محمد برادة المغربي الذي قضى حياة جمع فيها النضال السياسي والنقد الأدبي، والذي كان في عهد الاستبداد الملكي رئيساً لاتحاد الكتاب المغاربة، يعيش الآن في فرنسا بعد أن تنقل بين القاهرة والمغرب وباريس ولا تزال القاهرة موطن ذكرياته الأقرب.
محمد برادة لا يزال الناقد الملحاح، ولكنه منذ عهد بعيد أضاف الى مهنة الناقد مهنة الراوي، وكان نصيبه من الرواية مهماً مثل نصيبه من الشعر.
والآن وقد قعد عن النضال، لا يزال في باريس يواصل مهنتيه النقد والرواية ويطلع علينا من حين إلى حين بدراسة لافتة، أو برواية يغرف فيها من معين ذاكرته المغربية. معه كان هذا الحوار:
* في نصوصك الروائية المختلفة نلاحظ عن كثب الامتداد الموضوعاتي اي الاشتغال على نفس الموضوع في اكثر من نص ونسوق على ذلك مثالا : مواضيع الذاكرة والحب والمرأة. ما هو تفسيرك للتعدد الموضوعاتي في رواياتك؟
لا اظن انني كتبت في نفس الموضوع، لأن رواياتي تتناول فضاءات مختلفة وتتحقّق عبر اشكال متباينة... الاّ ان هناك اهتماماً بأسئلة تتصل بالذاكرة والحب والجنس والموت، لأنني عندما كتبت اول رواية كنتُ اقترب من سن الخمسين وكانت معضلة العلاقة بالزمن تحتل الجزء الأكبر من اهتمامي. والتساؤل عن العلاقة بالزمن هو في الآن نفسه تساؤل عن العلاقة بالموت والجنس والذاكرة. ومن ثم اوْليتُ اهتماماً للطريقة التي اكتب بها ذاكرتي من خلال فضاء روائي وشخوص ولغة معينة، مُتطلعاً الى القبض على ما اعتبره جوهرياً في الأزمنة التي عشتها. وهنا كان لا بد من الاختيار: اما اعادة استنساخ ما يسمى بالواقع وفي ذلك افقار له، وإما الاتجاه الى البحث عن طريقة لكتابة الذاكرة كتابة تعتمد الحذف والإضافة والتخييل، وتستحضر ما يضيء الواقع ويُغنيه... وقد اخترت الطريقة الثانية لأنها تسمح بالتحرّر من الواقعية الحرفية وتفسح المجال امام الابتداع والإبداع. الكتابة عندي عملية ذهاب وإياب بين التذكُّر والنسيان، بين الملاحظة والحلم، بين المعيش والمُتخيل... والتعدّد الموضوعاتي ناتج عن هذا المزج بين عناصر الواقع واللاواقع، لكن هناك اسئلة مشتركة داخل النصوص التي كتبتها، وهي تلك التي تسعى الى اعادة تملُّك الزمن المُنصرم واستيعاب محتواه، وبذلك تغدو الكتابة بمثابة تعويض لذلك الزمن الهارب باستمرار من بين اصابعنا.
* محكيات صيف لن يتكرر يحتفل بفضاءات مدينة القاهرة في ازهى لحظاتها انطلاقا من سحر اللغة المصرية والنكت وصولا الى الحقبة الناصرية التي تمثل صعودا قوميا عربيا اوحى لجيلك ان بإمكانهم امساك النجوم بأيديهم وتحقيق احلام العروبة المصاحبة، امر ثقافي ذو بعد قومي اليوم وعلى ضوء تجربتك الحافلة بالبحث والكتابة والعمل السياسي كيف تسترجع تلك الحقبة مقارنة مع حالة الركود التي تشهدها اليوم الدولة المدنية في مصر وبؤس الثقافة في هذا البلد الذي ترسخ في الذهن الجمعي العربي كمعقل للأدب والفكر العربي.
