صنعت الشاعرة اللبنانية آمال نوار حضورها بقوة شاعريتها ورهافة إحساسها المتوهج، يتجلى ذلك في ديوانها «تاج على الحافة» الذي يعتمد على تقنية التفكيك اللغوي لبنية الكلمات والجمل المشكّلة لها وإعادة تركيبها من جديد وفق تصور بنائي مغاير، وفي ديوانها الجديد «نبيذها أزرق ويُؤنس الزجاج» تبدو أكثر نضوجاً. معها هذا الحوار.
* هل ساهمت الغربة في إنضاج تجربتك الشعريّة؟
إنّ نضوج أيّ تجربة شعرية لا بدّ أنه رهن عوامل شتى متضافرة تتعلّق بتجربة الشخص الحياتية على المستويين المادي والنفسي. لكن يبدو لي أنه من الصعب قياس مدى فاعلية كل عامل وحجم مساهمته في مسيرة التطور التي تأخذ مجراها عبر أبجدية كيميائية معقّدة قد تتآلف في ما بينها أو تتنافر، قبل أن تضحي نسغاً يتمخّض عن مختبر الأعماق. غربتي في الأساس غربة وجودية، تتعلّق بعلاقة الإنسان بالوجود عموماً، وهي غربة زمانية بقدر ما هي مكانية، وقد طبعت كتابتي منذ البداية، من قبل هجرتي ومن بعدها. لكن كي أبقى ضمن حدود السؤال الذي يذهب باتجاه غربة المكان تحديداً، وليس الغربة بمفهومها الواسع، أقول، لا بدّ أن لتجربة الإغتراب مفاعليها في كتابتي. فالمغترَب هو أرضُ حياتي، وكتابتي محاصيلها. لكن يبقى السؤال الذي لا أني أسأله لنفسي؛ إلى أيّ حدّ كانت هذه الأرض صالحة للإنتاج، وإلى أي حدّ كانت هذه المحاصيل مدينة لمكان تواجدها، في حين أنها لم تتوقّف للحظة عن خيانته في خيالها مع مكان أخرى؟ الأمر الذي لا شكّ فيه هو أنه على الرغم من الدور الكبير الذي لعبته شبكات الإتصال الإلكتروني في السنوات الأخيرة، في جعل الكون كله في متناول الشخص وفي لحظة واحدة، فإنّ إحساسي بغربتي عن المكان وباللاإنتماء فظيع. ربما لأن هذا الإحساس متأسّس على غربة أكبر منه، راسخة في الوجدان، كما ذكرت. لكن ما أعرفه عن غربتي هذه، يقف عند حدود التأكيد على تأثيرها في كتابتي، ولا يتعداه إلى معرفة مدى إيجابية دورها في إنضاج تجربتي الشعرية، هذا إذا كانت قد نضجت فعلاً. ولعلّه من المفيد هنا الإشارة إلى انقطاعي عن الكتابة الذي دام لعشر سنوات، بدءاً من 1992، عام هجرتي، وحتى 2002، لأخلص إلى القول إنه إذا كان للغربة فضل في تأجيج أعماق الوجدان بمشاعر خبيئة تقيم في ما وراء حدود الرماد، وفي عالم ما بعد طبقة الجلد السابعة، حيث أن الأشياء الحقيقية تبدأ دائماً من مطرح ما ينتهي رأس السكين؛ إذا كان حضوري مديناً لغيابي، وأشعاري ثمارَ شجرةِ فَقْد داخلي تخضرّ بيباسي، فإنّ الغربة من ناحية أخرى، شربت دماء سنين طويلة من عمري، بحيث أني لم أكبر لمدة، إلاّ بالمعنى الذي تكبر فيه نظرة بخوائها. وفي الوقت الذي كان يمكن أن أتقدّم في دروس الدفء والحبر والماء والهواء والذاكرة والجسد ...، لم تكن الغربة لتلقّنني سوى دروس في البرد والجفاف والوحشة والنسيان والملح والظلّ...، فكان أن أخّرتني عن نفسي سنين ضوئية، إلاّ إذا كنا سنصدّق أنّ برداً متراكماً على مدى سنوات هو لاحقاً ما يجعل للقلب طَعْم القُبَل الحارّة.
