محمد الحمامصي من القاهرة: أكد الشاعر العراقي علي الشلاه المقيم بسويسرا ويترأس مهرجان المتنبي العالمي للشعر أن المثقفين العراقيين في الداخل يعيشون مأساة إنسانية شديدة الوطأة فضلا عن كونهم يعانون من إشكاليات معقدة تتعلق بالاحتلال والإرهاب ورؤية أخوانهم في الخارج لهم ، وطالب المثقفين العرب عراقيين وغير عراقيين أن يمدوا أيديهم لهم ليس ماديا، بل بأن يتفهموا ما يحدث وأن يحاولوا أن يقولوا لهم نحن جميعا معا.. كما كشف عن أن هناك بعض الشعراء والأدباء العرب الذين يقيمون بالغرب يوهمون الغرب بأنهم الأهم في الشعر العربي، في حين أنهم مجرد أكاذيب.. وفي هذا الحوار الذي أجريناه معه علي أحد مقاهي وسط القاهرة تحدث حول قضايا الشعر والشأن الثقافي العراقي ومهرجان المتنبي العالمي للشعر وترجمة الشعر العربي للألمانية، وغيرها من القضايا ذات الصلة..
والشاعر علي الشلاه عضو مجلس إدارة مركز الحوار الثقافي العربي الأوربي – روما المشكل حديثاً برعاية الجامعة العربية والاتحاد الاوربي، وعضو ببرلمان الأجانب في سويسرا، وقد ولد الشاعر في مدينة بابل / الحلة، وحصل علي بكالوريوس كلية الآداب جامعة بغداد، كما حصل علي رسالتى الماجستير والدكتوراه في الأدب العربي ونقده، من أعماله الشعرية : ليت المعري كان أعمى - التوقيعات - العباءات والأضرحة - كتاب الشين - البابلي علي، وله ثلاثة كتب عن الشاعر العراقي الكبير عبد الوهاب البياتي، ودراسة بعنوان أسئلة المأساة.. دراسات في الشعر العربي الحديث، وقد ترجمت مختارات شعرية المانية عربية له بعنوان (غروب بابلي)، ونال عدة جوائز إبداعية آخرها من مهرجان أصيلة الدولي..
*في ديوانك الأخير غروب بابلي ثمة تجارب نثر، هل تنطلق في المرحلة القادمة إلي النثر أم ستصر علي كتابة قصيدة التفعيلة؟
أنا أولاً أعتقد أن الأجيال الشعرية يمكن أن تتعايش سواء كان هذا التعايش عبر تجربة شاعر واحد أو عبر تجارب شعراء عدة، بمعنى أنه لا ينبغي أن نشطب نوعا شعرياً نمتلكه في حضارتنا بحجة أن الزمن قد عفى عليه، الإبداع هو الإبداع، القصيدة المبدعة قصيدة مبدعة أيا كان شكلها، لكن ما تشير إليه في ديواني الأخير، هي في الحقيقة نصوص كتبتها لتجارب معينة، هذه التجارب كتبت عن حالات أحسست أن التعبير عنها بقصيدة النثر هو الأجدى، وبعض هذه النصوص التي أشرت إليها كتبتها من وحي المعيشة في الغرب وكتبتها باللغتين العربية والألمانية ونشرتها أيضا باللغتين، ولذلك أردت أن أكون وفيا لنصي العربي ولا أقحم أشياء وأعيد صياغة النص موسيقيا بحيث يبتعد عن محاولة صادقة لتقديم النص باللغتين ولذلك قدمته علي شكل قصيدة نثر، أنا مازلت أشعر في نفسي أنني أمتلك سمات قصيدة عربية، وهذه السمات التي أجدها في القصيدة العربية أعتقد أن حضورها في قصيدة التفعيلة يكون أكثر وضوحا وتجليا، ولكن هذا لا يعني أنني لن أكتب قصيدة النثر أو أنني سأنحاز تماما إلي قصيدة النثر، ما أدركه اليوم في تجربتي أنا لست أيضا قاطعا في ذلك مستقبلا ولا أدري ماذا سيحصل ولكنني بعد أن كتبت هذه النصوص النثرية عدت وكتبت عدد غير قليل من قصائد التفعيلة، والأطرف من ذلك أنني كنت في العراق في زيارة أخيرة وكنت في أمسية شعرية في مدينة النجف وفوجئت أن كل النصوص التي تقرأ نصوصاً عمودية وعندما عدت إلي البيت وجدت أنني أكتب نصا عموديا لم أنشره، لكنني وجدت أيضا أن هذا النص الذي كتبته وإن كان يمتلك الشكل العمودي فإنه يحوي سمات قصيدة حديثة من خلال الصورة الشعرية ومن خلال الحساسية الشعرية أيضا وطريقة التناول.. ومن الطريف أنه علي الرغم من أنني أمتلك مخزونا غير قليل من القصيدة العمودية إلا أنني لم أضع أيا من هذه القصائد في أي من مجموعاتي الشعرية.
