ينتمي الشاعر محمد آدم إلى جيل السبعينيات على الرغم من نأيه بنفسه عن كثير مما أتاه هذا الجيل سواء بتكوينه لجماعات أدبية أو مواقفه الشعرية. اشتغلت تجربته بشكل مبكر على اللغة والجسد والنثر فكان لها خصوصيتها ومغايرتها. تخرج في كلية الآداب جامعة عين شمس قسم الفلسفة وصدر له: متاهة الجسد (الأعمال الشعرية) ,1988 كتاب الوقت والعبارة 1992
أنا بهاء الجسد واكتمالات الدائرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب ,1992 هكذا.. عن حقيقة الكائن وعزلته أيضا ,1995 نشيد آدم، وقد ترجمت نصوصه إلى اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية.. وفي هذا الحوار معه نتعرف الى رؤاه وآرائه في الشعر.
تنتمي إلى جيل السبعينيات لكنك لم تنخرط معه ولم تشاركه الكثير من رؤاه وفعالياته حتى لتبدو خارج سياقه، هل لك موقف محدد وكيف ترى الى هذا الجيل؟
لا أعرف حكاية الجيل هذه، أنا اكتب وكفى، ألا يكفي أن أكتب حتى أبرر وجودي، ألا يكفي أن أمسك بالورقة والقلم لأكتب نصا جديدا حتى أقول لنفسي إنني موجود، حي، أكتب وأمتهن الحياة. الجيل هنا كلمة مراوغة، خادعة، لأنه لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه جيلاً بالمعنى الاصطلاحي للمجايلة، إلا إذا كنت تقصد هذه الملامح المشتركة التي تربطني بجيلي. لا يوجد ثمة رباط مشترك بيني وبين جيلي، أنا أعمل في جزيرة منفصلة عن الآخرين، ربما لا نتقابل إلا نادرا مثل سفن فضائية عابرة للقارات والمحيطات بل وكافة المدارات، أغلب أبناء جيلي سقطوا ضحية أدونيس، البعض كرره بشكل مطلق وأعمى والبعض الآخر حاول أن يتتلمذ على يديه وأن يحذو حذوه، النص بالنص كما يقولون، لدرجة أن أحدهم وهو عبد المنعم رمضان قال كلمة غريبة، لا أظن أنها تصدر عن شاعر حقيقي، قال: كانت أمي عاقرا إلى أن أتيت هكذا !!
الكتابة الحقيقية جهد فردي حقيقي، إبداع شخصي محض، إنها نوع من الاكتشاف، المغامرة اكتشاف خاص جدا، ومغامرة شديدة الخصوصية ولا تنتسب إلا لصاحبها وإلا أصبحت الكتابة كتابة لقيطة تتعيش على جهد الآخرين واكتشافاتهم. لم أشأ أن أرتبط مع أحد من أبناء جيلي أي نوع من الارتباط، ماذا يعني الجيل بالنسبة لنجيب محفوظ مثلا، أو كافكا، أو ديستويفسكي، ماذا يعني الجيل بالنسبة لأراغون أو سان جون بيرس، أو حتى لجماعة السورياليين وإن اختلف الأمر هناك بالنسبة. هناك ثقافة مترابطة تخضع أو تخضع نفسها للمساءلة والشك طوال الوقت بحيث تتجدد وتجدد نفسها عن طريق عمليتي الهدم والبناء اللتين أشرت إليها سابقا. أما هنا فمسألة الجيل لا تمت إلى شيء من ذلك على الإطلاق، إنها عملية أقرب إلى العصابة المسلحة منها إلى المفهوم الفلسفي والجمالي بحيث يجب أن تحكم وتربط مفهوم جيل ما أو بعض أفراد من هذا الجيل بالنسبة للحركة السوريالية في أوروبا أو جيل 98 في اسبانيا، كان هناك مفهوم جمالي ما يجمع بين أفراد هذه الحركة أو هذا الجيل، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن فورا ما هو المفهوم الجمالي والفلسفي الذي يحكم هذا الجيل، أقصد جيل السبعينيات في مصر، لا شيء، لا شيء على الاطلاق، فليس لأحد منهم على الاطلاق أي مفهوم جمالي أو فلسفي يمكن أن يشكل اللبنات أو البناء الفلسفي الذي تنضوي تحته كلمة الجيل. دائما الأمر بصراحة، هو نوع من الاحتماء، مجموعة من الأفراد تريد أن تكتب الشعر، سمه ما شئت، بطريقة مختلفة، بصياغة مختلفة، في مواجهة حركة شعرية استقرت إلى حد ما وفقدت ثورتها وتحددت في طريقين رئيسيين، صلاح عبد الصبور باعتباره رائد مدرسة في الكتابة، وأحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل باعتبارهما يمثلان طريقا آخر في الكتابة. هذا الجيل أو بالأحرى هؤلاء الشعراء يريدون أن يختلفوا عن هذين النمطين، حاولت أن أعرف من أين يجب أن تبدأ الكتابة، الكتابة ليست عملية سهلة أو هينة. ولما كنت بطبعي أنفر من هذه المجموعات التي هي أقرب إلى القطعان، آثرت أن أظل بعيدا، آثرت أن أظل على بعد أميال من هذه الجماعة أو تلك حتى لا ينحرف تفكيري، أو تتأثر كتابتي بأي نوع من أنواع الدوغمائية. أن اكتشف نفسي بنفسي من خلال حياتي الخاصة، من خلال صراعي المرير مع الورقة البيضاء، هذه هي التجربة الحقيقية التي كانت أقرب إلى مزاجي الشخصي وتكويني.
