ترجمة: حسن الوزاني
يُعتبر عبد اللطيف اللعبي أحد أشهر الشعراء والكتاب المغاربة الذين طبعوا المشهد الأدبي والثقافي، سواء في المغرب أو على مستوى ما يعرف بالأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية. أشرف، سنة ،1966 وهو في الثالثة والعشرين من عمره، على إصدار مجلة “أنفاس” باللغة الفرنسية، قبل أن يتم إصدار طبعتها العربية التي تحمل الاسم نفسه. يحتفظ الإنتاج المنتظم للعبي بسمة تعدد مجالاته، حيث تتوزع على الكتابة الشعرية والرواية والمسرحية والترجمة وأدب الطفل. من أعماله العديدة دواوينه: “أزهرت شجرة الحديد” (1974)، و”عهد البربرية” (1976) و”قصة مصلوبي الأمل السبعة” (1980)، و”الشمس تحتضر” (1992)، و”محن الحالم المفتون” (2008)، وروايتاه “العين والليل” (1969)، و”تجاعيد الأسد” (1989)، ومسرحيتاه “رامبو وشهرزاد” (1987)و”تمارين في التسامح” (1993)، و”أنطولوجيا القصيدة المغربية” (2005)، التي تُرجمت أيضا إلى الإسبانية سنة 2006 كما تُرجمت مجموعة من أعماله إلى العديد من اللغات، ومنها “الشمس تحتضر” التي ظهرت بالألمانية (2000) وروايته “طريق المحاكمات” الصادرة بالإنجليزية (1986) والألمانية (2000) والإسبانية (2005) والإيطالية (2005). في هذا الحوار، الذي أجرته معه الشاعرة والباحثة الأمريكية كريسيتن بريفالي، يستعرض عبد اللطيف اللعبي جانبا من تصوراته لمفاهيم الكتابة والالتزام والفرانكفونية وتمثلَه للحدود بين السياسي والأدبي ولتحولات القصيدة وانشغالاتها ارتباطا بتحولات العالم.
أُعد حاليا أبحاثا من أجل أنطولوجيا ستسعى إلى إعادة تمثل التعددية الثقافية والجمالية للقصيدة المكتوبة باللغة الفرنسية في الوقت الراهن.
وكشاعرة شابة، لم أكن، بالتأكيد، الوحيدة التي تعتقد أن القصيدة الفرنسية الأهم تنحدر، بشكل استثنائي، من تجربة طليعية أوروبية تُعتبر امتدادا لتجربة مالارميه. وهي تجربة مهمة بالنسبة لي، لأنني تعلمتُ شخصيا أن أحب القصيدة الفرنسية عبرها. أقدر عملكَ، لأنه يبدو لي أنكَ اجتزتَ أكثر من حركة وأكثر من ممارسة شعرية ونضالات مختلفة. وبالرغم من ذلك، لم يحظ عملُك، كما هو الأمر بالنسبة لشعراء “فرانكفونيين” آخرين، بحضور خاص في الولايات المتحدة الأمريكية، وإن كان الوضع يتغير قليلا الآن.
أتأسف للوضع أيضا. لكن الأمر يتعلق بمشكل أمريكي أمريكي. غير أنني ألاحظ، رغم ذلك، بأن أقسام الآداب الفرانكفونية تتميز بنشاطها على مستوى عدد مهم من الجامعات الأمريكية. أما بالنسبة للترجمة فهي رهينة دور النشر. ذلك أن مستوى الاهتمام الذي تبديه هذه الدور بالنسبة للقصيدة الفرانكفونية المكتوبة من طرف شعراء غير الفرنسيين لا يعكس للأسف هذا الانفتاح الحقيقي على المغرب العربي وإفريقيا والذي استطعتُ ملاحظته داخل الجامعات الأمريكية.
من جهة أخرى، لا أحب نعت الفرانكفونية. فهو نعت اختزالي، بالإضافة إلى أنه يفتح البابَ أمام آراء سياسية قبلية. وهو أيضا طريقة لجعل التجارب الأدبية، التي تتسم بتعدديتها الكبيرة وبتباينها أحيانا، سجينة إشكالية اللغة فقط.
