حاوره: جهاد الترك
اسكندر حبش من أبرز الشعراء الذين تفتحوا على الكتابة الشعرية في الثمانينات. تلك الفترة التي تعتبر البداية الحقيقية لتحولات عميقة ومصيرية على مستوى تغيير البناء الايديولوجي والفكري في لبنان والوطن العربي. شهد هذا الجيل زوال ايديولوجيات كونية بدت "تاريخية" فعلاً في زمانها. اسكندر حبش واحد من أولئك الذين قاربوا هذه المسألة باطلاع واسع على الشعر العالمي في منابعه الأساسية، كتابة وترجمة، لم يغب عنها اهتمام مماثل في تعريب عدد من ابرز الروايات العالمية التي ساهمت في تشكيل هذا الجانب الحيوي في لعبة الكتابة المعاصرة. من بينها، رواية معربة صدرت له مؤخراً بعنوان "شغفها" للكاتبة فيرونيك اولمي، وعمل معرب آخر للكاتب التشيكي ياروسلاف سيفرت بعنوان "ان تكون شاعراً".
ديوانه السادس صدر حديثاً بعنوان "الذين غادروا" عن "دار النهضة العربية"، يكمل طريقاً تحمله الى صمت اللغة حيث يبدو الكلام أكثر عرضة للتعرية، ليبدو أكثر هشاشة وانكساراً. يعتبر ان سيرته في النهاية هي القراءة وليس اي شيء آخر. يعتبر ان نصه متفلت من كل تصنيفات المدارس الأدبية. ويأخذ، في هذا السياق، على مجلة "شعر" اللبنانية التي صدرت في الخمسينات الماضية انها احجمت عن طرح مسألة الحياة، وتخلفت بذلك عن مجلة "شعر" العراقية. وفي هذا السياق ايضاً، لا يبدي اعجاباً يذكر بالرواية اللبنانية في أشكالها الحالية.
الآتي نص الحوار معه:
من المعيب أن نجد أسماء كبيرة لم تترجم بعد على حين أن أسماء عادية نقلت الى لغات عديدة...
*ديوانك الجديد "الذين غادروا" هو السادس شعرياً، كيف ترى علاقته بأعمالك السابقة من حيث التجربة واللغة، الخ...؟
ـ من الصعب دائما على الشاعر أن يتحدث عن تجربته. هذا ما يقال عادة. ومع ذلك سأحاول، هنا، الحديث عن هذا الجانب الذي أعيه في كتابتي. صحيح أنني حين أكتب لا أميل ـ مسبقاً ـ إلى تحديد سمات ما سأفعله، إذ، في اللحظة الأولى، تبدأ الأمور صُدفة. بالتأكيد لا أتحدث عن الوحي، إذ أنني أفرد مساحة كبيرة لوعي ما أفعله، على الرغم من أن القصيدة عندي تبدأ، في أغلب الأحيان، بكلمة، بصورة، وأحيانا بهذا الصمت الذي أكون فيه. لكن ما إن تمرّ بعض الأسطر ـ التي قد أشطبها لاحقاً ـ حتى تبدأ الأمور بالاستقامة، أقصد، أنني أجد النبرة، المناخ الذي يحدد الاطار العام. هذا المناخ هو ما أبحث عنه. بدأت في ذلك منذ مجموعتي الثالثة "نقطة من ليل". فإذا كانت المجموعتان الأوليان، تضمان قصائد متفرقة، إذا جاز القول، أجدني حاولت مع "نقطة من ليل"، أن تبدو مقاطع الكتاب موحدة، بمعنى أنها تنتمي إلى الشريان الكتابي عينه. أقول مقاطع، لا قصائد، أي أبحث عن هذا التسلسل من البداية إلى النهاية. كأنني لا أريد أن أكتب هذا التجزؤ. وهذا ما حاولته في "تلك المدن" و"أشكو الخريف".
مع "الذين غادروا"، حاولت الخروج من هذا المفهوم، وإن لم أغادره، بمعنى أن الجزء الأول ـ وبالمناسبة تقع المجموعة في عدة أقسام ـ ينتمي إلى هذا التسلسل، إلى فكرة المقاطع هذه، بينما الجزءان الثاني والثالث، عبارة عن قصيدتين طويلتين، في حين أن الرابع هو مجموعة من القصائد. لكن ومع اختلاف الوسيلة، إذا سمح لي قول ذلك، حاولت أن أبقى ضمن المناخ الواحد الذي يشد كل قسم.
