشعر.. وقصيدتك أصبحت تميل إلى الاختزال أكثر.
- حياتي في اليابان واحتكاكي اليومي بالعادات والتقاليد وليس بالشعر أو الأدب فقط. لقد غيرّت اليابان رؤيتي ليس للشعر فقط وإنما لمفهوم الحياة. باختصار شديد: قبل اليابان كنت أميل إلى الشعر الميتافيزيقي البالغ في مجازيته على طريقة أعذب الشعر أكذبه ، وهي القاعدة العربية التقليدية المعروفة في تحديد جمالية الشعر.
قلت مرّة إنني قبل التجربة اليابانية كنتُ مستعمرة ميتافيزيقية أكتب الشعر بالاستناد إلى مخزوني التراثي، بالاستناد إلى الذهن والتجريد، وقلما التفَتُّ إلى الحواس الخمس. أزمة الشعر العربي الحديث تكمن في التجريد.. دعيني أقول الذهنيات لكي أستعير من الميتافيزيقيا خاتمتها.
* لكن رغم تخلّيك عن الميافيزيقيا، ظل هناك في بعض نصوصك رومانسية ما...!
- دائماً الكلام النظري يسبق التحقق الفعلي أو الإنجاز بمسافات. الانفصال كلياً عن هذا الموروث الذي صاغني غير ممكن نهائياً.. وأنا أشعر بهذا، لكن الأهم أنني أعيه، وأعي ضرورة الابتعاد عنه بقدر الإمكان، أراقب نصّي جيداً، وأحاكمه محاكمة وفقاً لهذا الوعي الجديد ولن أقول كما يقول الآخرون: عندما أكتب القصيدة أنا غائب، أنا غير موجود، ولا أعرف من أين يأتيني الكلام . أنا أفعل العكس تماماً.. أعي ما أقول وعياً حسّياً، وعندما أكتب أعي أنني أكتب الآن قصيدة، لكن أقع أحياناً بشكل غير شعوري في الرومانسية.
* لنعد إلى بنية القصيدة لديك...
- بدأت أميل إلى الاختزال أو إلى نص قصير عوضاً عن النص الطويل، لقناعتي بأن نصي الموجز أستطيع السيطرة عليه جمالياً أفضل من نصي الطويل.
والنص الطويل يجعل القارئ يلهث لالتقاط شيء. من المعروف أن الشاعر العربي مصاب بعقدة الفحولة، وكلما كان النص طويلاً اعتقد الشاعر أنه فحل من فحول اللغة. وهذا المفهوم للفحولة هو أيضاً ما حاولت أو ما أحاول نقضه بشكل أو بآخر عن طريق الإيجاز.
* توظف جمادات هذا العالم وتُشركها مع الحالة الشعرية. هل هذا بمعنى ما يعبّر عن الوحدة.. العزلة التي يعاني منها المبدع العربي؟
- اعتدنا داخل خريطة الشعر العربي القديم والحديث على قصيدة أساسها الفكرة الكبيرة والمفهوم العظيم وغض البصر عن الأشياء التي تبدو في نظر العقل التوحيدي أشياء تافهة لا تستحق أن تُذكر في قصيدة. خذي مثلاً تاريخ الشعر العربي، الشاعر الكبير هو من تكلم عن أفكار كبرى، وأعطى حكماً كبيرة على طريقة رجال الدين، على طريقة الحكماء، وما تزال هذه القاعدة مستمرة حتى الآن. ولا يمكن أن يقال للأسف الشديد عن شاعر يهتم بالأماكن، بالأشياء الصغيرة، إنه شاعر كبير. هذا توصيف العقل التوحيدي. لذلك يأتي اهتمامي بالأشياء البسيطة والخفيفة، وبشكل مختزل لحلقة من حلقات انقلابي على الميتافيزيقيا الشعرية أو على الشعر الميتافيزيقي وكلاهما واحد. وهذا ليس تعبيراً عن العزلة كما يقول السؤال، بل هو كما أرى محاولة لفهم المحيط القريب من الذات أكثر.