* ثمة مَنْ يقول إنك تستفيدين من المدرسة الرومنطيقية في الشعر، ومن شعراء المهجر، من دون السقوط في فخّ الغنائية والمباشرة... ما رأيك؟
أعتقد أن الإنطباع الذي كوّنه قارىء أشعاري عن أنها تشفّ عن رومنطيقية من نوع ما، رومنطيقية عصرية إن شئتْ، لا غنائية فيها ولا انفلاش أفقي للعاطفة؛ لا بكاء أو نواح، ولا مباشرة بالطبع، مردّه إلى الحضور القويّ لعناصر الطبيعة فيها، وإلى أسلوب التعبير الوجداني الشفيف الذي يرى إلى الأشياء بعين القلب لا العقل، وأيضاً إلى القوة الحُلمية فيها التي تطمس معالم الواقع في إشارة ضمنية إلى رفضه. ما سلف، هو بعض من خصائص المدرسة الرومنطيقية بالطبع، التي قد ينتمي إليها نصّي، ولكن في الوقت الذي قد تتواجد فيه من الخصائص المغايرة ما يبرّر انتماءه إلى مدرسة أخرى بالقدر نفسه. الشعر الرومنطيقي هو شعر بوح عاطفي أكثر مما هو شعر تأمّل وحكمة، أو شعر صمت وإيجاز. قوامه تدفّق أفقي أكثر مما هو كثافة عمودية. وهو لا ينشغل باللغة إلا لتأجيج مآقي المعنى ومؤثراته العاطفية، وليس لتلغيزه أو تعميقه ومنحه من العتمة ما يضيء خيال القارىء بأكثر من تأويل. صراعه بين الحلم والواقع لا يتجاوز المضمون إلى اللغة نفسها، بحيث تتحوّل من لغة وصفية الى لغة رؤيوية، وتصبح هي نفسها حلم نفسها، فتغمض عينها على واقع موروثها الدلالي، وتترك لخيالها أن يعيد صوغ علاقاتها بالأشياء وفق رؤى ومعادلات مجازية شديدة الخصوصية، بحيث أن لا شيء يعود ليُسمّى بإسمه، أو يُوصف بشكله، أو يُقاس بحجمه. التأمّل والإختزال والكثافة والغموض واللغة الرؤيوية، هي من مميزات لمسها كُثُر في أشعاري، بينهم ممن لمسوا فيها الأجواء الرومنطيقية تلك أيضاً. هم محقون طبعاً، في رؤية الشيء ونقيضه، مثلما هو محقّ أيضاً من يرى في أشعاري ملامح سوريالية أو صوفية...أعتقد أن الكَثْرة في ما يحتمله الشعر من تأويل إنما هو دليل عافية، لا بل هو طموحه الضمني. لكن إن كان عليّ منح شعري هويّة ما، فسأنطلق في تصنيفه من طريقة كتابته، أي من طرف الفعل لا التلّقي، لأقول إنه شعر رؤيا، لأن كل قصيدة كتبتها كانت رؤيا فعلية تحضرني دون استدعاء أو استجداء، أراها في باطن عيني صوراً متلاحقة قبل أن يترجمها الإحساس إلى لغة باطنية أيضاً. القصيدة بالنسبة إليّ هي فعل اختلاج حسّي، وليس فعل تركيب معرفي.
