|
شمة (تصوير،علي علوش) |
مع افتتاح «مسرح بابل» للعراقي المسرحي جواد الأسدي، كان من البديهي ان يكون ضيف أمسياته في الأول والثاني من تشرين الأول الحالي، مساء أمس الثلاثاء ومساء اليوم الأربعاء، عازف العود والمؤلف الموسيقي نصير شمة، العراقي الذي يجول العالم حاملا قضية العراق في قلبه وفي عوده، وباحثا عبر آلته التي لا تفارقه، عن كل جديد وإضافة يقدمها لجمهوره، في العلاقة الأكيدة بين الفن الصرف والخلق، وبين القضايا المؤثرة التي نعيشها على مستوى العالم العربي كله، أكثرها سخونة ووجعا القضية الفلسطينية، والعراقية، وبالطبع آلام المخاض اللبنانية التي طالت كثيرا.
حين كنت أسأل عامل الفندق، عن الفنان الصديق نصير شمة، كان بدوره وفي اللحظة نفسها يسأل عامل الفندق على الهاتف، عن وجهة «القبلة» لكي يصلي بحسب وجهتها في غرفته. أيضا أربكني بعض الشيء أن أحاوره طويلا، أسأل في أحواله وأحوال صديقتي الشاعرة لينا الطيبي زوجته، وفي أحوال الموسيقى، والعراق، وفي ما آلت اليه مكانة آلة العود على يدي رواد في مجالها مثل الراحل منير بشير، والراحل منذ أيام قلــيلة سلمان شكر، وعلى يــــدي عــازفين مهرة من جيل نصير شمة، كل هذا ونصير «صائم» ولم يمض على وصوله بيروت سوى نصف ساعة ولم تتسن له الراحة بعد.
حفله في مسرح بابل مساء أمس الثلاثاء (يتبعه حفل آخر اليوم الأربعاء) كان مؤثرا اذ تقاطر اليه جمهوره الذي يحفظ مقطوعاته الموسيقية كافة، فقدم لهم الفنان بعض قديمه كخلاصة لعمله السابق، وبعض جديده من مثل في «انتظار الفرح» ومعزوفة «طفولة» و«حالة وجد» وبعض التنويعات على المقامات العراقية، ومقطوعة «إشراق» ذات المنحى الصوفي. مع نصير شمة، على هامش الحفلة، كان هذا اللقاء:
*ما الذي يعنيه لك، كعراقي وفنان، افتتاح «مســرح بابـــل» في بيروت، للمسرحي العراقي جواد الأســـدي، ما الذي يضيفه لك، افتــتاح مســــرح جديد، في بلد مأزوم كلبنان؟
مسرح بابل» أفق جديد، ومساحة لنشر الجمال يحرسها مبدع برهن على مدى عقود ماضية، أهميته كمسرحي مفكر ومبدع في مجال يندر فيه التميز، كتابة وإخراجا ورؤية. لذا أن يكون في بيروت فهذه ميزة أخرى كون هذه العاصمة بكل ما تحمله من تناقضات سياسية واجتماعية فهي بؤرة ثقافية براقة. ولديها سحرها الخاص على نفوس كل الذين عرفتهم في مجال الفن. ودعما لنجاح هذا المشروع، وأيضا بفترة هي ليست مثالية لتقديم حفل موسيقي ولكن نفس هذه الفترة قد تكون نقطة جذب كون الجمهور بحاجة ماسة في ظل هذه التوترات، الى موسيقى والى ابداع والى ثقافات متنوعة. وأيضا أريد ان ألفت انتباه باقي الفنانين كي يساهموا في إنجاح هذا المشروع الثقافي، واستفزاز الآخرين لعمل مشاريع كهذه. لأنني مؤمن كلما زادت مساحة الجمال كلما انحسر الظلام.
كعراقي، أشعر بالرضى ان المثقفين العراقيين (بدون شوفينية) لديهم هاجس واحد يشغلهم في كل مكان. أينما أذهب في كل مدن العالم هناك مشاريع ثقافية عراقية. شرقا وغربا. وهذا يؤكد على دور الانسان العراقي في مجال التنوير، وعلى الأقل يوازن بين الحالة السيئة التي يعيشها العراق الآن في ظل الاحتلال، وبين الثقل الثقافي الذي يمثله الانسان العراقي.
