من عمق المأساة العراقية تنبثق معظم أعمال المخرج والكاتب المسرحي العراقي الدكتور جواد الأسدي وهو في ذلك يؤكد على حقيقة استحالة فرار المبدع من واقعه أو تجاهله وأن ليس أمامه سوى التحدي والمواجهة. في مسرحيتيه الأخيرتين" حمام بغدادي" و" نساء في الحرب" واللتين عرضتا في مهرجان أيام عمّان المسرحية العام الفائت يقدم لنا صاحب "البحث عن كارمن"و" الآم ناهدة الرماح" و" الموت نصا" و"انسوا هاملت" ، وغيرها من النصوص المشاكسة ، صورا حية من الآم العراقيين ومعاناتهم الطويلة ويرصد تجارب إنسانية لشرائح اجتماعية عراقية سحقتها الديكتاتورية والحروب على مدى سنين طويلة ، مما قادها لمصائر عبثية ولا معقولة عبّر الاسدي عن فظاعتها وسوداويتها كاتبا ومخرجا. ومن الجدير بالذكر ان د. الأسدي الحاصل على جائزة الأمير كلاوس لعام 2004 يقيم حاليا بين بيروت ودمشق ويزور عمان باستمرار.
* مسرحيتك الأخيرة "حمام بغدادي" التي تم عرضها في مهرجان أيام عمان المسرحية ذات نص بسيط وأشكالي أيضا، ما الجديد الذي أردت تقديمه في تلك المسرحية التي كتبتها وأخرجتها، وما تقييمك لتفاعل الجمهور معها؟
- في الواقع عملي المسرحي يمشي من عدة جهات واخترته لتحقيق كثير من التفاصيل الغائبة عن الناس وإظهارها مسرحيا. الجديد يكمن في تلك العلاقة المباشرة مع ما يحدث في العراق والحالة المأساوية التي يمر بها العراقيون ، وعليه اخترت أبطال العمل من ضمن شريحة اجتماعية واسعة جدا ووقع عليها ظلم كبير سواء بعد الاحتلال أو في العهد القديم حيث كان حالهم كحال الملايين من أبناء الشعب العراقي الذين تعرضوا لقمع واضطهاد بشع.
كذلك يمكنني القول ان الجديد في هذا العمل هو تسليط الضوء بشكل اكبر وأكثر صراحة على ما تعرض له الشعب العراقي من ويلات ومعاناة في ظل النظام السابق من خلال شخصية السائق حميد عندما اجبر على نقل سجناء سياسيين لسجنهم وتعذيبهم ، وما يتعرض له الشعب العراقي الآن من ظروف صعبة ومأساوية تدفعه للتعامل مع الاحتلال المرير مهما كان، وذلك من خلال شخصية السائق الثاني في المسرحية وهو مجيد شقيق حميد الذي لا يتوانى عن التعامل مع الأمريكان والإعلان عن حبه وولائه لهم حتى يلاقي مصيره المأتمي في نهاية المسرحية. على تلك المفارقة المأساوية تقوم المسرحية ، وقد لاقت المسرحية تجاوبا كبيرا وتفاعلا مميزا من قبل الجمهور والنقاد عندما عرضت في دمشق وفي عمان.
ہفي ظل الخراب والدمار الكبير الذي يلف ارض العراق، برأيك ما الدور المنوط بالمثقف والفنان العراقيين في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ شعبه؟
- كان من المؤمل ان يكون هنالك دور استثنائي وكبير للثقافة العراقية والقائمين عليها ، وان يستعيد المثقفون العراقيون دورهم بعد سقوط الديكتاتورية ليعيدوا العافية للثقافة والفن. ولكن للأسف كل هذه الآمال والتوقعات انهارت بعد ان احتل المشهد السياسي والاجتماعي العراقي كوكتيل طائفي وعرقي وأصولي لم يعهده العراقيون من قبل ، ما أصاب الحالة العراقية بانتكاسة كبيرة. ولكننا سنبقى متمسكين بالأمل واثقين من حتمية نهوض المثقف العراقي من جديد ليلعب دوره الطليعي في إحياء المجتمع المدني ، وخلق حياة مزدهرة من وسط هذا الدمار والألم ، عندها سيستعيد العراق دوره الثقافي والفكري والفني عربيا وعالميا وطبعا هذا مرتبط بمدى الاستقرار السياسي للبلاد.
* انطلاقا من مقولة الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه "لا شيء يجعلنا عظماء غير ألم عظيم" ، هل من الممكن ان تشكل تلك الأحداث المأساوية واللامعقولة في العراق انطلاقة لحركة مسرحية جديدة مؤثرة وفعالة؟
- لا أستبعد ان ينتج هذا الألم والدمار الفظيعان عقولا نيرة ونصوصا مشاكسة جديدة وغير تقليدية تنطوي على القدرة على طرح الأسئلة الإنسانية والجمالية بطريقة مختلفة. وهذا مرهون بإعادة كتابة المؤسسات والأشخاص للمرحلة ، وقدرتهم على استيعاب دور المسرح في التغيير المنشود. إلا إنني أركز على حقيقة تاريخية مهمة وهي ان المشهد الجنائزي في أي بلد في العالم لا يمكن له ان يهزم المسرح ويقضي على طموحه.