* تشيرين إلى الحضور القويّ لعناصر الطبيعة في أشعارك، ما هو سببه؟
الطبيعة هي اللغة التي تعبّر بها أحاسيسي عن نفسها، فهي تجد في تضاريسها ومكوناتها وأسرارها ما لا تجده في التمثيل الواقعي للأشياء. اليد هي يد في لغة تُخاطب ظاهرَ الشيء ومادته وليس حركته وشعوره. اليد حين تتحرّك تضحي غصن شجرة، وحين تشعر تخضرّ أو تيبس...الطبيعة تمنح الأشياء أن تعيش حياة أغنى وأعمق، لتترجم أحوالها بمفردات كونية، وليس بمفردات من جنسها فقط. وعليه فهي ملاذ شعري بالنسبة إليّ وليست مقرّ عبادة يمنح كتابتي صفة الرعوية. ثم إنّ واحدة من خصال الشعر أنه يجرّد المادّي ويمدّي المجرّد. وبما أن الطبيعة الإنسانية، تكوين مجرّد، فإن الروح الشعرية قد تقترح تشعير المجرّد عبر تجسيده، وهي في مسعاها هذا لا تجد معادلاً موضوعياً للطبيعة البشرية إلا في الطبيعة المادية. وهذا كلّه يتمّ بشكل فطري وتلقائي. فنجد أنّ الخيال والحُلُم يتّجهان نحو الطبيعة لاإرادياً، لأن لاوعي الإنسان (مصدر الطاقة الشعرية) المتّصل بالغموض والمطلق واللانهايات، يحتاج إلى وسيلة تعبيرية تلائم تكوينه، وهذا ما يصعب وجوده خارج الطبيعة، على النقيض من وعيه (مصدر الطاقة الفكرية) المحدود مهما اتّسع، والذي يجد في واقع الأشياء وسيلته التعبيرية المُثلى كيما يسميها بأسمائها وبدقة بالغة يشتدّ بشدّتها، لأن الوعي يزداد بازدياد معرفته بالتفاصيل في إطار واقعها الحقيقي المحدّد. من هنا، فإن الكتابة الشعرية المنبثقة من عالمَيْ الحلم والخيال لا مفرّ من أن تتلبّسها الطبيعة بأقدار، في حين أن الكتابة الشعرية الصادرة عن الوعي، تبحث عن شعرية ما، داخل واقع الأشياء كما هي، ولذا فهي غالباً ما تكون كتابةُ تفاصيلٍ صغيرة لا تخشى من تسميتها بأسمائها لأن شعريتها تقوم على العلاقة بهذه التفاصيل لا على تأمّل التفاصيل نفسها.
* رغم أنّ ثمة من رأى في شعرك الشيء ونقيضه، كما تقولين، وأنك تضعينه في خانة شعر الرؤيا، تبدو أن الرومنطيقية فيه ذات ملمح نفسي ووجداني أكثر مما هي ذات ملمح أدبي...ما رأيك؟
أرى أنّ المدرسة الرومنطيقية تنطوي في كثير من جوانبها على عناصر جوهرية في الإنسان تتعلّق بسرّ خلقه، وجَبْلة تكوينه، وفطرته، وشرط وجوده الأول. بمعنى آخر، تتعلّق بما لا خلاص للإنسان منه لأنه يدخل في أصل انوجاده وفعله. وعليه، لا قدرة للإنسان على الخروج على هذه العناصر الجوهرية فيه، مهما تقدّمت أفكاره، ووسعت معرفته، وتغيّرت ذائقته، وتفجّرت لديه مكامن شعورية أو عقلية خبيئة، وانكشفت له أسرار كونية جديدة وهلمّ جرا...لا يمكن للإنسان مادام حياً أن يتجاوز سؤال الموت مثلاً. الرومنطيقية في الجوهر هي "السؤال" في معناه المطلق، السؤال البلا جواب، وهذا تحديداً هو مصدر عذاب النفس الرومنطيقية الأول. فهي معذّبة بسؤالها الذي هو فعل وجود بالنسبة إلى الإنسان، وهل الإنسان شيء آخر غير سؤاله؟! الرومنطيقية في الجوهر أيضاً، هي مطرح عذاب للصراع الأبدي بين الخير والشرّ، بين جاذبية الأرض وجاذبية السماء، بين الحلم والواقع. وهي مطرح انفعال تتغلّب فيه العاطفة على العقل، وتطلق العنان لمشاعر جيّاشة لا يردعها مرأى موج عالٍ أو شفير هاوية، ولا يمنعها ألم الإنفجار من أن تنفجر ألماً. وهي مطرح ثورة شعورية مصدرها اللاشعور، على القيود بأشكالها. ومطرح انسحاب إلى الداخل لإقامة مملكة فردية بعيداً من خطر الذوبان في مفهوم القطعان، بغية التواصل مع ما يحيطها من غموض، عبر رؤية متأملة وشديدة الخصوصية. لستُ هنا في صدد تعداد خصائص المدرسة الرومنطيقية، فهي أكثر بكثير مما ذكرت، ولكني أردت من هذا العرض أن أخلص إلى السؤال التالي: إذا كانت الدادئية على سبيل المثال تقوم على مفهوم "اللاشيء"، أليستْ هذه "اللاشيء" في بعض جوانبها هي نفسها تلك الثورة الشعورية التي مصدرها اللاشعور، على القيود بأشكالها؟ وإذا كان بريتون أتى بالسوريالية نتيجة تفاعله مع تحاليل فرويد النفسية المتعلّقة بالوعي واللاوعي، وبالعقل والخيال، وغيره، ألم تجري تلك التحاليل على مسرح النفس البشرية المعذّبة بسؤالها، والمنفعلة بتأثير أحلامها وآلامها، والطامحة إلى مخرج للإنعتاق من واقعها بصرف النظر عن الإختلاف في الوسيلة المعتمدة؟ هل كان بريتون رومنطيقياً؟! هو ينتمي إلى مدرسة لها خصوصياتها التنظيرية والأسلوبية المختلفة كلياً عن سواها. ولكن، شيئاً في جوهر الرومنطيقية موجود في التكوين النفسي للإنسان بصرف النظر عن توجهاته الأدبية والفنية والفكرية. وعليه، كل إنسان ذو ملامح رومنطيقية بشكل أو بآخر، مادامت العاطفة هي المحرّك اللاإرادي لديه وليس العقل، ومادام لم يتوصّل بعد إلى طريقة لسلخ فعله اللاإرادي عن ردة فعل روحه وجسده. أخلص هنا لأقول، نعم، في كياني الكثير من الرومنطيقية، وكأنما هي رومنطيقيتي تكتب نفسها بأسلوب مغاير للرومنطيقية.
* ما الذي أضفتِه في كتابك الجديد إلى كتابك الأول؟
لا أعتقد أن كتابي الجديد أضاف شيئاً إلى كتابي الأول، سوى أنه هو نفسه شكّل إضافة كميّة إلى إنتاجي الشعري. كل ما نشرته كُتِبَ من درجة الغليان ذاتها، ومن اللحظة الشعرية ذاتها التي هي بالنسبة إليّ لا تكبر أو تصغر، ولا تكثر أو تقلّ، ولا تثقل أو تخفّ، وإنما تكون حاضرة بكليّتها حين تكون، تماماً مثل ما هو فِعْل الحَرْق يكون حاضراً بكليته في النار، وفعل البلل في الماء. ولكني أستطيع الإشارة إلى فارقٍ بين كتابي الأول والثاني، ليس فيه في نظري ما يشكّل تقدّماً في تجربتي الشعرية ولا تراجعاً. وهو يتلخّص في أن كتابي الثاني ضمّ قصائد متماسكة البناء من الداخل بوحدة الموضوع والنَفَس الشعري التصاعدي، وأن ثمة تقارب في الأحوال الوجدانية وإنشغالاتها (الغربة، الغياب، المسافة، الوهم، الحلم...) التي شكّلت شبه خلفية واحدة لمجمل القصائد، يعزّزها العامل الزمني حيث أنها كُتبت كلها بشكل متلاحق على مدى سنتين كنت أعيش فيهما تجربة الإنفعال النفسي ذاتها، وتجاه الموضوعات ذاتها، ولم يكن بينها قصيدة من مرحلة زمنية سابقة تنطوي على طبيعة تجربة مغايرة، وتالياً تشكّل اختراقاً للمسار النفسي الذي يصحب التجربة. في حين أن كتابي الأول اشتمل على قصائد من فترات زمنية متباعدة، طرأ في ما بينها تحوّلات على صعيد التجربة الحياتية، انعكست على المناخ الشعري للقصائد والنَفَس الشعري فيها، ولو أنّ آلية الكتابة حافظتْ على طبيعتها ذاتها في مقارنةِ قصائد المجموعة الأولى ببعضها أو بقصائد المجموعة الثانية. وعليه، يبدو كتابي الأول أكثر تنوّعاً، لكونه يضمّ إلى القصائد الشبيهة بقصائد كتابي الثاني من حيث لحمتها الداخلية ووحدة التيمة، أيضاً قصيدة المقاطع، وقصيدة الشذرات، ويجمع بين قصيدة طويلة قد تتجاوز الإثنتي عشرة صفحة وأخرى قصيرة قد تقلّ عن العشرين كلمة. لكن عموماً، لا شكّ أن شعرية المرء موضع تأثير نضجه الوجداني، ومثلها تقنياته في الكتابة، ولا شكّ أنه في الغالب يوجد فارق في القيمة الشعرية بين إصدارات الشاعر، سلبي أم إيجابي، تتحكّم فيه مسيرة موهبة الشاعر وقدراته، وخصوصاً إذا ما استشهدنا بالطرح النقدي القديم- الجديد حول كل ما يتعلّق بتجربة الكتاب الأول. لكني أودّ التنويه هنا، أن كتابي الأول صدر بعد ما يفوق العشرين عاماً من تاريخ خوضي الكتابة الشعرية، أي بعد اشتباكٍ لابأس به في الحياة، مرّت خلاله التجربة الشعرية في اختبارات موازية في صعوبتها وجدّيتها وآلامها وآمالها وأسئلتها وقلقها، لما مرّا به الروح والجسد. ولذا، أجدني على مسافة واحدة من كتابَيّ الأول والثاني.