هذا الأمر هو الذي جعلني أبعد بعيدا عن جيلي وغير معني بما يفعل. أنا أعرف شيئا فقط أن أقترب أكثر فأكثر من تجربتي الشخصية، أن أكتب العالم كما أراه أنا، لا كما يراه جيلي، أن أقبض باليقين على تجربتي الإنسانية، إلى أي حد نجحت أو فشلت في هذا أنا لا أعرف ولا يعنيني أن أعرف.
لست في سباق مع الآخرين، الكتابة لا تعرف هذا المفهوم على الإطلاق، الكتابة هي الالتصاق الحميم والواعي بما تعرف، الكتابة معرفة ووعي. بصراحة شديدة جدا ستكتشف أن ما يزيد عن 90 ٪ من الكتابة العربية لا تصلح إلا أن يلقى بها إلى المراحيض أو أن يعاد تصنيعها إلى مناديل كلينكس، لأنها سطحية وساذجة بل تصل إلى حد البلاهة. فلتذهب الشهرة إلى الجحيم إن كانت على حساب نصي الشعري أو كتابتي، هذا الأمر جعلني أفرض عزلة كاملة على نفسي لأكثر من خمس عشرة سنة لا أعبأ فيها بمن يروح ويجيء، كنت مهموما طوال الوقت بانجاز ما تسميه أنت المشروع الشعري.
اشتغلت تجربتك على اللغة حتى أصبحت إحدى خصائصها، فما رأيك بمقولة تفجير اللغة وهي مقولة انطلقت مع جيل السبعينيات؟
كان السؤال الأساسي الذي ينصب عليه عملي، هو هل تمثل اللغة مشكلة لي، هي تمثل عائقا وكيف يمكن قراءة العالم من خلال اللغة، وهل يمكن أن تكون اللغة بديلا عن العالم بحيث يضيع العالم في اللغة، وتحل اللغة محل العالم. هذا هو السؤال. والشاعر بما أن عمله الأساسي هو اللغة، فباللغة يكتب ويتحرك ويأكل ويشــرب، اللغـة هي البناءات والفضاءات المسكونــة بغـيره من البشر، عليه أن يقوم بعملية إعادة إشـغال أو تعمير إن جاز استخدام هذا التعبــير للغة، إن اللغة هي هذه الصحراء المترامية الأطراف، هي هذا الرمل الكثيف، المتراكــم، المتكــوم، المأهــول، وما عليك إلا أن تقوم بإعــادة تخصــيب هذه المادة بحسب ما تملك من وعي وثقافة ومعرفة كي تعيد تشكيلها من جديد بما يتراءى لك، أنت مالك اللغة وسيدها، هي ليســت معطـى سابقا بالنسبة لك، دائما تولد اللغــة من خــلالك وبك في تلك اللحظة التي تقدر فيها أنـت استــخدام هذه الكلمة بدلا من تلك، واستخــدام هذا الحرف بدلا من ذلك، من هنا يمكن أن تشبه الشاعر بالكيميائي أو بالأحرى السيميائي القديم، ذلك الساحر الذي يبحث عن الذهب طوال الوقت. إنه وهم السحر والرغبة المتواصلة في حدوث المعجزة.