من السهل القول إن ما يجمع هذه المجموعة بسابقاتها هو شاعرها، أي أنني كاتبها، بيد أنني أعتقد أن ما أحاوله هو الذهاب أكثر إلى صمت الأشياء، إلى صمت اللغة. لدي رغبة في تعرية الكلام ليبدو أكثر هشاشة وإنكسارا. لا أعرف إن كنت نجحت، ولكن هذه هي رغبتي. تقتلني هذه اللغة المنتصرة، هذه اللغة الميتافيزيقية ـ كي لا أقول شيئا آخر ـ أريد كتابة تصل إلى أقصى درجات الهشاشة، تماما مثل كاتبها الواقف على أبهة الانكسار.
القراءة أولاً
*أنت من قلة لديها اطلاع واسع وخصب على الشعر الفرنسي والشعر العالمي وسواهما من الرواية والقصة... من الذي التقيته من الشعراء ومن عنده وقع خاص عندك...؟
ـ شكراً في البداية إذ تجدني هكذا. ويؤثر بي قولك فعلاً. دائما كانت القراءة بالنسبة إليّ، أجمل من الكتابة. في الواقع، أعتقد أننا نكتب لأننا قرأنا ذات يوم، لأننا التقينا بأشباه لنا في كلمات الآخرين. من هنا لست أبدا مع نظرية قتل الأب. أجدها مضحكة، في ما يخص الكتابة. كتبت لأنني قرأت، لأن شعراء وكتابا آخرين منحوني هذه القدرة، هذه الثقة لأن أكتب.
من هنا، عديدون هم الذين التقيت بهم. وبالمناسبة، ليس معنى هذا أني لا أحب إلا الذين يشبهون كتابتي، بل على العكس، غالبا ما أميل إلى الذين يأتون من مناطق كتابية أخرى. بيير ريفردي مثلا، لا يزال لديه وقع خاص في نفسي. جان تورتيل أيضا. ولا أنسى فرناندو بيسوا. لا أشبه أي واحد منهم، ولكن فتحوا لي آفاقاً ما كنت لأعرفها لو لم أقرأ لهم. هناك غيرهم بالتأكيد. وهم كثر. سيرتي، في النهاية، هي سيرة قراءة، ولا شيء آخر.
*يعيش الشعر اللبناني اليوم ما بعد مرحلة الأفكار المقننّة والإيديولوجيا وقضايا والالتزام، هل تظن أن غياب أو ضعف هذه العناصر أثرت سلباً أم إيجاباً على تجارب شعراء الثمانينيات والتسعينيات؟
ـ أولاً، وهذا أمر بديهي، لست معجباً بكل تجارب الثمانينيات والتسعينيات، اللبنانية والعربية والأجنبية على حد سواء. هناك شعراء أحترمهم وأحبهم جدا، وهناك تجارب لا تعني لي شيئا. لكن ثمة حسنة وحيدة، على الأقل أجدها كذلك، هي غياب هذه الإيديولوجيا المقننة كما تقول في السؤال، وإلى حد كبير.
في أي حال، ثمة جزء كبير من هذا الشعر، بحاجة إلى إعادة تحديد وقراءة، وأظن أنه لن يبقى منه عندها الكثير. ثمة خطأ "بنيوي" في فهم حرية الكتابة: عديدون يأتون إلى القصيدة، من جهلهم بالشعر. لا أظن أن معنى الحرية كتابة الجهل. والأنكى أننا نتغنى بذلك، بل هناك من يُنَظِّر لذلك. أي يصبح هذا الأمر بمثابة إيديولوجيا أخرى. أمام ذلك، يبدو التأثير مزدوجاً: هناك تأثيرات سلبية وبخاصة حين تجد أن كميات هائلة من المجموعات تشبه بعضها، من دون أن تحاول البحث عن مناخ خاص بها، ومن جهة ثانية، وينبغي الاعتراف، هناك شعر لا تستطيع إلا أن تحييه وتحترمه.