*لماذا؟
كان لذلك في البداية سبب سياسي، فأنت تعلم في بداية الثمانينات كان الشعراء العموديون هم الشعراء الذين يطالبهم نظام صدام حسين أكثر بالمديح، وأنا لم أرد أن أتورط هذه الورطة لذلك لم أظهر أنني شاعر عمودي إلا للأصدقاء المقربين، وفيما بعد بدا لي أن هناك في سنوات الثمانينات حتى نهاية التسعينات أن القصيدة العمودية صارت تعني الكلاسيكية وهذا أيضا ما لم أرده، وأيضا كنت أطلع علي التجارب الغربية بشكل متواصل وأحاول أن أكون شاعرا معاصراً وغلب عليّ ما غلب علي جيلي من أن القصيدة العمودية تنتمي إلي القبيلة وتنتمي إلي الماضي أكثر ما تنتمي إلي المستقبل لذلك لم أنشر هذه النصوص، اليوم عندما ألاحظ مثلا أن أخر ديوان للشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي كتاب المراثي في أغلبه شعرا عموديا، لم تعد الفكرة كذلك، حتى بعض الشعراء الشباب من مجايلينا أصدروا دواوين فيها قصائد عمودية بل إن بعض الأصدقاء أصدر ديوانا فيه قصيدة مكتوب جزء منها بالشعر العمودي وجزء منها مكتوب تفعيلة وجزء منها مكتوب نثر، لم تعد الفكرة السائدة بأن النص هو نص تقليدي وشاعره لا يمتلك الثقافة الكافية للانطلاق إلي الرحابة، لكن أنا في البداية عندما بدأت النشر كانت هذه هي الصورة السائدة..