طبيعي ان تمر المجتمعات بفترات متفاوِتة من حيث الازدهار والتعثُّر، لأن مشكلة التوازن والانخراط في العصر تواجه مجموع الحضارات والثقافات... والحضارة المصرية عرفت فترات ازدهار وتأَلُّق خالدة في العهود الفرعونية. وفي مطلع القرن العشرين، عرفت مصر نهوضاً لافتاً للنظر من خلال مقاومتها للاستعمار البريطاني وتشييدها لأُسس ثقافة عربية حداثية، ولاقتصاد وطني اقتَرنَ بمشروع طلعتْ حرب والطبقة البورجوازية الناشئة انذاك؛ بل ان النظام الديمقراطي كان قد ارسى تقاليده الأولى. لكن الاستعمار من جهة، وقيام اسرائيل على ارض فلسطين مُعضّدة من بريطانيا والغرب، ادّيا الى اجهاض وعرقلة المشروع النّهضوي الذي كانت مصر تقوده... وعندما وصلت اول مرة الى مصر، وأنا في السابعة عشرة من عمري سنة ,1955 صادفت لحظة تاريخية نادرة، حيث ان الثورة الناصرية كانت ترسم افقاً جديدا لمقاومة فساد الملَكية والأحزاب، والتصدي للاستعمار وتواطؤ اسرائيل معه ضد حقوق الفلسطينيين والعرب. من ثم، كانت كل الآمال تبدو لي ولجيْلي دانية القُطوف. وحين كتبت «مثل صيْف لن يتكرر»، حرصت على ان استحضر عبر المشاهد والفضاء والكلمات والمغامرات، نكهة تلك الحقبة التي هي فترة انتقالي من المراهقة الى الشباب، ومن مناخ المغرب الى شساعة مصر المُلوّنة بالأفلام والأغاني والقصص والروايات. فعلاً، كانت اقامتي في مصر طوال خمس سنوات بمثابة عتَبة نقلتني الى فضاء مغاير في اللغة والعلائق والمعرفة والوعي. لكن ما كتبتُه يظل متصلاً بقيم جمالية - أدبية وبغامرة تسعى الى كتابة الذاكرة في تعرُّجاتها ومتاهاتها. وهذا قد لا يتعارض مع مَنْ يريد قراءة «مثل صيْف... » في وصفها شهادة عن فترة من حياة مصر.
محمد شكري
* عندما يذكر الاسم محمد شكري عادة ما يحضر اسم آخر هو محمد برادة. كيف لك ان تصف لنا علاقتك بكاتب من طراز محمد شكري؟
علاقتي بالمرحوم محمد شكري هي علاقة صداقة وتواطؤ في مجال الأدب. منذ تعرفت عليه في سنة 1971 والحوار مستمر بيننا، لأنني وجدتُه ناضجا في تفكيره، مجدّدا في كتابته، مجرّبا لخبايا الحياة وأسرارها... وعلى رغم اختلافات بيننا في طريقة العيش وتحليل الأوضاع السياسية، فإن صداقتنا ظلت قوية ومُسترسلة الى حين وفاته. لقد كان مؤنساً في جلساته، متفتحاً على الآخرين، مُقبلاً على الحياة. ومن ثم فإن صداقتنا كانت تغتني من الاختلاف ومن التواطؤ تجاه ضرورة التجديد والجرأة في الإبداع.
* يحتفي محمد شكري في كتابه الخبز الحافي بمدينة طنجة المغربية وبعوالمها رغم انها مدينة فقيرة بكل المقاييس في الوقت الذي وصفها فيه شكري كما ان كثيرا من الادباء الأوروبيين وغيرهم من ادباء العالم ينجذبون الى طنجة هل سحرهم شكري بهذه المدينة؟ ما هو السرالذي تخبئه مدينة طنجة؟
كان شكري يحب مدينة طنجة من اعماقه، لأنها المدينة التي فتّحت وعيه ووفّرت له اكتشاف متع الجنس والموسيقى الكحول... وطنجة التي سحرتْه هي طنجة الدولية في الثلاثينيات والأربعينيات، والتي كانت آنذاك مزدهرة ومختلطة ومعبرا قريبا من اسبانيا وأوروبا. لذلك عندما نتحدث عن طنجة، لا بد ان نستحضر تلك الصورة الأسطورية التي اكتسبتْها في الفترة الدولية والتي جعلت الكُتاب والفنانين العالميين يتوافدون اليها. لقد اقترنت في الأذهان بفضاء الحرية والتقاليع وممارسة الدعارة والمتاجرة في الأسلحة والمخدرات، وشبكات الجاسوسية؛ اي ان طنجة كانت تجسد صورة مصغرة لبعض العواصم العالمية الكبرى، وفي الآن نفسه تقدم للزائرين نمط العيش المغربي بتقاليده ومطبخه اللذيذ... طبعا عرفت طنجة تحولات كثيرة بعد استقلال المغرب سنة ,1956 وفقدت الكثير من ملامحها الأسطورية، الاّ انها تحافظ على موقعها الجغرافي المُميّز، وعلى بعض التقاليد الكوسموبولتانية.