المشكل ليس هنا بالضبط. فهو يتجاوز بشكل واسع المجال الفرانكفوني، حيث يهم، عموما، جميعَ الكتّاب الذين لا يكتبون بلغة الأم. ويمكن هنا استحضار نموذج الكتاب المنحدرين من أصول هندية وباكستانية، ومنهم سلمان رشدي وأونطاتجي وغيرهما. فنحن نجد أن الكتاب الذين يُنشطون الحركة الأدبية في بريطانيا، في الوقت الراهن، على سبيل المثال، ليسوا فقط الإنجليز، ولكن أيضا كتّاب ينحدرون من أمكنة أخرى. وبالنسبة لفرنسا، يمكن أن نستحضر نموذج كونديرا الذي قرر الكتابة باللغة الفرنسية. ويتعلق الأمر إذن بظاهرة تعم حاليا العالم كله. فإلى جانب الآداب التي نسميها وطنية، ثمة أخرى من نوع جديد، تنبثق الآن من مناطق أسميها محيط العالم، سواء تعلق الأمر بالهند أو إفريقيا أو غيرها. وما يميز هذه الآداب هو أنها تُقيم بين ثقافتين ومتخيلين ولغتين مختلفتين. ولكنها ليست حبيسة هذا البين، بل إنها تتمثل بشكل جيد في الضفتين. وبالنسبة لي، فأنا أمتلك اللغتين بشكل تام. فلغتي الأصلية هي العربية، ولغتي على مستوى الكتابة هي الفرنسية.
والذي يمكن أن يشكل أمرا مختلفا في ما أكتبه هو هذا التلاقي بين ثقافتين. وحتى حينما أكتب بالفرنسية فاللغة العربية تظل هنا. فثمة موسيقا هذه اللغة، بالإضافة إلى مفرداتها التي تحضر في نصي بالفرنسية. وأظن أننا لا نلاحظ بشكل كاف جدة هذه الظاهرة التي تكتسي، في الوقت الراهن، بعدا عالميا.
هذا تحليل يدهشني كثيرا. وهو، ببساطة، نتيجة جهل بهذا الأدب الذي أتحدث عنه، , كما أنه نتيجة غرور فرنسي يتم معه اعتبارُ الآداب القادمة من العالم الثالثة قاصرةً، وهو ما يشكل أحد مخلفات العقلية الاستعمارية. وكنت أظن أنه يتم تجاوز هذه العقلية.
لن أتصارع من أجل القول بكوني أنا الذي، أو أحد غيري، هو الذي يمثل اللغة الفرنسية. هذه ليست قضيتي. ما هي قضيتي إذن؟ لم أختر أن أكتب باللغة الفرنسية، بل فُرضَت علي. ذلك لأنني ولدتُ في بلد كان مستعمرا من طرف فرنسا. ولم أكن أتعلم اللغة العربية في المدرسة التي كنت أدرس فيها، بل الفرنسية وحدها. وبدأتُ إذن الكتابة باللغة التي كنت أتقنها وهي الفرنسية.
وتلتْ ذلك قصةٌ طويلة مع هذه اللغة. وهي قصة حافلة بالحب والحقد والرفض. ولكنني أحتفظ الآن بصفاء الذهن. لقد كانت التجربة الاستعمارية على ما كانت عليه، وكان الأمر تراجيديا، ولكنني لست سجين أحقاد ما، بل إنني إنتاج هذا التاريخ. وكل ما كتبته قبل استقراري في فرنسا، وما أكتبه حاليا، يحتفظ بعلاقة مع واقع المغرب والعالم الثالث. أكتب باللغة الفرنسية، وأجد نفسي مرتاحا في هذه اللغة، لكنني لا ازعم أبدا أنها أعلى من هذه اللغة أو تلك. فالأمر يرتبط فقط بكوني لم يكن لي الحظ في أن أكبر داخل بلد حر ومستقل، حيث يمكن تعلم لغته في المدارس.
ولدتُ في وسط أمّي. لم يستطع والداي التعبير أبدا. ولكن، إذا كنتُ قد بدأتُ في الكتابة يوما ما فأيضاً لكي يتمكن هؤلاء الرجال والنساء، الذين لم يكن بإمكانهم التعبير والذين لم يكونوا أغبياء، من قول شيء ما. وأكتب الآن رواية، تُعتبر أمي شخصيتها الرئيسية. لقد كانت تمتلك حسا ورؤيا، وتبدي ثورة مذهلة على وضعها. وأعتبر نفسي مدينا لها بشكل أكيد.
في ما بعد، بالطبع. نحن نعود إلى بعض التفاصيل السابقة. كما أن الطفولة تشكل تراثا للشاعر. وأنا أقول دائما إن الشاعر يكتب بطفولته. ويجب ألا يصير راشدا. فنظرة الطفل إلى العالم تظل النظرة الأولى. والقصيدة بالنسبة لي هي نظرة أولى. وهذا سر سحر القصيدة. لأن شيئا ما نُظر إليه وقيل للمرة الأولى.
لي مسار خاص نوع ما. فأنا شخص ناضل، سياسيا وثقافيا. ولا أميز، على مستوى وظيفة المثقف، بين عمله المتجلي في إنتاج الأفكار والقيم الرمزية وبين واجبه كمواطن. ولكنني حين أكتب، لا أتلقى الأوامر من أي أحد. فأنا لستُ عضوا في أي حزب ولا نقابة، ولا أخضع لأي أيديولوجيا. أنا حر تماما. غير أنه لا يمكنني، كمثقف، أن أخلد للصمت حينما يكون هناك اضطهاد وظلم ومس بحقوق الإنسان. وعلي في هذه الحالة أن أصارع، حيث أشارك باستمرار في النقاش السياسي. ولذلك أدافع عن وظيفة المثقف المواطن.