* هل تتفق مع اعتقاد الكثير من المثقفين والمسرحيين العرب من ان المسرح العربي لا زال مجرد حالة مهرجانية غير مجدية؟
- للأسف هذا صحيح وواقعي ، فالفن المسرحي لم يتجر بعد في المجتمعات العربية ، والمسرح لا زال رهينة عدد من المخرجين يقودون الكتابة ، أي ان المخرج هو نفسه الكاتب. هنا الكتابة تتحول الى ذريعة إخراجية مع غياب النص ، ثم ان المسرح العربي يفتقر الى وجود مؤسسات ذات قيمة فنية وفكرية تدعمه أو تهيئ منصة ثقافية للمسرحيين في العالم العربي. وعليه فإن فجوة كبيرة لا زالت موجودة بين الجماهير العربية والمسرح تحول دون تطوره وازدهاره وملامسته مباشرة للناس.
* ما رأيك بظاهرة المسرح السياسي التنفيسي التي تستغل هامشا من الحرية تمنحه بعض الأنظمة العربية للفنانين ، وهل من فرصة لتأسيس مسرح مواز يعبر عن هموم الإنسان العربي بصورة أعمق وأشمل؟
- أنت تتحدث عن مسرح" الكباريه" السياسي الذي ساد في مرحلة معينة في أوروبا، وكان له تقاليد عريقة تجمع بين الفن والغناء والكوميديا الهادفة. ولكن في بلادنا تحول الكباريه السياسي الى عروض ساذجة وبدائية يساعدها على النجاح والانتشار أمية وجهل المشاهد مما ينتج مجرد حوارات لحظوية عابرة لا تؤدي الى أي تراكم جمالي أو ثقافي. وللأسف فإن لذلك المسرح رموزه في العالم العربي والذين يجنون أرباحا مادية كبيرة من ورائه حيث لا ينطلقون من أي خلفية ثقافية أو فكرية وإنما من دعم شباك التذاكر لهم.
* لتطرف والتخلف تلك هي باختصار صفات الإنسان العربي بالغرب ، ولربما تنبهت الدراما التلفزيونية والسينما في بعض البلاد العربية لتلك القضية الخطيرة فما الدور الذي يمكن ان يلعبه المسرح العربي في تبديد تلك الصورة المطلقة لدى الآخرين عنا وعن ثقافتنا؟
- بصراحة المسرح لا يستطيع ان يواجه تلك القضية أو يمحو تلك الصورة النمطية للإنسان العربي في الغرب حاليا لأنه محكوم دائما بمعايير جمالية أولا ، ثم انه لا زال معزولا عن العالم وعن مجتمعه المحلي لجهل المؤسسات والجماهير أيضا. وإزاحة وتغيير تلك الصورة تتطلب مسرحا قويا ذا علاقة تراكمية مع الجمهور وإعلام ضخم يتبناه ويسوقه ويدعمه ، وإعلامنا العربي لا يسوق حاليا سوى الأعمال المبتذلة التي تدر الربح التجاري السريع ، إما المسرح الجاد والراقي فلا زال مهملا ولم يأخذ دوره الحقيقي لا محليا ولا عالميا.
* ركز المسرحي المكسيكي هيجو باندا في كلمته في يوم المسرح العالمي العام الفائت على الأخطار التي يواجهها المسرح في ظل التطور التكنولوجي ودخول شبكة الانترنت إلى لكافة تفاصيل الحياة اليومية للناس ، هل تشارك باندا تلك المخاوف؟
- مخاوف باندا لها مببرات منطقية ، وأرى ان الحفاظ على روح المسرح ينبغي ان يتم بمعزل عن وسائل الاتصال الأخرى ليبقى نقيا ومحافظا على معماره الفني الذي يتنفس منه ، وأي علاقة للتهجين مثل إدخال الفيديو ووسائل الكترونية أخرى داخل اللعبة المسرحية هو التفاف لتحديث أجوف يخلق انبهارا آنيا لدى المتلقي سرعان ما يزول ، لأن المسرح هو فعل جماعي إنساني ويتصل بالجمهور مباشرة لتحقيق الجدل والحوار والنقاش حول كافة قضايانا الحياتية ، وهذا يتطلب مسرح ذا تقاليد اجتماعية عريقة.
* يفرض الواقع العالمي المليء بالصراعات والنزاعات ذات المنشأ السياسي على المسرح ان يأخذ منحى سياسيا؟
- هذا يعتمد على شهية ورغبة وفلسفة الكاتب في التعبير عن المراحل والأطوار السياسية والاجتماعية. ثم علينا ان نحدد كيف نكتب عن الحروب والصراعات ومتى ، وهل نكتبها بعد مرحلة من التأمل ووفق سياق إنساني اجتماعي عميق أم لمجرد الدعاية والإثارة فقط.
الرأي- 20 يوليو 2007