في هدوء لا يتناسب مع أهمية الحدث، صدرت مجلة "إبداع". وبهدوء مماثل أصدر رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب ناصر الأنصاري قراره بسحب نسخ المجلة من السوق بعد تلقيه معلومة تفيد بأن ثمة قصيدة للشاعر حلمي سالم تتضمن إساءة الى الدين، على وصف الوشاة. هنا، فقط، انتبه الوسط الثقافي والجماهيري الى عودة المجلة المحتجبة، والى غيابها، قبل أن يرى إصدارها الجديد النور. هي إذاً، مصادرة أخرى، ولعبة جديدة بين الدين والسياسة، على أرض الثقافة، في مناخ تقليدي محافظ؛ معاد لحرية التفكير، تتسيده أجهزة ثقافية تتشدق بالشعارات الليبيرالية، وبالدعوة الى حرية التفكير والخلق، ثم تلقي بكل ذلك عند أقرب منحنى خوفا من تكرار أزمات مشابهة، أطرافها من المتطرفين والمتشددين والمحافظين الذين يتصورون أنهم، وحدهم، يحتكرون الصواب، والحقيقة، والأخلاق، والمعرفة، رغم أن موقفهم المعادي للحرية الفكرية نقيض ذلك. فالتاريخ سجلاّته مفتوحة لمن يشاء. كالعادة، انحرف الموضوع لاحقا عن مساره الرئيسي الذي ينحصر في أزمة المناخ الثقافي، وفي المؤسسات التي تخشى المحافظين والمتشددين فتزايد على تدينهم، وتزيد الأمور تشوشا، لينتهي الى البحث عن كبش فداء تُلصَق به التهم. آنذاك تتقزّم القضية، إذ تصبح مسألة شخصية بدلا من أن تكون قضية عامة يجب أن يواجهها المثقفون بحزم. الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، طرف أصيل في القضية، فهو رئيس تحرير المطبوعة، موضوع الأزمة، وهو الذي أجاز ما نُشر فيها، وهو الذي تلقى قرار المصادرة. قبل ذلك كله، هو من رواد الشعر المعاصر، وناقد للأوضاع الثقافية السلبية، ومناضل من أجل التنوير. التقيناه للتعرف الى تفاصيل الأزمة، ورأيه فيها، وتداعياتها، والى الدور الذي يمكن أن تلعبه المجلة في مثل أجواء كهذه:
* بداية هل يمكن أن نتعرّف الى ملابسات الأزمة والكيفية التي تمت فيها
عملية مصادرة المجلة؟
- ما حدث أن الدكتور ناصر الأنصاري اتصل بي هاتفيا إثر نزول العدد الجديد من المجلة الى السوق، بنحو أربعة أيام، وأخبرني بأنه حمل منه نسخة إلى وزير الثقافة، وقدمها اليه وهو معتزّ بالجهد الذي فيها، وبأن الوزير شاركه التعبير عن سعادته بصدور المجلة من جديد، لكنه فوجئ، بعد يوم أو يومين، بمن يذهب إليه لكي يلفت انتباهه الى أن العدد يتضمن قصيدة للشاعر حلمي سالم، فيها ما يسيء الى الذات الإلهية، وهذا ما دعاه الى قراءة القصيدة، وبعدها وجد أن من الحكمة أن يمنع الكمية الباقية من النسخ من التوزيع، حتى يعالج الأمر على نحو مناسب.
* وهل برر لك وجه الحكمة في القرار الذي اتخذه؟
- هو عبّر لي عن عدم ارتياحه، وحتى رفضه، لهذه القصيدة، لكنه أيضا أكد أن مثل هذه المسألة كان يمكن تجاوزها، والتغاضي عنها بسهولة، لو أن القصيدة نشرت في مجلة لا تصدرها وزارة الثقافة، وأن هناك من يتربص بالوزارة وما تصدره الهيئة العامة للكتاب، ويندد به، ويشيع الشائعات حول تلك الإصدارات. وأنه لذلك رأى أن من الحكمة أن يوقف توزيع المجلة بالطريقة التي انتهى اليها الموضوع.