*في زيارتك الأخيرة للعراق كيف رأيت واقع الحركة الثقافية والإبداعية هناك في ظل الاحتلال؟
المشكلة في غاية التعقيد، هناك مشكلتان كبيرتان في العراق، الاحتلال والإرهاب معا، المثقفون يعانون من الإرهاب بطريقة غير معقولة، أنت تعلم أن المفكر اليساري الكبير قاسم عجام قد قتل لأنه يساري، والشاعر آدم حاتم قتل لأنه شاعر، هذه الفكرة ترعب المثقفين في الداخل وهي التي جعلت عملية عودة مثقفي الخارج معقدة، وهناك رغبة مستمرة لدي مثقفي الداخل في أن يأمنوا أنفسهم أما بالخروج أو بتقليل الحركة، إضافة إلي هاجس الاحتلال، بمعني أن كثيرا من مثقفينا في الداخل وهم محقون فيما يعتقدون، يعتقدون بأنه لا ينبغي أن يظهروا رضي عما حدث في العراق حتى وإن كانوا ضد نظام صدام حسين وديكتاتوريته لأنهم لا يريدون أن يسجل عليهم تاريخيا أنهم نظروا إلي الاحتلال علي أنه كان خلاصا إيجابيا، وأنه كان كما يحصل عادة عندما تحصل كارثة ما فتهدم البيت لكنها وهي تهدم البيت تزيل حجرا كان جاثما في قارعة الطريق، إزالة الحجر الجاثم في قارعة الطريق إيجابية لكن تهديم البيت سلبي تماما، هذه هي الفكرة السائدة، وأعتقد أن هذا هو الكلام الذي ينبغي أن يقال عربيا وأن علي المثقفين العرب أن يتفهموا ما حصل للمثقفين العراقيين، المثقفون العراقيون لم يطلبوا الاحتلال والمشروع الوطني العراقي ثقافيا وحتى سياسيا بنظام ديمقراطي تعددي كان سابقا للاحتلال الأمريكي وكان سابقا حتى لاحتلال الكويت، كان حلما منذ بداية صعود الديكتاتورية في العراق، كان اليسار العراقي والمثقفون العراقيون بشكل عام يحاولون أن لا يكونوا ضمن الماكينة الإعلامية للدكتاتورية لكنهم لم يتصوروا في يوم من الأيام أن هذا لن يتحقق (التخلص من الديكتاتورية) إلا بالاحتلال الذي هو كارثة أخرى لا يمكن النظر إليها بشكل إيجابي، المثقفون العراقيون يعتبون علي زملائهم المثقفين العرب، يعتبون من فكرة تقول أنكم تتوهمون بأننا قادرون علي دفع الاحتلال وأننا لم نقم بذلك، الولايات المتحدة وحش كاسر لم تستطع أوروبا أن توقفها، لم يستطع العرب أن يقدموا شيئا، فكيف تريدون نحن المثقفين وحتى لشعب أعزل مدمى من حروب متكررة وحماقات متكررة وحصار أكل البنية التحية ليس فقط للدولة العراقية وإنما للبيت والفرد العراقي، أن يقاومه، لقد دخلت بيوت بعض المثقفين عام 2003 كانت تحتوي فقط علي الباب الخارجي، لا توجد أبواب للغرف لأنهم باعوا الأبواب حتى يوفروا قوت عيالهم، مرة قال لي الروائي العراقي الكبير عبد الخالق الركابي أنه كان عندما يبيع كتبه يسجل ماذا اشترى بثمن كل كتاب لأطفال، فمن المفارقة أن يكتب لك روائي أنه اشترى بأعمال نجيب محفوظ مثلا حليب لابنته الصغيرة وبأعمال ديستوفيسكي خبزا وهكذا، هذه كانت مأساة كبيرة، والبهرجة الإعلامية التي حاول نظام صدام حسين أن يظهر بها الوضع وكأننا نكابر علي الجراح وكأن لا شيء يحدث، هي التي أحدثت لبسا في الفهم العربي للواقع العراقي، عندما حضرت جيوش الاحتلال كان السقوط السريع لأنه البلد كان خاويا من كل ما يعزز صموده، ولذلك العراقيون اليوم يقولون والمثقفون منهم تحديدا أن علي المثقفين العرب أن يمدوا أيديهم لنا ليس ماديا، بمعنى أن يمدوا أيديهم لنا متفهمين ما حصل وأن يحاولوا أن يقولوا لنا نحن جميعا معا، نحن نريد بناء وطن جديد لا يقوم علي الطائفية ولا يقوم علي القروسطية ولا علي السلفية ولا علي التخلف، الشعب العراقي 80% منه عرب أيا كانت طائفتهم ووجهه العربي الإسلامي يجب أن يبقى مع احترام المكونات الأخرى الكردية والتركمانية والأشورية داخل البيت العراقي، هذه يجب أن تحترم كمواطنين عراقيين أكفاء لا يقلون عن العرب، لكن يجب أن تظل هوية البلد هذه، وهذا هو رأي المثقفين وبطريقة متسامحة بعيدة عن الحماقات وإسالة الدم ومحاولة قسر هذا المكون علي ذلك..