لا يتجاوز عمر الشعر اللبناني المئة عام ولكن في هذه المدة عرف كل الاتجاهات الشعرية تقريبا، من الرومنسية إلى الرمزية إلى السوريالية إلى النصية، هل مضى الزمن على هذه التجارب خصوصا تجارب الرواد وماذا تبقى منها اليوم بعد زوال مختلف الأفكار والتجارب التي تبناها هؤلاء سواء على الصعيد الشعري أم الفكري أم اللغوي، الخ...
ـ أهمية الشعر اللبناني أنه امتد في كل الاتجاهات. شئنا أم أبينا، للبنان موقعه المميز في الشعر الحديث. وأقول ذلك بدون أي شوفينية. لم تكن لهذه الحداثة الأدبية أن تستقيم بدون لبنان ودوره. بالتأكيد ثمة تجارب ستسقط مع مرور الزمن، هذا لأنها كانت تجارب مجانية، لا تملك أي خلفية تستند عليها. وثمة تجارب ستدخل في التاريخ الأدبي، أي حين سنحاول بعد عقود أن ندرس تاريخ الشعر، فلا بد لنا أن نشير إلى هذه التيارات التي كانت سائدة.
لكن، برأيي، الشعر أبعد من ذلك كله. النص هو الأبقى. هذا النص المتفلت من كل مدرسة، الذي أسس "مدرسته" الخاصة، أي أسس حضوره الكتابي. من المضحك أن نقول اليوم إنه نص رومنسي أو سوريالي أو واقعي. الكتابة، كما أراها، تغرف من كل الاتجاهات ولا تتقيد إلا بأمر وحيد:
جودة النص.
أما ماذا تعني كلمة رواد؟ فعلا لا أعرف تحديدها. أحيانا كثيرة أشعر بأنهم "رواد فضاء"، لكنهم لم يحطوا على القمر ولم يحلقوا في الفضاء الخارجي. بقوا عند حدود العلوم النظرية، على الورق من دون أن يدخلوا في التجربة.
مجلة "شعر"
*قصيدة النثر هي المعلم الأساسي في التعبير الشعري اللبناني وقد حسم الجدال حولها منذ نصف قرن. كيف تجد اللقاءات حولها في بيروت أو الكتابات وكيف تتمظهر قصيدة النثر ما بعد سوزان برنار التي تبناها بعض شعراء مجلة شعر؟
ـ أوافقك بأن الجدل قد حسم، إذ غالبية التجارب تنتمي إلى قصيدة النثر، إذا جاز التعبير. لكن ما هي قصيدة النثر؟ حين وضعت سوزان برنار كتابها استندت إلى تجارب كتابية من بودلير وحتى أيامها. حاولت أن تقرأ هذه التجارب في ظل معطيات ثقافية واجتماعية وفكرية خاصة بلحظتها. رواد "شعر"، ترجموا أفكار سوزان برنار وحاولوا أن يكتبوا وفقها، وهنا "عجيبة العجائب". ولا مرّة في تاريخ الأدب، سبقت النظرية، التجربة الكتابية. نحن نعرف، أن على النظرية أن تولد من قراءة التجربة. من هنا، يبدو الأمر معهم، وكأنه وصفة طبية، علينا صرفها من أقرب صيدلية.
على سبيل المثال، حين جاء الفراهيدي ليضع بحور الشعر العربي، استند إلى كل التجارب التي سبقت، ومنها استخرج الأوزان. لذلك، لا يمكن استخراج الصيغة قبل أن نكتب. من الكتابة، علينا أن نقرأ الصيغة.
ومع ذلك، وبالرغم من كل تحفظاتي على "شعر"، أجد أنها لعبت دورا في تعميم الحرية. وهذا ليس بالشيء السهل. أقول تحفظات، لأن أزمتها مضحكة: "جدار اللغة". لم تنجح "شعر" في طرح مسألة الحياة، مثلما حاولت "الشعر" العراقية. وهناك مقطع جميل بهذا الخصوص لفاضل العزاوي في كتابه "التجربة الحية"، وهي فكرة أوافقه عليها. أعتقد أن ثمة مجلة لبنانية كان يمكن لها أن تلعب هذا الدور، "مجلة تحولات". لكن المشروع أجهض ولا أعرف لماذا. في أي حال، إن العددين اللذين صدرا منها يكفيانني.