* ألم يسألك رأيك في القصيدة باعتبار أنك صاحب قرار النشر؟
- سألني عن ذلك بالتأكيد، وقلت له إني قرأتها بالطبع، وإن هذه القصيدة قُدّمت اليّ، وهي لشاعر مصري معروف، وعضو لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، يكتب الشعر منذ أواخر الستينات، وأصدر حتى الآن ما يربو على خمس عشرة مجموعة شعرية، ويرأس تحرير مجلة. كما أنه معروف على النطاقين المحلي والعربي، ويدعى الى المؤتمرات الدولية، وله اسم. تالياً، حتى لو كان لي ما ألاحظه على القصيدة التي قدّمها، فوجهة نظري تكون أن أنشر حتى ما لا يعجبني جدا، أو ما لي عليه ملاحظات، طالما أن صاحب النص له اسم، ومسؤول عما يكتب، وينشر له. على هذا الأساس، نشرت القصيدة، إلا أن هناك أساساً آخر، وهو معيار فني، هو أننا في الشعر لا يحق لنا أن نفسر القصيدة بلغتها الظاهرة، لأن لغة الشعر مختلفة عن لغة النثر التي تُفهم بمعناها المباشر، ولا يختلف معناها في الكتابة عن معناها في المعجم. على عكس الشعر الذي يستخدم لغة رمزية تختلف دلالة الكلمة فيه إلى ما هو أوسع. وطبعا قلت له إني لست راضيا تماما عن هذا الأسلوب في المعالجة، وإني كنت أفضل أن تناقش القصيدة، وأن يسجل من يعترض عليها انتقاده كتابة، وينشر في المجلة بدلا من حجب العدد أو وقف توزيعه أو مصادرته.
* هل تعتقد بالفعل أنك تتحمل المسؤولية لأنك صاحب قرار النشر؟
- أتصور دائما أن النقد لا بد أن يوجَّه الى الشاعر، أو الى الكاتب الذي كتب النص، وخصوصا إذا كان له اسم معروف، ولا يوجَّه الى الناشر أو المجلة التي تنشر، إلا إذا كان صاحب النص مبتدئا يُقدَّم للمرة الأولى، فعندئذ تقع المسؤولية على المسؤول عن المجلة أو التحرير.
* ألا ترى أن القضية تنطوي على تناقض كبير، إذ تُنشر "أولاد حارتنا" للمرة الأولى في مصر، رغم أنها تعرضت للمنع لعشرات السنين، وفي الوقت نفسه تُمنع مجلة بتطوع من هيئة الكتاب، بسبب قصيدة؟
- لا بد أن نعترف أن هذا يشكل تناقضاً. فأن نكون مع حرية التعبير لا يعني في الضرورة ألا ننتج في كل مرة كلاما صحيحا. الحرية لا تشترط أن استخدامها يجب أن يكون صائبا في الضرورة. لا، ففي بعض الأحوال سوف أسيء النظر، وسوف أخطئ المقصود، لكن هذا الخطأ، وتلك الإساءة، يجب أن يعالجا بالحرية، أي بحريتك في أن تنقدني وأن تصوب ما ترى أني وقعت فيه من أخطاء. هكذا تتقدم المجتمعات، وهكذا يتقدم الفكر. أما أن ينصّب البعض من نفسه رقيبا؛ يفترض أنه وحده يعرف الصواب، فهذا ضد حرية التعبير، وهو قد يصحّ، أي قد يكون التصويب واردا شرط ألا نلجأ الى امصادرة، وإنما عبر حوار مفتوح يفنّد فيه كل من الطرفين وجهة نظر الآخر.
* هل تتصور أن أحد أبعاد الأزمة توجيه رسالة اليك تتضمن نوعا من التحذير، أو وضع ضوابط ما ربما؟
- لا بد أن هناك رسالة موجهة، لأن كل فعل يتضمن رسالة، لأن له معنى. الرسالة هي: إذا تكرر ما حدث فسوف نمنع المجلة من الصدور. سأعود الى هذا فورا بعد أن أوضح أنه علينا بشكل عام أن ننتبه لنميز بين الإساءة الواضحة الصريحة التي هي وجهة نظر، أي بين ما يتفق على أنه إساءة – وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يُنشر - وبين ما يحتمل أكثر من تفسير، وله قيمة عالية، وهو لا يقتضي المنع. لست مع نشر أي مادة تتضمن الإساءة المباشرة أو الصريحة. إنما من جهة أخرى، وعودة الى فكرة الرسالة، إذا كان ما حدث رسالة، فهي رسالة الى من؟ أنا متطوع، ولست باحثا عن عمل، أي أني لا أرأس تحرير المجلة لأني بلا عمل. إنما أرأسها لأني أريد أن أمنح اسمي وخبرتي للثقافة المصرية، وهذا يأخذ من وقتي الكثير.