من أين يأتي تفجير اللغة؟ وكيف يمكن تحطيمها؟ وهي الحامل والمحمول في نفس الوقت، إذا كنت تقصد بتفجير اللغة هذه الدرجة من الوعي باللغة، فأنا معك، تفجير اللغة لا يأتي من خارج إطلاقا، بل يأتي من اللغة ذاتها ويمر بمنافذها ومسالكها. إن تفجير اللغة يتم باللغة ذاتها ولا يمكن أن يحدث إلا عبر معرفة كاملة وتامة باللغة ومفاهيمها وأنساقها وطرائق أنسجتها وأبنيتها المتشابكة. إنها عملية شاقة مربكة.
تفجير اللغة هو باختصار أن تصبح اللغة بلا عبء على اللغة.
الجسد
أيضا اشتغلت تجربتك على الجســد، ما مفهومك للجســد وكيــف ترى الى حضـوره في القصيدة العربية الحديثة؟
الجسد الإنساني في الثقافة العربية مغترب ومهمش، غير مسموح الخوض فيه وليس أدل على هذه الثقافة المزدرية للجسد والمحتقرة له من قول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (الجسد لفظ والروح معنى) أو (الجسد قيمة الروح)، هنا كان علي أن أوسع من مفهوم الجسد، فأنا حدود جسدي وليس العالم سوى ما أملكه من هذا الجسد بقدر ما يحمل من نوازع وشهوات، كيف يتسنى لي أن أدخل الجسد في منظومة الثقافة العربية العرجاء. من هنا اتخذت أعمالي الأولى الالتفات إلى فكرة الجسد، واعتبرت أن الجسد الإنساني هو الأولى والأكثر أهمية بالاحتفاء والاحتفال، الاحتفال بكل ما هو جسداني أي شهواني. الشهوة أساس الوجود، الوجود يتحرك ناحية الوجود بالشهوة التي أساسها الحب أو المحبة الإنسانية، فبدون شهوة الوجود ما كان لهذا العالم أن يكون، الشيء الرائع في الأمر والذي حدث بعد ذلك أن جيلا كاملا من الشعراء وهو الجيل التالي لي قد انخرط في الكتابة عما يسمى الجسد، وبدلا من أن يتم تعميق مفهوم الجسدانية وسبر أغوارها وملاحقة تجلياتها على الإنسان والواقع، تحولت الكتابة الجسدانية من كتابة عن فلسفة الجسد باعتباره تصورا وفكرة وعالما إلى ما أسميه بالكتابة عن الأعضاء الجنسية بكل ما تثيره من تقزز وقرف، وهذا باعتقادي راجع إلى ضعف الثقافة لدى هؤلاء، فهم لم يقرأوا التراث جيدا، ولا انتبهوا إلى لحظات الوعي المضيئة الرائعة في داخل هذا التراث، كي يتم الاشتباك معها سواء بالرفض أو بالقبول من داخل النص الثقافي أو السياق المعرفي العام لهذه الثقافة.
نعود إلى جيل السبعينيات وتقييمك لما أنجز وعلاقته بالأجيال التالية عليه وموقفه منها؟
هذا الجيل باختلاف أفراده وتعدد مستويات شعرائه، بدا كأنه يريد خلق كل شيء من الأساس بدءا من العالم، التصورات، وانتهاء بالشعر، الأمر الذي أغرى معظم شعرائه الكبار بما يسمى بمحاولة التجريب المستمر، كأن كل نص مغامرة دائمة، لا ثبات لشيء، ولا ركون إلى نص بعينه باعتباره يمثل الأساس الذي يجب أن يبني عليه هذا الشاعر أو ذلك، الأمر الذي حدا بناقد كبير مثل د. عبد القادر القط الى أن يفرد له بابا مستقلا في مجلة «إبداع» التي كان يرأس تحريرها يسمى باب تجارب، كان هذا الباب بمثابة الحل العبقري للخروج من مأزق عدم فهمه لهذه المجموعة من النصوص أو تلك، والتي تخرج عن كافة الأعراف التي كاد الشعر العربي يصل بها إلى طريق مأمونة أو مطروقة، هي تجارب جيل الرواد من صلاح عبد الصبور، والبياتي، وأدونيس إلى آخر التجارب التي رأينا أنها أيضا وصلت بالشعرية العربية إلى طريق مسدود، إلى أفق ضيق، ولا يسمح بالتجاوز أو التخطي. كل هذا الأمر جعل النقاد يتخوفون من هذه التجارب ويبتعدون عنها لإغراقها في الغموض ربما أو دخولها في مناطق أشد وعورة، وفي ما هو غير مسموح للنص الشعري في الدخول فيه، كان لدينا رغبة في التجريب