*الشعر العربي اليوم كأنه يمرّ بمنعطفات ما، انتهاء مرحلة مهمة وملامح لمراحل معينة. هل ترى أن هذه الملامح تشكل معا حركة شعرية ما كما كان الحال في الستينيات والسبعينيات؟
ـ الزمن تغير. أجمل ما في شعر اليوم، أنه لا يريد أن يستعيد تجربة الستينيات والسبعينيات. حتى أن كثيرين من شعراء تلك المرحلة عزفوا عنها وتخلوا عن أفكارهم، ويحاولون كتابة أشياء مختلفة.
أما هل يستطيع الشعر اليوم أن يشكل حركة؟ فعلا لا أعرف، كيف تكتب وكل "مجانين الله" يحيطون بك. بدلا من أن نبني مجتمعا حديثا، قادتنا المشاريع السياسية وغيرها إلى بناء مجتمعات متزمتة. هل يستطيع الشعر مواجهة ذلك؟ لا أظن أن دوره يكمن هنا. ومع ذلك، يلعب الشعر دورا، على الأقل أدبيا. هناك حركة شعرية جديدة، وأعتقد أنها ستؤثر، بطريقة ما.
*يقال إن موقع الشعر اليوم في العالم يتضاءل لحساب بعض الفنون كالرواية والتلفاز، الخ...هل تظن أن هذا القول بتضاؤل الشعر ودوره وحضوره في العالم وبخاصة في فرنسا دقيق؟
ـ لم يبع أرتور رامبو سوى نسخة واحدة من كتابه. وبودلير لم يعرف عنه ـ في ذلك الوقت ـ إلا بصفته مترجماً لأقاصيص إدغار ألن بو، قبل أن تمنع "أزهار الشر" ويدخل المحكمة. والأمثلة متعددة على ذلك.. يكفينا تحميل الشعر أكثر مما يحتمل. أهميته اليوم، أنه لا يبحث إلا عن الشعر نفسه. لماذا نبحث دائما عن أدوار؟ أعتقد أن الشعر حاضر لكن القراء غائبون. ولا مرة كان القراء حاضرين. من قال إن الشعر العربي زمن الجاهلية كان يتمتع بقراء؟ نعرف أنه كان فن القصور وقد انسحب ذلك إلى مراحل متأخرة. ما نرميه على الشعر ليس سوى استيهامات.
هوس الترجمة
*كأن الشاعر والكاتب العربي يئس اليوم من إمكانية حضور يتمناه في بيئته العربية سواء من حيث الرواج أو من حيث الواقع الثقافي ويتطلع إلى الخارج ويكتب للخارج أكثر مما يكتب لنفسه وهذا جديد بالنسبة إلى الشعر العربي ويعيدنا إلى مسألة شعر المناسبات أو كتابة المناسبات، أي تكتب لجمهور آخر بلغة قابلة للترجمة وليس بلغة طالعة من التجربة أي لجمهور جاهز. ما رأيك؟
ـ من يبحث عن الرواج، فليذهب ويغنّ ويرقص في الملاهي الليلية. أفهم الشعر بطريقة أخرى، لا علاقة لها بهذا الأمر. أوافقك الرأي بأن هناك من يكتب ليترجم. لكن هل سيجد حقا قراء له في لغة أخرى؟ قليلة هي الأمثلة على هذه "النجاحات" إذا جاز التعبير، وهي بالتأكيد ليست نجاحات شعرية.
لكنك تشير إلى موضوع خطير: الكتابة بعيدا عن التجربة الطالعة من عمق الذات. هذا واضح عند الكثيرين. لست ضد أن يترجم أدبنا العربي إلى لغات العالم، إذ هناك من يستحق أن يقرأ، لكن أن تتحول الترجمة إلى هوس، فهنا المشكلة الكبرى. والأعظم أن نفكر بما يريد الآخر منا قبل أن نبحث عما نريده نحن من أن نكتب.
*أنت من أبرز المترجمين للشعر والرواية، لماذا تترجم ولمن تترجم، تحت الطلب أم إجلالا لهؤلاء الكبار أم خدمة للثقافة أم خدمة لنفسك؟
ـ لست مترجماً محترفاً، بمعنى أني لا أستطيع ترجمة كل شيء. أترجم ما أحبه. ليست الترجمة عندي سوى امتداد لما أكتب. أحاول أن أنقل نصا يعجبني إلى لغتي، عندها أشعر وكأني كتبت هذا النص.