موضوعات الشعر تغيّرت كثيراً مع الجيل الجديد. لم تعد الموضوعات العامة، كالحب والموت والوجود، تشغل الشاعر الجديد، لأنها مسلّمات، ومن العبث الكتابة حول المسلّمات، صار اهتمامه بأشيائه اليومية، بالحذاء، بالمقعد، بالمخدة، بأشياء المطبخ والمكتب، بكل ما هو بعيد عن الأفكار الفلسفية أو الدينية أو اللاهوتية.. إنها التفاتة إلى عالم هامشي لفهمه أكثر، وليس تعبيراً عن الوحدة والعزلة كما تقولين.
* كأنك تريد أن تكسر كل تقنيات الشعر المتعارف عليها حتى في قصيدة النثر!؟
- أنا أعتقد أن هناك أشياء مشتركة كثيرة بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر، وقد أشرت إلى هذه الأشياء المشتركة في مقدمتي ل ديوان الشعر العربي الجديد وأوجزها في كون التوحيدية كمفهوم معرفي ما تزال تقف خلفيةً لإنتاج القصيدة أو النص، ولذلك لا يقوم مشروعي على نقد قصيدة التفعيلة فقط، وإنما قصيدة النثر السائدة اليوم.. هناك هوس بالإطالة، باللف والدوران داخل القصيدة، بإنتاج قصيدة كتاب على طريقة المعلقات القديمة، وأمام نصوص كهذه أشعر شخصياً بالاختناق، ولم تعد هذه النصوص تروي حاجاتي الجمالية، وأعتقد أن الأمر ينطبق على القارئ الجديد اليوم، مثلما هناك شاعر جديد هناك أيضاً قارئ جديد.
أما عن الشق الثاني، فأنا أميل إلى أن الحداثة الشعرية تحديداً تبدأ مع الجيل الجديد (جيل التسعينيات) وما أطلق عليه حداثة (هو في الواقع شعر نهضوي إحيائي ). بهذا المعنى سوف تجدين في جيل التسعينيات تداخلاً بين مفاهيم الحداثة ومفاهيم ما بعد الحداثة. إذا كانت الحداثة الشعرية تهتم بالتحليل أو ترتكز على عقل تحليلي فإن ما بعد الحداثة تحيل الأشياء كما هي من دون أي تحليل ومن دون أي تعقيد، وهذا ما يجتمع في شعري وفي شعر الآخرين من جيلي.
* لذلك فكرتَ في مشروع إعادة قراءة الشعر العربي الجديد - المعاصر من خلال رؤيتك النقدية!
- أستطيع القول إن هذا المشروع هو حلقة أخرى من حلقات التأكيد على انقلابي ضد الميتافيزيقيا داخل الشعر. أقرأ القصيدة.. أشعر أن هناك كلاماً زائداً لا ينقص ولا يزيد من المعنى المراد قوله إذا أخذت مقطعاً منها وجعلته في سياق خاص به. بدأت هذا المشروع بالشعر العراقي (الكتاب الأول)، ثم الجزيرة العربية (الكتاب الثاني)، وبلاد الشام - لبنان (الكتاب الثالث)، والرابع: سوريا، والخامس الصادر مؤخراً بلاد المغرب العربي. وأشتغل الآن على كتابَي الأردن وفلسطين.
قرأت العديد من الشعراء العرب بطريقة خاصة، لا أختار قصيدة واحدة أو اثنتين لشاعر، بل أختار مقاطع من مجمل ديوان واحد أو ديوانين ثم أوزع هذه المقاطع توزيعاً جديداً بعناوين أضعها من عندي، والمقطع عادة لا يتجاوز خمسة أسطر. فأنا لا أريد إرهاق القارئ ولا أريد أن أعطيه أكثر من لقطة جمالية لحالة شعرية واحدة.
