مهاب نصر

ميسون صقلم أعرف ميسون صقر كشاعرة وفنانة تشكيلية وروائية إماراتية تعيش بين القاهرة والإمارات، بل كاسم حاضر ضمن جيل كامل من المبدعين العرب الذين عبروا بالكتابة (وبغيرها) وبإشكالاتها منذ أواخر الثمانينات عن مرحلة جديدة، ووعي مفارق للغنائية واليقينين الأدبي والسياسي السائدين، متجاوزين الوعي السطحي بفكرة الوطن، وارتبطت مسارات حياتهم ومصائرهم الفنية بتاريخ التحولات في وطن يتآكل ولا تبقى منه إلا الكلمات، وجوه ميسون المتعددة بحث واحد عن مرآة تكسرها لتجد الحقيقة فيما وراءها، بدءا من ديوان «هكذا أسمي الأشياء» عام 1983 إلى «أرملة قاطع طريق» 2007، ومن رواية «ريحانة» إلى شريط «خيط وراء خيط» كعمل من الفيديو آرت رحلة حاولنا التركيز فيها على آخر مراحلها لتكون هي البداية. أنت من جيل ارتبطت حكايته الشخصية بتاريخ التحولات في بلادنا برأيك هل يعد ذلك معوّقا للفنان أم شيئا إيجابيا؟

الأمران معا، فهو معوق لكنه أساسي وحقيقي، حيث يجعلك هذا الالتباس مفتوحا على فجيعة أنت جزء منها، ولكنك بلا ذنب، تصبح كشاهد مغلق العينين، ويظل التاريخ مسمارا أو شوكة في حياتك، لكن إرادتك تتمثل أو تستعاد في فعل الكتابة للسيطرة على هذا التحول واكتشاف معناه، من الناحية الإيجابية فإن هذا الارتباط بتاريخ غني قد يساعدك في إيجاد مادة خام غنية للكتابة عن شيء حقيقي وحيّ،

نعم، دراما يمكن أن تغرف منها ما تشاء لكنها على الجانب الآخر يمكن أن تغلق تجربتك على هذه المساحة من الوعي، الخلاص منها تماما يجعلك مهددا وكأنك في العراء، تتساءل: ماذا ستكتب، ويجعل الآخرين يشدونك إليها: هذه منطقتك لا تخرج منها.

أولا أنا لا أرى الشعر محددا بأفكار مسبقة، ويحزنني أن يكون الشعر مغلقا على التفاصيل الصغيرة، والتفاصيل نفسها في واقع الأمر تشكل عالما في النهاية وهذا العالم فيه الهم السياسي والهم الشخصي، وكما أشرت لك من قبل أنا ابنة أجيال ولست ابنة جيل واحد، فأنا من أسرة شعرية، والدي كان شاعرا تقليديا حاول التجديد، وتواصلت أنا مع جيل السبعينات ومع تجربة إضاءة 77) مصر * وشاهدتها عن قرب، ثم كنت أنا نفسي من جيل الثمانينات، وبحثت عما هو متطور في قصيدة النثر وحاولت التواصل مع أجيال جديدة، قصيدتي لا أستطيع أن أحددها بمجال ضيق، ثانيا السياسة ليست مجرد هم عام، إنها أيضا تفاصيل: حين يقتل إنسان إنسانا، حين يتم الاعتداءعلى حق، حين تخرج من بلد إلى بلد مدفوعا بضغوط تجاوزك، كل هذا يدخل في إطار السياسي والشخصي أيضا.

وضعنا الحالي للأسف جعل السياسة طعامنا اليومي، تفتح التلفزيون فتجد القتل في كل مكان، وهناك قيم تنسحب لصالح فكرة العنف، أحيانا أشعر أن علينا أن نتعلم شيئا من الشر في مواجهة ما نتعرض له من انتهاك.

لن تستطيع أن تتكلم عن العام إلا إذا تكلمت عن الخاص، أما المكان، فإن فكرة المكان العربي في وقتنا الحاضر مدمرة تماما، ونحن بين أمرين: كينونة منغلقة وانحسار لكل مدينة في ذاتها وكل هوية في داخلها، وبين قناعاتك أنك تتكلم العربية التي تشمل مساحة واسعة وعامة تحاول أن تغلق نفسها على لهجات، بدأت بالذاتي، لكن ذاتي بلا مكان لأنني أتنقل داخل اللغة عابرة الأمكنة حيث تصبح اللغة هي الثابت الوحيد الذي يتحرك فيه جسد القصيدة.

دائما أحاول أن أدحض الأفكار التي تبدو رومانسية في وقت ما، أعني رومانسية في إطلاقها وفي حكمنا الأخلاقي عليها، أحاول أن أبحث عن جماليات هذه الأفكار في تعددها وانقلابها، من الممكن لأفكار مثل القسوة أو الفضيحة أن تكون شرا على مستوى الواقع، لكنها على المستوى الجمالي تأخذ شكلا آخر حين تضعها موضع التساؤل وتفجر ما فيها من وجوه إنسانية.