*لكن هناك إشكالية حقيقية في المشهد الثقافي العراقي ما بين الداخل والخارج؟
هذه الإشكالية تبدو لي طبيعية ذلك أن تقريبا بعد عام 1991 أصبح أكثر من نصف المشهد الثقافي العراقي والأسماء المعروفة فيه يعيشون في المنفى، وهؤلاء عاشوا بيئات مختلفة وقدموا نصوصا مختلفة، والسؤال الإشكالي ليس سؤال الجودة كما يتوهم البعض أيهم يكتب نصا أفضل في الداخل والخارج، فسؤال الجودة هو سؤال ذاتي بالأساس بمعنى أنه يوجد أسماء هامة في الداخل كما توجد أسماء هامة بالخارج، وإن كنت عشت أكثر من خمسة عشر عاما خارج العراق إلا أنني أعتقد أن الرحم هو القادر علي الولادة أكثر، بمعنى أن الوطن العراق وأدباء الداخل الذين يظهرون كل يوم ويكتبون كل يوم هم رهان المستقبل، وأن هذه الحالة حالة الداخل والخارج ينبغي أن تختفي قريبا، لتكون التجارب التي بالخارج هي تكملة للشجرة التي في الداخل وليس مفروضا بالغصن أن يحارب الشجرة ولا بالشجرة أن تلعن الغصن، لكن يبدو لي أن الإشكالية سياسية أكثر منها ثقافية وخصوصا أننا نرى أن هناك محاولة في تكييف الوضع السياسي العراقي مع مجيء عدد من السياسيين العراقيين من الخارج هم الأبرز الآن في المشهد السياسي العراقي، وهذا هو الذي جعل هذا السؤال مطروحا علي الثقافة، لكن في الثقافة ليس مثل السياسة، أنت تستطيع أن تكون حاضرا بنصك في المكانين لكن في السياسة لا تستطيع ذلك، وهذه الإشكالية نشأت بعوامل سوء الفهم وأن كثيرا من أدباء الداخل شهدوا أن بعض الأدباء الذين عاشوا في الخارج استطاعوا أن يحققوا ما لم يحققوه هم، وأنا هنا طبعا لا أنكر ذلك وأعتقد أن كل الذين عاشوا بالخارج كانوا أيضا جزء من الحراك الثقافي العراقي بمعنى أنهم حملوا اسم العراق وحاولوا أن يقدموا نصوصا عن معاناة العراقيين، أنا هنا أتكلم عن الغالب وليس عن التجارب الفردية، وأعتقد أن الذين بالداخل عانوا أيضا وكتبوا نصوصا من أتون المعاناة، وعلي أدباء الخارج واجب أخلاقي اليوم أن يعرفوا بأدباء الداخل وأن يمنحوهم الفرصة أيضا للظهور والحضور وحتى الترجمة إن أمكن ذلك، وفي كلا الحالين أدباء العراق في الداخل والخارج بحاجة إلي إقامة لحمة وطنية تكون مثالا للمواطن الاعتيادي، فإذا كان المثقفون غير قادرين علي أن يعيشوا متماسكين وبتسامح فكيف يمكن للعسكري السابق أن يعيش بتواؤم وهو الذي عاش علي حياة بعضها جافة وصعب ومعقدة.
