بيروت ـ القدس العربي :
الشاعر اللبناني إسكندر حبش من الأسماء الشعرية الراسخة في المشهد الشعري اللبناني والعربي منذ باكورته بورتريه لرجل من معدن وزاده رسوخاً مجموعاته التالية حتي مجموعته الجديدة الذين غادروا التي هي موضوع حوارنا معه إضافة الي ترجماته:
*في جديدك الذين غادروا (دار النهضة العربية)، أستعير من مقاربة الشاعر محمد علي شمس الدين تحت عنوان إضافة الألم لكتابك، وأشاركه الإضاءة علي وفرة الألم ونضجه في الذين غادروا . هل للألم علاقة باختمار التجربة واستوائها علي الحزن المصفّي، من دون مخاتلات اللغة، ونزق البدايات واللعب اللغوي المجاني؟
كان ذلك في ثمانينيات القرن الماضي، حين خرجنا أنا وشبيب الأمين من نزق ميكروب ـ نشرتنا الأدبية التي شهرناها بوجهنا قبل أن نشهرها بوجه الآخرين. في هذه البدايات، وكما كل البدايات الممكنة، ثمة الكثير من النزق، وإن كان يعتبره البعض نزقا مجانيا بمعني من المعاني. في أيّ حال كان نزقا مفيدا ، إذا جاز التعبير، إذ خلصني من الكثير من القوالب الجاهزة التي كانت تكبلنا، في تلك الفترة، التي أعقبت اجتياح بيروت من قبل جيش العدو الإسرائيلي.
في أي حال، ولحسن الحظ، لم أتوقف عند تلك التجربة ـ علي الرغم مما حملته إليّ علي جميع الصُعد ـ فالشعر كائن يتطور باستمرار، اقصد أن ما من وصفات جاهزة لهذا المشروع الكتابي. لذلك، كنت أحاول ـ وحسبي ذلك ـ بأن أبحث عن كتابة تجربة مختلفة في كلّ مجموعة من مجموعاتي الشعرية. وأين الألم في كلّ ذلك؟ حقيقة لم ابحث يوما عن كتابة موضوع معين، وإن كانت هذه التيمة موجودة منذ قصائدي الأولي.
قد تبدو اليوم أكثر حضورا، ربما لأن الحياة تعلّمنا ذلك، أو ربما لأنني بدأت أشعر بثقل العمر الذي ينساب، أو أيضا وأيضا الخيبات التي لا تتوقف عن اعتراض أقدارنا. ويمكن بالطبع إضافة العديد من الأسباب الأخري. بالتأكيد إن ما أقوله هنا، ليس سوي محاولة للتبرير.
لكن هل تستوجب الكتابة فعلا أي عملية تبرير؟ لا أعتقد. لنقل ببساطة بأني لست كائنا سعيدا، هذا كل ما أعرفه، وهذا أيضا ما أكتبه.
*أنت زميل عمل وصديق وبيننا يوميات مشتركة بكل ما تحمل من تفاصيل. لماذا حين أقرأك أتعرفك أكثر؟ لماذا أعرف اسكندر من قصائده بينما هو بجانبي طوال الوقت ومستغلقة عليّ معرفته في الواقع؟ وهل تعتقد بأن علي الكاتب أن يشبه كتابته، أم الكتابة هي وجهه الحقيقي؟
هل هذه الإقامة الأرضية هي التي دفعت الشاعر الفرنسي هنري ميشو لأن يقول يوما إن غايتنا الأساسية تكمن في أن لا نترك وراءنا أي أثر ؟ لا شيء نفعله طوال عمرنا، إلا خيانة أنفسنا: نترك وراءنا آثارا وبراهين. نكتب الكلمات التي لم نكن نرغب في قولها، أما الكلمات الأخري، فنخفيها في ثنايا هذه الروح وطبقاتها. هل لأننا نخاف دوما أن نكون صادقين؟ هل نخاف أن نتحدث عن مشاعرنا الفعلية؟ ربما ليست الكتابة عندنا سوي هذا الهروب من أفعالنا، من رغباتنا.
نحن كائنات مصابة بانفصام مزمن.