هناك حَدَث هو الذي أثار الفكرة عندي، ذهبت إلى لبنان، وكنت قد رأيت صورة لإدوارد سعيد وهو يأخذ حجرا ويلقي به من البوابة، وحين طلب مني أن أفعل بالمثل وجدت أن هذا الرمز صار ضعيفا ما دمنا عاجزين إلا عن رمي حجر بينما كانت هناك بالمقابل ثورة حجارة حقيقية، بالنسبة لي كانت الصورة التي استخدمتها في الديوان تهكما على هذا التردد والعجز، انظر إلى ما حدث عند ضرب لبنان، لم نستخدم حتى حجر الكلام وانقسم المثقفون على أنفسهم وكأن الحق غير واضح.

هي دراما وليست بطولة، هي بحث عن فكرة الثابت والمتحجر بدا في اللوحات التي عرضت مؤخرا بالأبيض والأسود، هناك ايضا عدم تحدد وكأنك أمام جسد غير معروفة هويته (ذكرا أم أنثى)، جسد لايمكن النفاذ إليه، هو جزء من فكرة الآثار الموجودة في حياتنا سواء أكانت مادية كسر ملغز ومغلق على ذاته مثل التماثيل الفرعونية أو السومرية أم كان أثرا ذاتيا يمثل نوعا من الحنين إلى جزء من الحياة تكلس أو تصلب.

ربما تحقق هذا في ديواني الأخير بصفة خاصة الموت سؤال فلسفي في النهاية، إنه الحد، تلك المنطقة التي تتعطل عندها الإرادة ويبدو الواحد عاجزا، يرتبط هذا بأشخاص كما بمعاني في حياتنا، تكتشف أن فكرة الاستطاعة والتغيير كانت رومانسية أكثر من أي شيء.

أنا سعيدة لأن هذا الواقع الأدبي جعل يفرز تحولات عديدة، حيث أصبحت قصيدة النثر فيه ذات قوة واضحة المعالم وليست على هشاشتها في الثمانينات، لقد صارت للقصيدة وجوهها المتعددة في تبدلاتها، لكن ألاحظ أن فكرة الرواية أصبحت في المقدمة وأخذ الشعر ينسحب، أو يسحب البساط من تحته بإرادة واعية أو دون إرادة، وذلك في رأيي لتثبيت فكرة الشعر عند الحد الذي وصلت إليه فلا تتطور قصيدة النثر أكثر من ذلك.

نعم، وأرى أن هناك ما يدفع إلى تآكل الشعر لصالح الرواية فيسير كل السرد باتجاهها وتضعف قصيدة النثر من داخلها وتعود قصيدة التفعيلة أو القصيدة العمودية ورؤاها لتقوى مرة أخرى، هناك الكثيرون منا مأخوذون بفكرة السرد المفتوح، فأحيانا تكون الكتابة السردية أسهل من كتابة قصيدة نثر حقيقية وخاصة.

هذا ما أتكلم عنه، يذهب الجميع للرواية فلا تعود بثقلها الحقيقي والأساسي، هناك تشجيع على ذلك، لكن ذلك يفرغ مساحة الشعر وما انعقد عليه في فترة ما من آمال وحراك تغييري.

كانت هناك قوة شديدة نتيجة الإيمان بفكرة التغيير وبنشوء دولة حديثة بكل آلياتها، من تشجيع للثقافة وإصدار الجرائد، كان هناك جيل متحمس، بحيث ترى رجلا مثل الماغوط في الملحق الثقافي بالخليج، مع وجود أسماء مهمة شجعت على نمو الأفكار مع نشاط اتحاد الكتاب، الآن نحن في مرحلة أزمة شديدة وهي طغيان الشعر الشعبي بقيمه ومبادئه، لست معترضة على ذلك ولكن على أن يطغى على الساحة مقابل عدم الاعتناء بالبذور الجديدة والمتطورة في شعر الفصحى، من شعراء يجدون الأبواب مسدودة أمامهم، وهذا ما يجعلني أبحث عن فكرة المواصلة، فكرة الاستمرار تمدني بالأمل، نحن مطالبون بذلك لفتح الباب لمن وراءنا.

نعم، كل الأشياء تحركت لصالح الاقتصاد ولصالح الرأسمال في مقابل تحديد كل الثقافات عن طريق انغلاقها وقطع سبل التطور أمامها، إن اللغة العربية مثلا تحمي نفسها وتراثها، إذا انغلقت فسوف تقضي على أشياء كثيرة من بينها الأدب الذي تنشأ عليه تواريخ أمم.

في الشعر، كل الأشياء الأخرى حاولت أن تكون أفقا متجددا له، أحيانا أذهب إلى الشعر ثم تتحرك رغبتي باتجاه الرسم، الفيلم الذي أنتجته خرج من قصيدة «خيط وراء خيط»، ديوان «الآخر في عتمته» كان أيضا اسما لمعرض تشكيلي. هناك لغة واحدة في العمق لكنها تتشكل بطرق متعددة.
إضاءة 77 جماعة أدبية بمصر ظهرت في السبعينات وأصدرت مجلة بهذا الاسم كان لها أثر كبير في الوسط الأدبي المصري.

النهار الكويتية
30 يناير 2008