وكان هذا الأخير يوصف، في ما قبل، ب “الملتزم”، غير أن هذه الكلمة ابتُذلت.
هل قصيدة الحب هي قصيدة ملتزمة؟ لقد كتبتُ عددا كبيرا من قصائد الحب.
لا سياسة هناك. أحب امرأة، وهذا كل ما في الأمر. ولكي أعود لما قلتِ، لا يتعلق الأمر بحاجة، فقد تكون هناك أحيانا أحداث تفرض نفسَها علي. قبل سنوات، كان شاب مغربي، يبلغ من العمر 21 سنة، يتمشى على رصيف نهر السين. كان ذلك يوم فاتح مايو. وتصادف الأمر مع تظاهرة للجبهة الوطنية الفرنسية (حزب أقصى اليمن بفرنسا)، وحدث أن خرج عدد من الشبان حليقي الرؤوس من التظاهرة وأوسعوا هذا الشاب ضربا، ثم رموه في نهر السين، ليموت غريقا. وقد مستني هذه الجريمة العنصرية بشكل كبير، فكتبتُ عنها قصيدة. هل لا أملك حق ذلك؟ هل القصيدة مقدسة إلى حد أنها لا تستطيع أن تستوعبَ التراجيديا الإنسانية والاحتجاج؟ هناك عدد كبير من أعمال القتل العنصرية، ولكنها تُنسى بشكل سريع. أما أنا فأُسَمي الضحيةَ، ولا أريد للنسيان أن ينتصر. فالشاعر هو أيضا إنسان يصارع من أجل الذاكرة. وإذا لم تكن هناك ذاكرة فلن يكون هناك أدب. يبقى أن القصيدة التي أكتبها تحتفظ بخصوصيتها، حيث لا أكتفي بأن أقول “إلى الحضيض، أيتها الجبهة الوطنية”.
لا تهمني الأوصاف. لا، فالأمر يتعلق بقصيدة حياة، ضد البربرية، وكفى. لستُ متشائما، لكنني أظن أننا نعيش حاليا مرحلة تُمارِس خلالَها الإنسانيةُ تدميرَ نفسها. ونعلم جيدا ما الذي يحدث على مستوى التوازن المناخي. كما أن القارة الإفريقية هي في طور الاحتضار، وهناك دول، حيث نجد أن ثلث البالغين مصابون بالسيدا، بينما تصر شركات الصيدلة المتعددة الجنسيات على التصارع من أجل أن تحول دون بيع الأدوية بأثمنة تمكن الفقراء من العلاج.
وحينما نمتلك قليلا من الوعي بما يحدث في العالم فلا يمكننا أن ننغلق على أنفسنا ونستمر في حيواتنا الصغيرة، بل يجب علينا أن نعبر عن مواقفنا.
وبالطبع، يظل الأمر رهين الطريقة التي نكتب بها. وما أقوله ينطبق علي، ولا أعطي دروسا لأحد. أنا أصارع من أجل حريتي كشاعر، ومن أجل ان أكتب ما أرغب في كتابته. أما القول بأن هذا أو غيره ما يشكل القصيدة فهو نوع من الفاشية الثقافية. إذ إن الإبداع هو المجال المفضل للحرية.
إنها، بالنسبة لي، بشكل خاص التمرد على المعايير الجاهزة. وبمعنى آخر، فهي لحظة قطيعة في إطار مسار تطور ما. وأظن أن التاريخ لا يتقدم، بشكل عام، ولا يتراجع إلا من خلال القطائع. وفي الأدب، يمكن أن يرتبط هذا الأمر بفرد (كما هو الأمر بالنسبة لآرثر رامبو الذي كان، وحده، وراء ثورة شعرية)، أو بجيل، أو بمجموعة أدباء ينقلون تمثل الأدب ورؤياه من مرحلة إلى أخرى.
تبدو الطليعية مثل مفهوم الالتزام، وكلاهما يفترضان جانبا من الحذر. يعرف العالم الآن ما أسميه مسار تبضيع الثقافة. فنحن نعرف ما هو نوع الكتب الذي يلقى رواجا تجاريا، ويمكن لذلك أن يكون له انعكاس على الإنتاج الأدبي وعلى الإبداع. وتظل دواوين الشعر على الهامش، خارج النظام، حيث يندر أن يتم سحبها في أكثر من ألفي نسخة في فرنسا، ويتوجب، في غالب الأحيان، اللجوء إلى المكتبات المتخصصة من أجل البحث عنها.
وأظن أن الشعر يشكل الآن الفن الذي يبدي بعض المقاومة في مواجهة النظام الذي يريد أن يجعل من الثقافة بضاعة.
الخليج- السبت ,09/08/2008