أكثر من الألم الذي ذكرنا، ثمة في مجموعتك ذلك الاستسلام إلي إغراء النوم الأخير. أعني الاستسلام إلي الموت والتجهيز له بعادية مفرطة من دون لوعة أو كثير تحسر. هل هي الحرب؟ العمر الذي يمضي بلا معني؟ العبث الذي يعصف بالكتابة حتي، أعني عدم جدواها في عالم لا يقرأ... ولا يرحم.
بدأت أؤمن فعلا بأن الحياة هي في مكان آخر ، بالمعني الكونديري (من كونديرا)، لا الديني. أنتمي إلي جيل دمرته الحرب فعليا. لم أعرف شيئا سوي الرعب والموت المنتشر. لم أعرف سوي رحيل الأصدقاء وغيابهم. لم استطع لغاية الآن، أن أجد هذه الأجزاء التي تناثرت مني واختفت. ولنضف إلي ذلك أنني لا أحبذ سياسة تركيب الأطراف الصناعية.
ومع ذلك نؤجل ذهابنا الكبير. من دون شك، ثمة أوهام في الكتابة، تجعلنا نعتقد أننا سنترك خلفنا شيئا ما. كنت أتمني مصيرا مغايرا. لكن هذا ما حدث. مع كل هذا التوق إلي المكان الآخر، ثمة خشية لا أعرف تفسيرها. إنها هذه الخشية التي تتركني اكتب.
*عدا عن كونك شاعرا، أنت مترجم أيضا، وشابت أعمالك المترجمة في الفترة الأخيرة، غزارة ووفرة. ما الذي تعنيه لك الترجمة؟ هل هي مردودها المادي الذي يساعد علي العيش؟ هل تنتقي أعمالا بعينها لترجمتها؟ هل تستمتع بالترجمة ولماذا أجدك أكثر في ترجمات لفرناندو بيسوا وأوكتافيو باث؟
لم أبحث في الترجمة يوما عن مردود مادي، علي الرغم من أني لا أترجم مجانا بطبيعة الحال. ما أريد قوله، إني أترجم ما أحبه وكأنها محاولة لكتابة الآخرين بلغتي. بالتأكيد في هذه المحاولة الكثير من المتعة التي تجعلني أعيد التفكير بكثير من الأشياء. الترجمة هي كتابة أخري، وليست نقلا فقط من لغة إلي أخري.
أما عن الوفرة التي تتحدثين عنها فهي ليست راهنة. في السنين الماضية، لم اكتب الكثير من الشعر، بل انصرفت كليّا إلي الترجمة. ترجمت روايات وقصائد وأشياء أخري بقيت في أدراج مكتبي. وما أفعله اليوم، هو نشر هذه الأشياء التي اجتمعت عندي.
*لك عمل أو أكثر علي وشك الصدور، يشبه السرد الذاتي أو رواية حياتك علي طريقتك، الأمكنة، الأشخاص وسوي ذلك. إلي أي مدي برأيك، علي السرد الذاتي أن يأتي دقيقا وأمينا لحياة كاتبه؟ هل يحتمل مثل هذا السرد بعض تشطحات الخيال وهل السرد الذاتي بقلم شاعر هو قصيدة طويلة؟
في الحقيقة هذا السرد الذاتي ، هو نتيجة منحة إقامة حزتها من بيت الكتاب والمترجمين الأدبيين في مدينة سان نازير الفرنسية بين أيار (مايو) وتموز (يوليو) من العام 2006. حين وصلت، لم يكن بنيتي أن اكتب ذلك، لكن بعد مرور أيام اكتشفت أني اروي الكثير، سردا، عن حياتي.
لكن لأصحح شيئا، ليس سردا ذاتيا بالمعني المتعارف عليه، أحب أن اسميه تخييلا ذاتيا ، أي لست دقيقا فيما أرويه بل هي محاولة لرسم حالات ومناخات وأفكار انطلاقا من وقائع حقيقية، أجنح من خلالها حول استنطاق لا وعي ما إذا جاز التعبير. هو كتاب يقف علي مفترق أنواع عدة ما بين السرد والرحلة واليوميات والتحليل. سيصدر بالفرنسية أولا ومن ثم بالعربية، بعد أشهر. هكذا كانت شروط المنحة.
إذا لست مخلصا لحياتي ولا ارويها بدقة، أكثر ما أحبه: خيانة نفسي باستمرار. ما يعنيني حقا الكتابة التي اعتقد يجب الإخلاص لها فقط.
القدس العربي
30/04/2008