*العلاقة بالآخر كيف كان تأثيرها علي رؤيتك الإبداعية وما هو تقيمك لتجارب الآخرين في هذا الإطار؟
أعتقد أن الكثير من التجارب الشعرية العربية التي عاشت بالغرب إلتبست هويتها بهويته، سأضرب لك مثلاً تقول الشاعرة السويسرية الكبيرة إرما لاكوزا أنها لا تقرأ للشعراء العرب المقيمين في أوروبا، فسألتها لماذا؟ فقالت لأنها ترى أصداء القصيدة الأوروبية في نتاجهم ولا ترى بعدهم الأول، تقول لي أنا لا أريد أن أقرأ شاعراً يقلد رامبو أو سان جون بيرس، أستطيع أن أقرأ رامبو و سن جون بيرس ، أريد أن أقرأ شعرا عربيا يحمل هويته وهمومه ونزوعه الإنساني وتجربته الحديثة، ولذلك لم أحاول تقليد التجربة الأوروبية وأن أتلبسها علي الرغم من أنني عشت منذ عام 1996 في منتصف المشهد الأوروبي مديرا عاما للمركز الثقافي العربي، ونحن نتواصل عبر كل الفعاليات مع مثقفين أوروبيين ونتحاور معهم، لكني أدرك أن الوسيلة الأفضل أن تحافظ علي قصيدة عربية تحمل هما إنسانيا لا أن تمضي إلي قصيدة أخرى أوروبية مكتوبة بشكل ملتبس غير واضحة المعالم، نحن في الثقافة العربية لدينا علاقة وطيدة مع الشعر وهذا ليس إدعاء، نحن نعترف أن مع الإيطاليين علاقة وطيدة مع الفن التشكيلي، وللنمساويين علاقة وثيقة مع الموسيقى، ونحن العرب لدينا علاقة وثيقة مع فن الشعر، ولذلك أحاول أن أكتب قصيدة شعرية يحاول أن يستمع إليها الغربي ويحس بأنها قصيدة عربية ومعاصرة، هذه المعادلة الصعبة هي التي أعتقد أنها يجب أن تتوفر في النص الشعري، وإلي حد ما وجدت في النصوص التي نشرت لي بالألمانية وردود الأفعال التي حصلت عليها أن هناك نجاحا معقولا لهذه الرؤية والطريقة في الكتابة، لكن هذا لا يعني أنني لا أقرأ التجارب التي يكتبها الشعراء الذين ألتقيهم بحكم العمل، أنا أحيانا مضطر بحكم العمل أن أقرأ نصوص ما لا يقل عن عشرين شاعراً سنويا هم الشعراء الذين نختار منهم عشرة لمهرجان المتنبي الذي يجمع بين عشرة شعراء أوروبيين وعشرة شعراء عرب، وهذه القراءة ليست قراءة سطر أو سطرين أنا أقرأ مجمل الأعمال ثم نقرر بعد ذلك ماذا سنترجم وأيهم سنختار، وهذه التجربة دلتني علي حوارات يومية مع الشعراء مثلا يقول لي الشاعر الألماني المعروف ساتوريوس وهو من كبار شعراء ألمانيا اليوم أنه عندما يحس أنه غير قادر علي الكتابة وبنضوب شعري فإنه يقرأ شعراً عربيا سواء كان هذا الشعر لشعراء معاصرين أو شعراء قدامي، هذا يعني أيضا ألا ننظر إلي تجاربنا الشعرية العربية باستهانة وأن نتوهم أن العرب لا يستطيعون كتابة قصيدة معاصرة تشبه ما ينجز بالغرب، ذلك أن الغرب نفسه لا يتشابه في قصائده، القصيدة المكتوبة في باريس غير القصيدة المكتوبة في برلين، والقصيدة الألمانية اليوم تحتمل حتى وجود القافية ووجود موسيقي أو ما يسمى بالتفعيلة، أكبر شعراء ألمانيا اليوم أنسس بيرجر يكتب نصا مموثقا، لذلك علينا أيضا أن نحتفي بشعرنا وقصائدنا، لكن هذه ليست دعوة لكلاسيكية، إنها دعوة للاحتفاء بالشعر وبشعر عربي معاصر وأن يقدم هذا الشعر العربي المعاصر إلي الغرب برؤيته هو كشعر عربي وليس بمحاولة أن تنقل إلي الأوروبي من هذا الشعر العربي ما يناسب الذائقة الأوروبية وما هو سائد لديهم، لأن الأوروبي يمتلك في السائد لديه ما يكفيه..