* لكنك واجهت الكثير من الأزمات الشبيهة من قبل؟
- أدرت تحرير هذه المجلة منذ عام 1991، الى أن احتجبت أول مرة عام 2002، بعد عدد من التجارب العنيفة. تعرضت المجلة لإساءة الظن مرات عديدة، وبعض ما نشرته المجلة نوقش في مجلس الشعب، إذ وقف بعض النواب الذين لا يميزون بين ما هو فني وما هو دعاية، أمام صورة للرسام النمسوي الشهير كليمت وتساءلوا: كيف تظهر صورة لآدم وحواء عاريين؟! الحقيقة أن آدم وحواء لا بد أن يكونا عاريين. لا نستطيع بالطبع أن نجعلهما يرتديان سترة أو فستانا أو نقابا. نشرنا نصوصا لعدد من الكتّاب، تعرضت للمنع من طريق الرئيس السابق لهيئة الكتاب الراحل سمير سرحان، وهي نصوص للمستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون، وأخرى لجبران خليل جبران، وأيضا للكاتب المغربي محمد شكري. ولم يكن رئيس الهيئة الذي يتدخل فقط، إنما عمال المطابع أيضا.
* وهل كان لعمال المطابع دور في المنع، هذه المرة أيضا؟
- لا، جاءت الوشاية هذه المرة من داخل الهيئة، لكن بألسنة موظفين. يقال إن هناك شخصاً يكتب الشعر، ذهب الى موظفة لا أعرفها ولا أستطيع أن أرجم بالغيب، وأن هذه السيدة هي التي نقلت الوشاية إلى رئيس الهيئة.
* كيف يمكن تلافي هذا المناخ؟
- أعتقد أننا لا بد أن نؤسس موقفا جديدا تتأكد فيه حرية الثقافة. المنع والمصادرة اللذان يلاحقان الإبداع في مصر والعالم العربي ليسا حلاً. هما في الحقيقة الحل الأسهل، وهذا ما اتضح في مصادرة أعمال لنوال السعداوي مثلا، وقبلها قضية سيد القمني، أو نصر حامد أبو زيد، أو ما حدث لمارسيل خليفة ومحمود درويش في بيروت، وفي اليمن أيضا حيث صودرت رواية "صنعاء مدينة مفتوحة" لعبد المولى. وهكذا في المغرب والأردن وسواهما. هذا ليس حلا، إنما الحل أن نصوّب الأخطاء التي قد يراها البعض كذلك من طريق النقد، والاختيار والتحكم في النشر بدوافع فنية أولا وأخيرا، وليس بدوافع الرقابة الدينية أو الأخلاقية. لا بأس أيضا أن نمد البصر لنراعي مشاعر المتلقين، لكن بشرط ألاّ يتسبب ذلك بتحويل المنابر الأدبية إلى منابر رقابية. بالإضافة الى هذا كله، لا بد أن نغير القوانين القائمة الآن. أعتقد، مثلا، أن مجمع البحوث الاسلامية يتجاوز الحدود في المنع والمصادرة وفي الرقابة من الأصل. وكذلك الأزهر، بالإضافة إلى الأجهزة الأخرى التي تراقب. لا بد أن نعدّل هذه القوانين بحيث نوسع مساحة الحرية، بالإضافة إلى العمل على أن يستعيد النقد الموضوعي دوره للكتّاب والجمهور على السواء.
* هل ستلعب "إبداع" دورا في استعادة النقد لدوره؟
- طالما أنا رئيس تحرير المجلة سأعمل على أن تكون هذه الأفكار جزءاً من رسالتنا.
* في مادة العدد الجديد هل أثّرت هذه الواقعة على معايير النشر، أي هل استبعدت مادة من المواد لأسباب رقابية؟
- حتى الآن لم أستبعد أي مادة لهذا السبب، وما قمت باستبعاده كان لأسباب فنية تماما.
النهار
3 مايو 2007