* محمد شكري اسم ادبي مغربي وعربي وعالمي بارز لكنه اشكالي تدور حوله جدالات وسجالا كثيرة في المحافل الادبية حتى بعد وفاته ما زال يشغل الناس حتى اشيع بعد وفاته انه لم يكن صادقا عندما كتب في الجزء الثاني من سيرته الذاتية زمن الاخطاء انه تعلم القراءة في سن العشرين هل اضافت اشكالية شكري وغرابة اطواره وعبثيته الى رصيده الادبي وحولته الى شخصية مركبة يصعب على المرء معرفة خباياها؟
ليس صحيحاً ما اشاعه معلم قديم لمحمد شكري، بعد موته، من انه لم يكن هو الذي كتب نصوصه وأنه تعلم قبل سن التاسعة عشر... لقد قرأت كثيرا من مخطوطات شكري بخط يده، كما انني اتوفر على عدد من رسائله، وكل ذلك يثبت انه كان يتقن اللغة العربية ويعرف جيدا النحو والإملاء ولا يرتكب اخطاء في الكتابة... وهو لم يكن عبثياً، بل كان يحب الحياة ويقبل عليها بنَهَم، ويستوحي تجربته وفلسفته الخاصة في ما يكتبه. والذين ارادوا تشويه سمعته بعد موته هم جبناء لأنهم لم يمتلكوا الشجاعة لانتقاده عندما كان لا يزال على قيد الحياة.
* الكتابة هي تعبيرعن تناقضات عديدة ومتباينة داخل النفس البشرية وترجمة ثقافية واجتماعية لمجتمع ما هل يطابق هذا التعريف مفهومك للإبداع الروائي؟
من الصعب ان نعطي للكتابة تعريفاً واحداً، لأنها تنتسب الى مجالات متعددة :نفسية وثقافية واجتماعية ولَعِبيَّة... وعلى رغم ان الكتابة تستعمل اللغة فإن المبدع يحرص على ان يُبلور لغة خاصة به. وأظن ان الكاتب - مع تقدُّم تجربته - يدرك ان الكتابة لا تخضع فقط لإرادته، وأن لها منطقها الخاص الذي يتمرد على مقاصد الكاتب نفسه. صحيح ان الكاتب ينجذب الى التعبير عن تناقضات الحياة وتجلياتها المختلفة، الاّ انه يظل مشدوداً اكثر الى فهْم ذاته واستكناه اسرارها وغوامضها. من ثم فإن الكتابة هي قبل كل شيء، تذْويت للتجربة التي يعيشها الكاتب، اي محاولة لإضفاء فهمه الخاص ومشاعره المتفردة على ما عاشه في حياته الخاصة وأيضاً مع الآخرين.
* في السنة الجامعية الأولى لك بجامعة القاهرة كتبت قصتك القصيرة الأولى واستحضرت من خلالها مدينة فاس القديمة مرتع الطفولة وبعد العودة الى المغرب سنة 1960 انغمرت في العمل السياسي والثقافي وعملت على انشاء اتحاد الكتاب المغاربة والتدريس في الجامعة وانقطعت عن الكتابة طوال عقدين من الزمن، في تلك الفترة كنت مشدودا الى الحاضر ويراودك حلم التغيير الان وهنا ،ما الذي غير وجهتك وأعادك الى ميدان الكتابة هل عدت الى الواقع من خلال الإبداع الروائي والبحث والترجمة ،هل هو لجوء الى الذاكرة وحرية الكتابة واستحضار ماض جميل زاه بعيد عن خيبة الأزمنة الجديدة في حياة الإنسان العربي؟
في الحقيقة لم انقطع عن الكتابة عقديْن من الزمن، بل كنت اكتب دائماً في فترات متقطعة وكنت اعتبر نفسي مثل رسامي يوم الأحد. وخلال سنوات كنت اكتب في الصحافة باسم مُستعار، وأحيانا اكتب نصوصاً ثم اُمزقها... لكنني لم اكن متفرغا للكتابة نتيجة انشغالي بالتعليم في الجامعة وممارسة النضال السياسي والثقافي. في بداية الكهولة، قررت ان اكتب بكمية اكثر وبانتظام لأنني اقتنعت ان الكتابة لا يُعوضها نشاط اخر، وأنها تسمح بحرية اوسع في التعبير عن تجربتنا الحياتية تعبيراً جمالياً اكثر عمقاً ونفاذاً. بطبيعة الحال هناك فرق بين الفعل المباشر والفعل من خلال الكتابة، وأحدهما لا يغني عن الآخر. ومعلوم ان العمل السياسي معرض للتعثر ولكن ذلك لا يُلغي ضرورته؛ بينما الكتابة توفر مساحة اوسع من حرية القول والتخييل. الى جانب ذلك هناك مشكلة السن، فمع تقدم العمر لا يستطيع الإنسان ان يستمر في النضال وأن يغفل التأمل في ما عاشه والكتابة عنه اذا توفّر على الموهبة... أما خيبة الآمال فهي مسألة ملتصقة بالحياة والمبدع لا يستطيع ان يطمئن الى التفاؤل الكاذب. وروعة التجربة تتمثل في جانبيْها العملي والتأملي، السياسي والإبداعي.