*حصلت علي درجتي الماجستير والدكتوراه في النقد الأدبي هل لنا أن نتعرف علي تجربتك النقدية عامة؟
أعترف علي أنني نادم علي دراسة الماجستير والدكتوراه، لا ينبغي للشاعر أن يكون أكاديميا، ولا ينبغي له أن يدرس النظريات النقدية، هذا أعترف به بعد فوات الأوان ذلك أنني خسرت كشاعر من حريتي وحرية التفكير وفي الرؤية بتحولي إلي الكتابة النقدية وأن لن أكرر تجربة الكتابة النقدية مطلقا، هذا عهد أخذته علي نفسي بعد أن إنجازي رسالتي للدكتوراه (المرأة شاعرة.. القصيدة النسوية العربية الحديثة) ذلك أن محاولة البحث عن أسس نظرية لكتابة الشعر تقتل الشعر، ولكن أنا كنت مسكونا بهاجس كيف يمكن لي أن أضمن مستقبلا في الغرب أو في العالم العربي أن أعيش بكامل كرامتي، وكنت أعتقد أن الشهادة الأكاديمية هي التي ستحصنني في قابل الأيام لذلك سعيت لها سعيا حثيثا، لكن أصارحك أنني أحاول جاهدا نسيان ما تعلمته وأنا أكتب الشعر فلا أستطيع، إنني أمارس عملا نقديا علي القصيدة يكاد يقتل القصيدة اليوم، وهذا من الأشياء التي أنا نادم عليها، وكنت في الماجستير قد درست أسئلة المأساة.. كربلاء في الشعر العربي الحديث، وكانت هذه تجربة غنية في حينها ذلك أنني درست تحولات الرمز التراثي في القصيدة العربية المعاصرة عبر هذا النص، وهذا أمر كنت أحبه لكن شيئا فشيئا وجدتني أيضا معني فيما بعد بالكتابة النقدية وتتبع مراحلها، وهو أمر بوسع عشرات الزملاء القيام به، وعندما مضيت إلي سويسرا سجلت رسالة الدكتوراه القصيدة النسوية العربية الحديثة بجامعة بيرن وهناك كانت المسألة أكثر عسرا بمعنى أن المشرف هناك ليس كالمشرف في العالم العربي، إنه لا يكتفي بنصك الذي تكتبه إنه يبحث معك بحثا موازيا لما تقوم به وهذا يعقد العملية بشكل كبير، وهو يفترض أنك يجب أن تقرأ كل الأسس النظرية والنقدية الموجودة ثم تحاول التطبيق، وبين حمي أن أحصل علي الرسالة والخوف من أن أفشل فتسجل عليّ وجتني ألهث وراء عشرات الكتب النقدية المترجمة والعربية وأحيانا باللغة الألمانية، واليوم أنا لا أجد سعادة في أي لقب أكاديمي، إنني لا أجد الاعتزاز إلا بلقب الشاعر، وآمل أن أفي بوعدي لك وألا أكتب نقدا في المستقبل..