*هل تعتبر آلة العود، آلة قادرة وحدها، على احياء حفل فني، موسيقي صرف؟
- أعتقد ان آلة العود تعيش مرحلة مهمة من تألقها. لمّا أتيحت مساحات، بمسارح مختلفة في العالم لعازفين مهرة على آلة العود، قدموا عروضا ناجحة (منير بشير الذي فتح هذا المجال بشكل كبير، وسلمان شكر) وبعد ذلك جاء جيل مفقود في الوسط لم يكن له التأثير الكامل، ثم جار جيلنا ليدفع بقوة تواجد آلة العود في كل مسارح العالم. ووجود «بيت العود العربي» مشروعي الذي أسسته منذ 9 سنوات في القاهرة أصبح رافدا حقيقيا لتخريج عازفين بمهارات عالية جدا وبإلمام بكل مدارس العود، وأصبحوا اليوم يقدمون عروضهم ويدرسون بنفس الكفاءة. إضافة الى تطور المناهج لآلة العود وخلق، او ايجاد عدد من المهرجانات التي تعنى بآلة العــــود، أعطى حضورا استثنائيا لهذه الآلة التي يرجع تاريخها الى 2350 قبل الميــــلاد (الأكدي) تجاوزنا الحديث عن فكــرة كونسرت لآلة العود منذ السبعينات، لأن جمهور العود أصبح كبيرا يملأ قاعة بثلاثة آلاف مقعد.
كل نغمة لها لون
*هل كل من تعــــلم العود ويـــملك الموهبة والتقنيات المعقولة يستطــيع ان يلمع في هــذا المجال؟
- هذه مقومات. لكن هناك ما يكملها. هناك الجديد الذي يضيفه العازف لأسماع الناس. هناك الثقافة الحقيقية التي تحدد ملامح الصوت الخارج من الآلة، هناك التجربة الشخصية وانعكاسها على الأداء. لا يمكن لانسان سطحي تقديم عمل عميق. قد يقدم عملا متقنا فنيا لكن لا يمكن ان يتجاوز السمع الى العقل والروح ويؤثر فيهما. وينبني حضور العازف وتأثيـــره على الناس من ثقله المعرفي في الموسيقى اولا وفي الثـــقافة بشكل عام ثانيا. يجب ان يفـــهم في فنون كثيرة لأنها تقدم في المشهدية العامة. كل نغمة لها لون ولها صورة.
لذلك أصر على اعادة خلق المشهد والصورة وحضور اللون من خلال عملي الموسيقي.
*هل أنت مرتاح لبرنامج الأمسية رغم الفترة الزمنية القصيرة لتحضيرها. وكيف ترى اليها فنيا وأكاديميا أي كيف تصنف برنامجك؟
- بعد غياب عامين عن بيروت، وضعت كثيرا من الأعمال الموسيقية، وهناك كثير من الأصدقاء الذين يودون سماع أعمال قديمة عرفوها وألفوها من بعد سماع اسطواناتي او حضور حفلاتي السابقة. وبما انني دائم التمرين فكل يوم هناك حفر أعمق مما سبق، في الذاكرة وفي الروح وفي الآلة وفي البيئة المليئة بالأحداث حولي. لذا برنامجي هو خلاصة كل ما مضى من السنين، وكل ما اكتسبته من خبرات وعزف على مسارح مختلفة. الجديد الذي لم يسمعه الجمهور هنا، قدمته لأول مرة. مثل معزوفة «في انتظار الفرح»، هناك في هذه القطعة هاجس دائم وترقب للحظة سحرية أجد فيها حالة فرح في وجه أحد العراقيين يقول من خلالها ان ما حصل كان بمثابة كابوس وانتهى.
طول عمري وفي جميع أعمالي هناك أمل حتى في قطعة العامرية التي تبدو حزينة، سوى انها تتضمن الأمل. «طفولة» هي ليست معزوفة قديمة بل من عمر «ليل» ابنتي (4) سنوات ونصف والقطعة ثلاث سنوات. ايضا قدمت تنويعات على بعض المقامات العراقية، و«حالة وجد» مستوحاة من قصص الأنبياء، قصة أحد المتعبدين وحواره مع النبي موسى، وتصور العشق الإلهي.
ايضا يتضمن حضوري الموسيقى وسط الجمهور اللبناني مثلا «اشراق» هي عمل ذو منحى صوفي هناك عمل آخر عنوانه «بغداد كما أحب» أعزف فيها بغدادي التي عرفتها. هناك أيضا «رقصة الفرس» وأعمال اخرى. ايضا في الشق اللبناني ثمة تنويعات على أعمال فيلمون وهبي والرحابنة مع فيروز قدمتها بالأمس في «المركز الثقافي الفرنسي» في القاهرة. (بكتب اسمك) (منن) وأعمال أخرى.
*هل تتنافى هنا الأفكار، مع كون الموسيقى هي فن التجريد؟
- اطلاقا، انتِ لا تصلين الى التجريد الا من خلال اكتناز المعارف الكثيرة، والاطلاع على كافة الفنون قديمها وجديدها، حتى تصلي في النهاية الى التجريد. المنحى الصوفي الذي تجدينه في بعض أعمالي، هو خلاصة هذا التجريد الذي نتكلم عنه، هو العلاقة التي لا لبس فيها، المـــتداخلة والمتوحدة بينك وبيــن الخالق، وهذا منتــهى التجريد.
السفير
3-10- 2007