* تقولين في أحد حوراتك "التراجع في علاقة الإنسان بالشعر حالٌ مرحلية، لا تدوم". أنتِ ألا تشعرين بتراجع علاقتكِ بالشعر؟
لا إطلاقاً. علاقتي بالشعر لم تتعرّض لأية تقلبات، حتى في فترة انقطاعي عن الكتابة، لا بل إن حاجتي إليه لا تني تتفاقم في ظلّ ما يعتري حياتنا من جفاف على مستوى العلاقات الإنسانية. أجد في الشعر حصناً يقي روحي من الوحشة ومن الشعور الدائم بالإغتراب المكاني والزماني. الشعر يجعلني أعيش خارج حدود حياتي الضيّقة، لأتخطّى جهوزية طبيعتها، ولأكتشف تلك الحياة اللامرئية التي تكون فيها شبكة علاقاتي بالأشياء غير محكومة بشروط، وتكون فيها قدراتي خارجة على منطق الممكن والمستحيل. الشعر لا يحيلني إلى كائن وهمي، يبيح لي الطعن بصدقيته وحقيقيته، وإنما هو يوقظني من نفسي لأستعيد طبيعتي الأولى، وأحيا بكليّتي وبطاقاتي الدفينة التي ليس غيره بقادر على تفجيرها. يقول شكسبير "نحن مكوّنون من النسيج نفسه الذي تتكوّن منه الأحلام" ، لكن يبقى السؤال كيف لنا ان نعي هذه الحقيقة لنحيا في نسيجها؟ أقول من طريق الشعر وحده، لأنه وحده القادر على استنفار أحاسيسنا بالطريقة التي تجعلنا ندرك أنفسنا، ونعيش فيها بقدر ما تعيش فينا. الوعي الأقصى يأتي من اللاوعي وليس من يقظة العقل، حيث أن المعرفة المتأتّية لنا من الحسّ لا توازيها تلك المتأتية من الفكر. وليس مثل الشعر ما يشحذ حواسّنا ويستثير أحاسيسنا من منابتها. " أنْ تُفكّر أكثر متعة من أن تعرف، لكن أقلّ متعة من أن تنظر"، هكذا هي الحال في نظر غوته؛ من خلال حاسّة واحدة، تُثار فينا المشاعر التي تمنح عيشنا المتعة الأكبر. الشعر هو ما يمنحني فرصة العيش بحواسّي وتالياً بدرجة الحسّ والإنفعال التي تحفظ للحياة نسغها، وخصوصاً في ظلّ عجز الفكر عن جعلها وحده جديرة بأن تُعاش، وفي ظلّ إفتقاد الأرض التدريجي لجاذبيتها، بحيث أن ما من شيء فيها بعد مشدود إلى جذره، ولا حتى روحها إلى جسدها. أن أعيش على المستوى الشعري للأشياء، لا على مستوى المظهر والأزياء، هي وسيلتي في النجاة والدفاع عن الحياة، عبر إيقاظ جمالها الداخلي مقابل ما تتعرّض له مظاهرها من عمليات تشويه مستمرة. حاجتي إلى الشعر تتعدّى فعله إلى كينونته؛ تتعدّى خاصيّته في الإمتاع إلى كونه الخلاص. أنا أعيش بالشعر.