*ما هو تقييمك للترجمات التي تمت لشعراء عرب إلي اللغة الألمانية، وماذا أيضا عن حال المشهد الشعري العربي هناك؟
المشهد الشعري الذي يقرأه المتلقي الألماني من خلال ما نشر بالألمانية وهناك أربع أنطولوجيات للشعر العربي صدرت بالألمانية منذ منتصف السبعينات حتى اليوم الأولى قامت بها المستشرقة ماري شيميل والثانية قام بها الشاعر خالد المعالي، والثالثة قام بها المستشرق اشتيفان فاجنر، والأخير قام بها الشاعر سليمان توفيق، وعندما يقرأ المرء هذه الأنطولوجيات إضافة إلي الكتب المفردة تتكون له صورة مختلفة عن المشهد الشعري العربي هي جماع مزاج هؤلاء المترجمين، في مجتمع وحضارة غنية بالشعر مثل الحضارة العربية كيف لشعراء أن يحكموا أن ثلاثين اسما أو أقل هم القادرون علي أن يكونوا المشهد الشعري العربي؟ هذه أولا مشكلة، المشكلة الثانية أن هؤلاء المترجمين وخصوصا العرب منهم وهما شاعران حكموا مزاجهم الشعري في نقل التجربة إلي الآخر، فمن يكتب قصيدة تقترب من منهجهم نقلوه إلي اللغة الأخرى، بالإضافة إلي الشعراء الرواد وأدونيس ودرويش، هؤلاء يتكررون في كل المعاجم، لكن ما عدا ذلك هم يبحثون عن الأسماء القريبة منهم، الأنطولوجيا الأولي التي أصدرتها المستشرقة الكبيرة ماري شيميل كانت مختصة بشعر الرواد ومن جاليلهم وكانت أكثر موضوعية إن جاز لي التعبير، لكن المستشرق اشتيفان فاجنر عمد إلي النصوص الأكثر سهولة ذلك أن أدواته في اللغة العربية لم تكن تسعفه أن يقرأ تجارب معقدة كتجربة محمد عفيفي مطر مثلا، ولذلك هو استسهل النصوص التي نقلها، وقد تقول لي كيف حدث ذلك وهو من ترجم أدونيس، أقول لك أنه ترجم أدونيس ليس عن العربية تماما، إنه ترجم أدونيس عن العربية والفرنسية وقام أدونيس نفسه بشرح كل المفردات له بالفرنسية، وهذا لا يمكن أن نعتبره مباشرة من العربية علي الرغم من أنه أخذ جائزة الترجمة عن ديوانه عن أدونيس بزعم أنه مترجم عن العربية لكن هذا الكلام غير دقيق.
إن صورة المشهد الشعري العربي مرتبكة، ويمكن أن أقول لك أن هناك بعض الشعراء والأدباء العرب الذين يقيمون بالغرب يوهمون الغرب بأنهم الأهم في الشعر العربي، ولا تفاجأ أن تدعى أنت إلي مهرجان فتجد أن بعض كاتبات الخواطر وشعراء لم تسمع بهم في العالم العربي يقيمون في هذه البلدان ويقدمون أنفسهم علي أنهم شعراء عرب كبار، وعندما تقرأ نصوصهم العربية تصاب بالحمي لأنهم لا يعرفون أن (لم) تجزم ما بعدها أو أن فعل الشرط وجواب الشرط مجزومان باللغة العربية، لا يدرون، ويقدمون إلي الآخر علي أنهم شعراء كبار، ثم تنشأ عملية أكثر مأساوية عندما يصدرون أنفسهم من هناك إلي العالم العربي، وبما أنهم قادمون من الغرب ويعيشون هناك ويزعمون أنهم يكتبون بلغة الغرب الذي هو زعم أجزم بأنه غير حقيقي، فإنهم يتلقفون في العالم العربي علي أنهم أسماء مهمة في حين أنهم مجرد أكاذيب، هذه العملية تشعر الإنسان بالأسى، لذلك علي الرغم من الملاحظات التي قلناها عن التجربة الألمانية وتجربة الأنطولوجيات فإن هذه الأنطولوجيات قدمت شيئا من المقبولية والمعقولية إذ أن أنها أفهمت الغرب أن بعض هذه الأسماء الموجودة لديه لا علاقة لها بالمشهد الشعري العربي القائم في البلدان العربي وأنها غير موجودة إلا في هذا الفضاء الذي هو فضاء الأصدقاء.
ايلاف
2008 الجمعة 4 يناير