على سبيل المثال، عندما صدر الكتاب الأول الخاص بالعراق صدرت ضدي اتهامات كثيرة، شتائم كثيرة، لكن من دون أن يكون هناك أي قدرة على نقد هذه التجربة أو دحضها أو إلغائها. هناك من هاجم بعنف، وهناك من هاجم بهدوء. والمشروع ما يزال مستمراً، وفي مناطق أخرى كالجزيرة العربية وسوريا ولبنان لقي هذا المشروع صدى إشكالياً ونقداً من نوع آخر.
أنا أعدّ مشروعي مغامرة لا تخلو من بعض الجنون في نظر العقل، الشعر السائد، الذي اعتاد على مختارات تقليدية ضمن السياق المتعارف عليه نقدياً. ولعلي لم أركز على شاعر بعينه كبيراً كان أو صغيراً، وإنما أركّز على سياق شعري أقوم بالتوثيق له. لذلك تجدين داخل الكتاب الواحد اسم شاعر معروف جداً إلى جانب اسم شاعر غير معروف وربما لم يصدر كتاباً خاصاً به.. لكن.. اللقطة الجمالية لدى الاثنين متمايزة وواضحة.
* هل بإمكانك القول بعد قراءة ودراسة كل هؤلاء الشعراء إن التربة العربية أنبتت حداثة شعرية تعبّر عن متغيرات الحياة؟!
- بصراحة، وبواقعية من دون تشاؤم، إن الحداثة وهم. لا يمكن أن نشاهد الحداثة بالشعر ونواحي حياتنا الاجتماعية متخلفة.. عن أية حداثة تتكلمون! عن حداثة بمجتمع قبلي، عشائري، ديني، عائلي إقطاعي؟! ما هذه الحداثة.. بعض الشعراء القلائل اشتغلوا بموضوع الحداثة.. القضية ليست مسؤولية الشاعر نفسه. الرواد كانوا صادقين بنواياهم، أرادوا أن ينجزوا نصوصاً حديثة.. لكن الواقع الثقافي والاجتماعي السائد! هي عقبات من الصعب تجاوزها.
الشعر الحداثي عمره خمسة عقود أو ستة. كم شاعراً معاصراً يدرس في المدارس والجامعات.. ليس هناك اعتراف بهم من قبل موجهي التعليم. كل ما يُدرس تراثي وقديم.. ثم لدينا واقع اللغة العربية.. وكتابة الشعر باللغة العربية أصعب من أي لغة أخرى.. هناك ستة عشر قرناً من الخبرة الجمالية في عادات لغتنا وتقاليدها، وهذه الخبرة على نحو آخر كالجدار السميك أمام الشاعر المعاصر والحداثي كي يضع نصاً مغايراً موضوعاً وأسلوباً ولغة.. صعب صعب.. صحيح أن التخلي عن الوزن التقليدي حدث على أرض الواقع، لكن الحكاية أبعد من الوزن. هناك عناصر أخرى تصنع القصيدة. البلاغة.. المجاز.. الاستعارة ما تزال كما هي.. الجرجاني، ابن قدامة بإمكاني تطبيقه على شعر محمود درويش مثلاً، ما عدا الوزن ينطبق على أنسي الحاج.. الشحن البلاغي، الذهنيات.. حتى قصيدة النثر أصبحت مثل المعلقات القديمة وهي تدعي الحداثة، كل البلاغة القديمة موجودة بداخلها..
قصيدة النثر أيضاً تقوم على حوامل الفلسفة والأسطورة والتاريخ، وهي اليوم أكثر غموضاً من الشعر القديم لأنها تعتمد على الذهنيات. صحيح أنها تحكي عن اليومي، لكنها تحكي بطريقة ما ورائية، نسبة التجريد فيها عالية.. لذلك أسمي بعض قصائد النثر اليوم قصائد النثر العمودية . إذاً عن أية حداثة يتكلم شعراء قصيدة النثر؟ عباس بيضون مثلاً قد تكون قصيدة واحدة له كتاباً.. وبرأيي لن يُخرج قصيدة النثر من مأزقها إلا المرأة الشاعرة.