* هل اللغة مفتوحة بالنسبة إليك أم أن لديك مفردات خاصة تعتمدينها في معظم شعرك؟
أرى أن لكل شاعر قاموسه الشعري الخاص، وطريقته الفريدة في استنطاق اللغة ومشاكستها. علماً بأن مفردات هذا القاموس هي حُكماً مما ترسّخ في لاوعيه. إذ أنه داخل لاوعي الشاعر ثمة مختبر للغة، تجري فيه عمليات كيميائية معقّدة للحصول على التركيبة اللغوية التي تلائم حساسيته الشعرية، بحيث تتناغم طاقته التعبيرية وطاقته الشعرية في طبيعتهما، ويتجسّد الإحساس بالكيان اللغوي الذي يوافق حاجة الشاعر وطموحه، فلا تكون هناك مفردات نافرة وخارجة عن طبيعة كينونته الشعرية. والواقع أنّ واحدة من مَلَكَات الشاعر، هي قدرته اللاوعية هذه، على انتقاء مفرداته الخاصّة من اللغة والحياة، لخلق لغة أخرى من اللغة، وحياة أخرى من الحياة، تجسّدان إلى حدّ بعيد ما تتمثّل بهما شعريته في وعيه. مسألة اختيار الشاعر لقاموسه الشعري ليست صعبة كما قد تبدو. إنها شبيهة باختياره للّونِ الذي يتلاءم وذائقته. المعادلات والحسابات التي تترجم آلية إحساسه بالمفردة، تجري في مطرح خارج عن وعيه وسيطرته، هو نفسه المطرح الذي تنشأ فيه ذائقة الإنسان وبوصلته العاطفية. فنحن لا نعرف لِمَ نحب ما نحب وكيف نختار ما نختار. لكن الصعوبة تكمن في اختياره لمفردات قصيدته. إذ على الشاعر في مرحلة ثانية أن يعود ليختار من بين مفردات قاموسه نفسه مفردات قصيدته. ولو عدتَ إلى أشعاري، ستجد أن لديّ لغتي ومفرداتي الخاصة، لكن هذه المفردات بالطبع لا تجتمع كلها في القصيدة الواحدة، وإنما تتوزّع وتدور ضمن سياقات وصور مختلفة. وعليه فنحن نبني قصائد مختلفة من لغتنا الخاصة الواحدة، في حين نبني لغتنا الخاصّة من لغة عامة تستبطن لغات مختلفة، ولذا، فالقصيدة دائماً هي الأصعب من لغتها. بمعنى أنّ العين ليست على لغة الشاعر ومفرداته الخاصة بقدر ما هي على طريقة توليفه لهذه المفردات في سياقات وصور شعرية تكون دائماً مبتكرة بالرغم من كونها مشغولة بلغته ذاتها. اختيار مفردات القصيدة يحصل ضمن آلية كتابة لا يتحكّم فيها اللاوعي وحده، كما هي الحال في انتقاء مفردات القاموس الشعري، وإنما الوعي أيضاً. علماً بأن الوعي مطلوب لوعي الإحساس وليس لفهمه أو تفسيره. وعليه لا يتمّ الوقوع على مفردات القصيدة الواحدة بالتلقائية التي يتمّ بها الوقوع على مفردات قاموس الشاعر الشعري كله. ولكي نتمثّل طبيعة ما يجري في وعينا ولاعينا في آن معاً، علينا ذكر الكثير من المعطيات التي تتحكّم في عملية انتقاء المفردة الواحدة، علماً بأنه غالباً ما لا تكون للوعي طاقة اللاوعي على استيعابها كلها دفعةً واحدة. فهناك قوة المعنى في المفردة وقدرتها الدلالية. وهناك إيقاعها ومدى ملاءمته وقوته التأثيرية. وهناك قدرتها على التجسيد أو التجريد. وهناك نوع قماشتها: خشنة، ملساء، شفافة، هشّة، طرية، يابسة، جارحة، صلبة. وهناك عدد مراياها وقابليتها للتأويل. وهناك طبيعتها التكوينية: ترابية، نارية، هوائية، مائية. وهناك عمقها وكمية النور والظلمة فيها: بريقها، ضبابيتها، غموضها. وهناك مذاقها؛ مدى عذوبتها أو مرارتها أو دبقها أو ملوحتها. وهناك وزنها؛ هل هي ثقيلة وأرضية أم خفيفة وأثيرية؟ وهناك حركتها؛ هل هي عنيفة أم هادئة؟ سريعة أم بطيئة؟ فيها حيوية أم بليدة؟ وهناك كيفية استخدامها وحجمه وعمره؛ هل هي مفردة متداولة أم نادرة؟ وهل تأتي في سياق علمي أو شعري أو نظري أو سوقي الخ...؟ وهل هي قديمة أم عصرية؟ وهل هي أساسية في بناء المعنى أم ثانوية؟ وهناك ما تضمره من بعد أخلاقي أو ديني أو إجتماعي أو نفسي؛ هل هي بريئة، جريئة، تقليدية، خلاعية، وقحة، روحانية، جسدية، ذاتية، متعالية، متضعة، نرجسية، سادية، مازوشية الخ...؟ وهناك البعد الحسّي والغرائزي فيها ومدى إيحاءاها الجنسي. وهناك قوة حضورها وطبيعته؛ هل هي من النوع الذي يرسخ في الذهن أم العابر، وهل حضورها مادي أم طيفي؟ وهناك ربما بعد أكثر بكثير.