والمغامرة إلى أبعد حد، فكان أن دخلنا، كما قلت، إلى قلب التابوهات الثلاثة المحرمة: الله، الجنس، السياسة. لم يكن عندنا حدود أو هيبة لأي شيء، وأصبح النص الشعري أفقا مفتوحا على كافة الاحتمالات، تعرف متى يبدأ ولكنك لا تعرف متى ينتهي. لا أقول إن هذا الكلام ينطبق على كافة الجيل السبعيني في مصر وإنما أعني هذه القلة من الشعراء التي كانت تملك مشروعية الكتابة، هذا الوعي المؤسس الاستاطيقي والفلسفي. والبعض الآخر، أقصد البعض الآخر من جيلي، استراح إلى ما أنجزه أو ما قدمه، أو بالأحرى إلى نموذج ما في الكتابة وحقق به شهرة ما، فاستكان إلى هذه الشهرة التي تدغدغ حواسه، وكان يبحث عنها بالأساس فلما وجدها اطمأن قلبه إلى ما أنجز، وسأشير إلى نموذجين في هذا الأمر هما حسن طلب وعبد المنعم رمضان اللذان يمثلان الطمأنينة ودغدغة مشاعر الجماهير، واستراح من الغنيمة بالإياب كما يقولون. أما الأساس الذي انطلق منه جيل السبعينيات باعتبار أن النص الشعري هو حالة من التجريب المستمر والمتواصل، وإن التجربة الشعرية لكل شاعر لا تقاس أو تقيم بقصيدة أو مجموعة من القصائد، وإنما بكل ما أنتج، بدءا من أول حرف إلى آخر حرف في كل منجزه الشعري، أو على الأقل هذا هو تصوري الخاص بالنسبة للكتابة الشعرية، في الشعر لا توجد لحظة وصول أبدا، وإنما محاولات دوؤبة ومستمرة من أجل القبض على لؤلؤة المستحيل إن لم يكن المستحيل بعينه. أما أثر انعكاسات هذه التجربة على الأجيال التالية، هذه الأجيال لم يكن لها وجود بالأساس إذا لم نقم نحن بحراثة الأرض وعزق التربة وغرس البذور، والانتظار لسنوات طوال حتى تستظل هذه الأجيال بالغابات الهائلة التي قمنا باستزراعها في صحراء الشعر المصري.
قصيدة النثر
كيف ترى الى مشهد قصيدة النثر في مصر الآن؟
الوضع مخزن في الحقيقة، البعض اعتقد خاطئا أنه ما دامت القصيدة وصلت الى مرحلة النثرية وتخففت كثيرا من عبء الوزن الخليلي المعروف وتفعيلاته المربكة المتشابكة المعقدة، والتي كثيرا ما أثقلت النص وأضاعت كثيرا من المعنى، أقول إن البعض قد استفهم من ذلك الانجاز أن العمل الشعري أصبح الآن سهلا وأنه لم يتبق أمام الشاعر الآن أن يرص كلاما يشكل في نهاية الأمر قصيدة ما. بل الأدهى أنه راح يطالب بحقه في الانجاز، وأن حلقات الشعراء التي سبقته والمحاولات التي أنجزت على درب الشعرية العربية ما هي إلا هراء وليس لها من الشعرية نصيب بما في ذلك انجاز جيل الرواد، زاعمين أن اليومي هو سيد المشهد وأن النص النثري الحديث بتخليه عن البلاغة القديمة قد أحدث انجازا هائلا وغير مسبوق، بل والأكثر من ذلك، أصبح التراث تافها وان كل ما أنجز في الشعرية العربية تافه، وأن الشعر يبدأ من هنا والآن به، ويجب كنس الشعر العربي بكامله بمكنسة هائلة وإلقاؤه للنيران.
هذا الأمر هو الذي أدى إلى ما يمكن أن أسميه فوضى الشعر أو الشعرية الزائفة، أقول إنك تقرأ نصا واحدا مكررا، إنه هذا النص الذي يتعامل بوقاحة مع اللغة بالإضافة إلى فقر التجربة وانعدام الخيال، لم تعد هناك التجربة التي تقبض على العالم بكلتا اليدين وإنما هناك كتابة تتحدث عن العالم، تراه من خارج على بعد خطوة أو خطوات وكأن العالم لا يعنيها في شيء. انعدمت الرؤية الداخلية للشاعر وغاب عنها ذلك الاستبطان الحي للغة والمشاعر في آن واحد. والأخطر من ذلك أن هذه التجارب لا تشم فيها رائحة لغتها ولا بيئتها ولا تراثها أو ثقافتها، إنها أقرب إلى الترجمة الركيكة للشعر من دون أن تأخذ حتى من الشعر جمالياته وتألقاته.
السفير
29-12-2007