* لماذا المرأة الشاعرة؟
- أعتقد أن غالبية الذكور من الشعراء لها تأثير كبير في أزمة القصيدة اليوم، لأن الرجل يهذي، يهلوس، يلغي كاميرا العين.. طبيعة الرجل لا ترى الواقع المتغير وتفضل الثابت المكرس. الواقع يتغير؛ في حين أن الذهنية لا تتغير بمعنى الجمود والتكلس.. هذه الذهنية هي التي أزّمت وتؤزم الشعر. أما طبيعة المرأة فواقعية: ترى حركة الأشياء من حولها، تريد أن تتدخل بها ترممها أو تكسرها حسب الحالة أو الحاجة، وأعتقد أن المرأة أميل للتمرد من الرجل، لذا أرى أن المخرج من هذه الأزمة هنّ الشاعرات العربيات، وارتكازاً إلى هذا الفهم فإن نازك الملائكة هي أمّ تلك النقلة الحقيقية من الوزن التقليدي إلى التفعيلة.. من نظام الشطرين إلى نظام الشعر الحرّ كما تسميه نازك نفسها.
* اطّلاع الشاعر العربي على تجارب شعرية غير عربية، هل يضيف إلى نصه ويغني تجربته أم يؤدي به إلى مزيد من الاغتراب؟
- بلا جدال الشاعر الذي يمتلك لغة أجنبية وعلى احتكاك بشعر تلك اللغة مرشح أكثر من غيره لإحداث تغيير بقصيدته أولاً، شرط أن يهضم ثقافة تلك اللغة ويضيف إليها من مخزونه ومن تجربته ومن ثقافة لغته الأم. أما الشاعر الذي يعيش على مائدة لغته فقط ولا يطّلع حتى على الترجمات فهو محكوم بالانتظار إلى ما لا نهاية. ولكني أرى بعض الشعراء منهم مثلاً سعدي يوسف مع احترامي الكامل لتجربته ولأصدقائه ولمحبيه، هو صدى لترجماته من كفافيس إلى ريتسوس.. بتعبير آخر لم ينجح حتى بتمثل هذه التجارب وهضمها وبقي بدوياً موزوناً روحاً وشكلاً بلباس عباءة وعقال يسير في قافلة من البصرة إلى لندن.
* تقديمك للشعر العربي المعاصر كان له صدى نقدي إشكالي من الآخرين وحسب ما أرى كأن له تأثير ما في رؤيتك وإبداعك!
- هذا التشخيص الذاتي للأزمة الشعرية قادني إلى إعادة النظر في كل ما أقول وأكتب وأعيش حتى طريقة حياتي تغيرت، وقادني ذلك لأشتغل على الشعر العربي المعاصر وأقدمه بطريقة شعرية المرئي ، واكتشفت أثناء الانتقال إلى هذا الموضوع أي من شعرية اللامرئي إلى شعرية المرئي أن الكتابة عن الأشياء اليومية (الكرسي، القميص، السيجارة) بطريقة شعرية أصعب بكثير من الكتابة عن الموضوعات الذهنية التجريدية (الموت، الخيانة، الحب... إلخ).
* لماذا...؟!
- تراثنا الشعري مكرس.. لذلك فإن الكتابة الذهنية تبدو نوعاً من الهلوسة.. كنت في السابق أقرأ أي ديوان أو قصيدة طويلة وفي أي وقت استُثار شعرياً وأنكبّ على الكتابة بلا توقف أو مشكلة.. وبعد انتقالي إلى الشعرية اليومية المرئية أصبحت الكتابة أقل، وإنجازي أقل، فعدت إلى الشعر العربي وأعدت القراءة بطريقة أخرى خاصة.. عملت على خط واحد (الإدراك الجديد للأشياء) أو رؤية الأشياء بطريقة جديدة.. التركيز على نقاط البساطة اللقطة البسيطة والذكية والمدهشة وتحويلها لشعر.. الارتكاز البسيط الذي يستخدم المزاج من دون حذلقة لغوية.
*كاتبة أردنية مقيمة في دمشق
جمعة 26 تشرين أول 2007م