* هل تشكّل اللغة جداراً أمام صورتك الشعرية؟
الكتابة الشعرية بالنسبة إليّ تعتمد على اللاوعي والوعي معاً كما أسلفت، على الحدس الباطني والشكّ، على التدفق المتأمل والتأمل المتدفق. ولكن كل شيء يحدث في وقت واحد وبطريقة متشابكة، بشكل لا يجيز لي تجيير القصيدة لا إلى الوعي ولا اللاوعي وإنما إلى وضعية بينهما شبيهة بحالة السُكْر التي يكون فيها الشخص واعياً لسُكْره. تولد القصيدة بمفرداتها ومعانيها من القلب والخيال والذاكرة والذهن والشرايين والحواسّ في وقت واحد، حتى لأشعر بأنها تولد من جسدي كله، وبأني أتصبّب بها وأصابعي تقطّر بدمها. وهكذا فأنا أسبح في دم القصيدة وقت ولادتها، وتتملّكني نشوة عارمة مصحوبة بالألم. الإصطدام بجدار اللغة بالتأكيد يحصل، وإلاّ لِمَ هذا الألم كله، ومن بعده هذه النشوة كلها؟! من الصعوبة بمكان أن يستطيع عقل الشاعر الإحاطة الكاملة والدقيقة بالكيفية التي يكتب فيها. فثمة تفاصيل كثيرة تظلّ غامضة ولا يسع الشاعر التقاطها فيما هو منشغل بالكتابة نفسها عن مراقبة تخلّقها. ثم إن للكتابة أحوالها المتعددة التي تتشكّل فيها والتي قد يعاينها الشاعر كلها أو بعضها حتى أثناء كتابته القصيدة الواحدة. سأغامر هنا وأسجّل الحالة الأكثر تكراراً من بين أحوال الكتابة لديّ والمتعلقة بولادة الصورة الشعرية. الذي يحصل أولاً هو أني أرى صورة ما في باطن عيني. أراها تماماً كما الرؤية في الأحلام، لكنها سرعان ما تتفلّت مني، فأعود لأرى في رؤيتي، حيث تتوغل رؤيتي الثانية داخل رؤيتي الأولى تماماً كما نستذكر الأحلام. الصورة الضبابية التي تتشكّل حينئذ توازيها لغة ضبابية أيضاً. وإذ تمنحني الحالة الضبابية هذه، حرية تخيّل ما أراه على أكثر من وجه، تكون اللغة أيضاً قد بدأت تتشكّل على أكثر من وجه. وغالباً ما لا أستقرّ على الوجه الأول للصورة أو للغة، وإنما أترك لطاقتي الشعرية أن تولد صورة من صورة ولغة من لغة إلى أن تصل إلى الصورة الأبعد في الخيال والذاكرة عن الصورة الأصل، والمتشكّلة أيضاً بالمفردات الأبعد عن بال اللغة الأصل. اصطدامي بجدار اللغة والذهاب فيها إلى أبعد مما توحي بأنها قادرة على احتماله، لا يتمّ بدافع تغريب اللغة عن نفسها - وإن بدا الأمر كذلك - وإنما بدافع تقريب اللغة مما يعتمل في الخيال والإحساس، والبحث عن قدراتها خارج كونها وسيلة نقل بين الأذهان؛ قدراتها في أن تجسّد الإحساس إلى حدّ أن تكونه لا أن تقوله. قدراتها في أن تكون خيال نفسها، وفي أن تتمظهر خيالاتها تماماً كما تتمظر الخيالات في المخيلة، فتخرج من دائرة المعقول واللامعقول، لتعيش بحرية المخيلة بغاية الحرية نفسها، والإنعتاق من العقل، وليس بدافع أنها تتحدّى العقل. ولكي تكون اللغة مخيّلة، لابدّ أن تتجسّد المفردات فيها في وصفها صوراً تُدرَك بالرؤية