هل قلت "كتابة نص"؟ هنا تكمن فكرتي بأسرها عن الترجمة الشعرية.
أميل كثيرا إلى أن يكون مترجم الشعر شاعراً، كي يعرف كيف يقبض على اللعبة الشعرية الموجودة عند الشاعر الآخر، وإلاّ سيبقى ما يقدمه، مجرد نقل، حتى وإن كان هذا النقل سليماً ومتماسكاً إلى أقصى درجاته. أيّ أبحث عن كتابة أخرى عبر النص المنقول، وكأني أريد كتابة قصيدة، تحمل الفكرة عينها، والجُمل عينها، والمناخ عينه، لكن بلغة أخرى، هي لغتي.
أميل كثيراً إلى الترجمة الشعرية. لأقل أعشقها. ربما لأنها تجعلني أواجه ذاتي، لغتي، وبشكل مستمر، لا يتوقف. كأن كلّ نص، بتأويلاته المتعددة، يمثل لي فرصة، لأن أعيد التفكير بكلّ شيء. ثمة سبب آخر: بما أنني لا أستطيع كتابة الشعر بشكل يومي، فأنا أجد في الترجمة الشعرية، سبيلا آخر للكتابة، للتمرين الدائم والمستمر، في القبض على مناخ القصيدة، على استنطاق هذا الكامن في داخل الكلمات واللغة. لأن الترجمة هي أيضا مساءلة مستمرة للغة والكتابة.
لماذا الترجمة الشعرية؟ غالبا ما يقدم لنا الشعر هذا التناقض: إنه حاضر داخل حميمية الكائن وفي خاصيّة لغته وثقافته الأم، كما أنه ـ في الوقت عينه ـ يشكل مكان ومناسبة تبادل وتقاسم، مكان "حوار مطلق"، فيما لو استعملنا عبارة الشاعر الفرنسي رينيه شار. غالبا ما ينجح الشعر ـ أيضاً ـ بهذه "الأعجوبة": يجعلنا نسمع صوتا لا يُختزل بصوت آخر، في لغة مفتوحة على الكوني، كما فاعلا في هذا الذهاب والإياب المستمر، المثير للدُوار، بين "الأنا" والآخر. يستطيع الشعر أيضا، وفي النهاية ـ على الرغم من أنه يتحدث جميع اللغات واللهجات ـ أن يُشكل هذه "الاسبيرنتو" المثالية التي حلمت بها جميع العصور من دون أن تستطيع تحقيقها. بمقدوره ذلك لأنه يجعلنا نسمع ـ تحت غرابة كل لغة ووقعها وخاصيتها ـ لغة أولى ومشتركة، لغة الأعماق الإنسانية "المترجمة من الصمت" وفق ما استطاع التعبير من خلاله. من هنا تأتي ترجمة الشعر ـ وبعيدا عن التنويعات الألسنية المتعددة التي ترتديها، هنا أو هناك، فوق هذا الكوكب ـ كأنها وسيلة للالتحاق بهذا المكان الكوني والجذري الذي تنبثق منه كلّ عبارة وحيث تعترف الأسرار لبعضها البعض، من قرن إلى آخر ومن بلد إلى بلد ثان. من هنا ولإكمال هذا الدرب ـ أي هذا القرار الذي يعني أيضاً الأمل القوي في إيجاد إقامة مشتركة لكل البشر.
هل قلت إقامة؟ ثمة جملة أحبها للشاعر الفرنسي يوجين غيوفيك، وقد أصبحت عنوان أحد كتبه، وهو كتاب حوارات أجريت معه حول الشعر والكتابة والحياة والقصيدة. عنوان الكتاب: "العيش في الشعر". يمكننا فعلاً أن نعيش في الشعر، على الأقل، أن نعيش في هذا التماس اليومي مع قراءة القصائد، إن لم ننجح في عيش الشعر بمختلف أشكاله الحياتية الأخرى، بسبب تردي هذا العالم الذي ينهار حولنا. ربما هنا، يكمن هذا السبب الإضافي في عيش القصائد، في تنفسها، لتسحبنا إلى خارج ولو كنّا نبنيه بأحلام، ولو كنا نتيقن أن هذا الوهم ليس سوى وهم آخر. على الأقل، ليكن هذا الوهم الجميل بديلا من أوهام الآخرين التي تدفعنا إلى الابتعاد عن كل شيء. صحيح أن الشعر لن يغير العالم، ولن يغير أي شيء، لكن يكفي أن يخلق هذا السراب الذي سنسير إليه.