وليست مجرّد إشارات ذهنية تُدرَك بالعقل. أنا أحاول أن أجعل مفردات الصورة الشعرية صورة لها وليس تفسيراً لها، مثلما أحاول أن أمنحها إحساسي وأجعله قلبها النابض بي، ولا أكتفي بأن تكون فقط مسميات بديلة لإسمه. أحياناً كثيرة أشتغل على القصيدة مرّات عدة، مولية كل مفردة فيها عنايتي البالغة. ولأن لديّ ولعاً بالتكثييف والإيجاز أجدني أحياناً أعيد بناء الصورة الشعرية بأقلّ عدد من المفردات وبأكثرها قدرة على التجسيد، إلى أن تصبح كل مفردة فيها ذات قيمة مفصلية لا يمكن الإستغناء عنها أو استبدالها. ثمة مفردات لا يسعنا معرفة سطوة حضورها وما تكتنزه من إشراقات إلا حين نتركها في عتمة القَصْد وحدها.
* يقول الشاعر العراقي باسم المرعبي: "إن آمال نوّار إسم يسطع إزاء الركام الذي يغتصب إسم الشعر وينتهكه، هي وعْد بمعجزة بل إنّ قصائدها لمعجزات صغيرة من الدفء، ممسوسة بشغاف القلب". كيف يكون شعورك حين تقرأين كلاماً من هذا القبيل؟
لقد فاجأني كثيراً هذا الكلام، ولاسيما أنه أتى من شاعر لم أكن أعرفه آنذاك، وبعد مدة قصيرة فقط منذ بدأت النشر في المواقع الإلكترونية. لستُ ممن يطربهم المديح، ولا ممن يدّعون ذلك لكسب المديح. والحقيقة أن الثناء غالباً ما يكون ثمنه شعوراً بالمسؤولية، وَقْعه الثقيل في النفس يطغى على وقع أي ازدهاء عابر. لكنّ كلام الشاعر باسم المرعبي أطربني وأفرحني كثيراً، إذ كان فيه من المبالغات الجميلة ما أنقذني من تصديقه، ومما يترتب على ذلك من مشاعر. ما سرّني ليس الكلام نفسه بقدر ما هو أن يكون شاعر قد تواصل مع نصّي وقرأه بهذا الحبّ الذي حدا به إلى حدّ الكتابة عنه. باسم تحدّث عن ركام ومغتصبين لإسم الشعر، وهذا صحيح. الشاعر عموماً يهمّه أن يقرأه مَنْ يغار على الشعر ومَنْ لديه الحسّ النقدي الواعي والسليم، للتمييز بين مستوى ما يُكتَب، فما بالك إذا كان هذا القارىء شاعراً أيضاً، ولديه الهواجس ذاتها للذي يقرأه. معرفتي اللاحقة بباسم جعلتني أدرك تماماً طبيعة حساسيته الشعرية التي قرأني من خلالها، والتي جعلته يتبادل الأنخاب مع نصوصي فيما يضع فيها الكثير من ذاته. نحن إذا أحببنا شيئاً قد نراه مقياساً للجمال، معجزة، أسطورة وربما أكثر من ذلك، وليس لأحد أن يحبّ فعلاً ولا يفعل ذلك. عُذْرنا أنّ الشيء الذي نحبّه غالباً ما يُلهينا حبُّه عن معرفته. ثم إنه ما من شيءٍ محبوب، حجمه في الأرض يساوي حجمه في القلب. وحده الذي في السماء أكبر من كلّ حبّ.
آمال نوّار، شاعرة ومترجمة لبنانية مقيمة في الولايات المتحدة الأميركية.
لها مجموعتان شعريتان:
"تاجٌ على الحافّة" دار الفارابي 2004
و"نبيذها أزرقُ ويُؤنس الزجاج" دار النهضة العربية 2007.
تُرجمت بعض قصائدها إلى اللغات: الإنكليزية، الفرنسية، السويدية، الإسبانية والكردية.
الراي
فبراير 2008