هكذا هي ترجمة الشعر ـ أيّ هذا الشكل الآخر من الكتابة ـ التي تسمح لنا أن نتجول بدون توقف، في ما وراء الحدود الفردية والجماعية. من هنا اختيار هذه القصائد "من العالم"، أي الميل إلى اعتبار أن الشعر، في جوهره، هو مكان هذا اللقاء الخاص الذي تجهد في تكوينه ـ وفي قلب الخاصيّات الاجتماعية / الثقافية ـ علاقة حيّة، دينامية، بين مختلف أنواع الوعي. لذلك كلّه يبدو الشعر ـ مثلما يقول الشاعر غينادي إيغيف ـ "الجوهر الحيّ للأخوة الإنسانية، انه عمل ولغة هذه الأخوة".
تكثر هذه الأيام الترجمات الشعرية، ربما أكثر من الأول، العامل الجديد فيها أن بعضهم يختار من الفرنسيين ما قد يؤمن له علاقات "بيزنس" أو لإقامة علاقات ما، أي ترجمة أيضاً لتوظيفها في هذه العلاقات، وكما تراني يا جميل أراك...
ـ إنها سمة العصر. لا أعرف إن كان علينا القبول بها، ولكن هذا ما يحدث اليوم. حتى أننا لم نعد نترجم، بحثاً عن الجديد والمدهش الذي يوسع مداركنا للقصيدة. ننكب على ترجمة من يستطيع أن يدخلنا إلى مجتمعات أخرى. هي مصالح، بيد أني مؤمن بأن ذلك كله سينقضي. لن يبقى سوى النص. هذا هو الحكم الأخير.
ترجمة الشعر اللبناني
*كأنما اليوم موسم اكتشاف وترجمة الشعر اللبناني إلى اللغات الغربية والأجنبية وخصوصاً الفرنسية، ما رأيك في المعايير التي توضع لاختيار هؤلاء الشعراء والكتاب؟
ـ مثلما يترجم البعض، إلى العربية، من يستطيع أن يدخل معه في علاقات مصالح، أظن أن بعض الغربيين ينحون المنطق عينه. لكن يجب أن نضيف أمراً آخر: بالتأكيد إن الغربيين على جهل كبير بكل تنوع أدبنا، وهم لا يعرفون من الأسماء إلا ما يهمس بها أصحابهم. هناك لوائح جاهزة، بأسماء تجدها حاضرة في كل مكان. من المعيب أن نجد أن أسماء كبيرة لم تترجم بعد، في حين أن أسماء عادية نقلت إلى العديد من اللغات. علينا الاعتراف أن الأدب دخل في الحسابات الشخصية، ليس معنى ذلك أن المشروع صحي، لكنه أصبح أمراً واقعاً. من هنا، لا تستطيع إلا أن توجه التحية لمجلة مثل مجلة "بانيبال" لأنها تحاول فعلا أن تقف على الحياد، وأن تنقل هذه الصورة المتنوعة والبانورامية عن أدبنا إلى الانكليزية.
*أنت قارئ جيد للرواية العربية والأجنبية وناقد لها، كيف تراها اليوم في لبنان والعالم العربي؟
ـ استطاعت الرواية في العالم العربي أن تخطو خطوات كبيرة في بلورة كتاباتها. وكمتابع، أستطيع أن أقول إن روايات عديدة، معاصرة، تفوق بعض ما يكتب في الغرب، وبخاصة قسم كبير من الرواية الفرنسية على سبيل المثال. لكن علينا الوثوق في أنفسنا بشكل أكبر، مثلما علينا أن لا ننجر كثيرا وراء نجومية البعض. أما في ما يخص لبنان، بصراحة، لست كثير الاعجاب بالرواية اللبنانية. وإذا أردت، أحب يوسف حبشي الأشقر وعلوية صبح ونجوى بركات. أعرف أن كلامي هذا سيثير حنق الكثيرين. لكن ما باليد حيلة.
المستقبل
الاربعاء 16 كانون الثاني 2008