* في كتابك «فضاءات روائية» تعالج مراحل وملامح الرواية العربية في مائة السنوات الأخيرة. كيف ترى الرواية العربية اليوم؟
عمر الرواية العربية لا يتجاوز المئة سنة الاّ قليلاً؛ ومع ذلك استطاعت ان تكتسب مكانة راجحة في الأدب العربي الحديث، لأنها استوْحتْ التحوّلات المتسارعة التي عرفتها المجتمعات العربية في هذه الحقبة، واستطاعت ايضاً ان تُطوّر ادواتها الفنية وأشكالها التعبيرية. والشيء اللافت في الإنتاج الروائي العربي، على امتداد الأقطار من دون فرْق بين مركز ومحيط، هو ان الخطاب الروائي قائم على النقد والنفاذ الى عمق المُعضلات والأسئلة: خطاب الرواية ليس مجاملاً ولا مسانداً للسلطة، بل هو يتغلغل في صلب المجتمع ويبتدع لغة جريئة متعددة المستويات والأصوات، لأجل التقاط الصراعات والسلوكات والفضاءات المختلفة. وعلى رغم الرقابة، استطاعت الرواية العربية ان تفرض صوتها في الداخل والخارج، وأن تتبوَّأ مكان الصدارة بين القراء.
* في كتابك «فضاءات روائية» تعتبر رواية عبد الرحمن منيف «سباق المسافات الطويلة» ورواية سليم بركات «فقهاء الظلام» ورواية غادة السمان «كوابيس بيروت» روايات مهمة تقارنها بروايات عالمية اثرت على الابداع الروائي وترجمت الى لغات كثيرة مثل «مائة سنة من العزلة» لماركيز و«مادام بوباري» لفلوبر. ما هو الأساس لهذه المقارنة؟
اعتقد ان القراءة المقارنة للروايات العربية والعالمية هي قراءة مضيئة وممكنة، على اساس ان شكل الرواية منذ التجارب اليونانية الأولى، مُروراً بألف ليلة ودونكشوت، ووُصولاً الى الرواية الجديدة في فرنسا وأمريكا اللاتينية والبرتغال والعالم العربي، هو شكل مفتوح اسهمتْ جميع الثقافات في اغنائه والإضافة الى مُكوّناته. ومن ثم اصبحت الرواية شكلاً كوْنياً قادراً على تجسيد اسئلة الحداثة ومُعضلاتها في هذا العصر المطبوع بالقلق والاستلاب والعنف والخوف... وهي سمات مشتركة بين الشرق والغرب مع اختلاف في التفاصيل والمستويات. والروائيون العرب الذين ذكرتهم، إلى جانب آخرين، قراوا عيون الروايات العالمية وتفاعلوا معها، ولذلك يمكن ان نجد في نصوصهم وجوه التقاء وتقارب مع نصوص روائية عالمية اخرى. وأساس المقارنة يشمل الشكل والأبعاد الإنسانية المُت تخطية للمستوى المحلّي.
شطحات استشرافية
* قال الناقد صبري حافظ ان روايات عربية ترجمت الى اللغة الانجليزية وقد لوحظ ان هذه الكتابات موجهة الى القارئ الاروبي اكثر من القارئ العربي من خلال تصويرها للمجتمعات العربية كمتخلفة وثابتة وبعيدة عن الحداثة بكلمات اخر تصف هذه الكتابات المجتمع العربي كما يتصوره الانسان الاوربي بما في ذلك التصور من شطحات استشراقية. الا ترى هذا الرأي معمما وغير منصف للادب العربي المترجم للغات الأوروبية اذا ما تحدثنا عن ابداعات الياس خوري وجمال الغيطاني وعبد الرحمن منيف ومحمد برادة وغيرهم؟
اظن ان الناقد صبري حافظ يقصد بعض الروائيين الذين يسعون الى فرض انفسهم على الترجمة عن طريق الكتابة في موضوعات تستهوي صحافة الإثارة التي تترصد عيوب المجتمعات العربية لتشنِّع بها... وهناك ايضا دور نشر اجنبية تبحث عن نصوص تتناول موضوعات الجنس والتزمت الديني، لتجذب القراء. لكن هناك روائيون يتناولون هذه الموضوعات من زوايا عميقة وفي اشكال فنية مقنعة. وأظن ان الترجمة الى اللغات الأجنبية لا تخلو من مشاكل لها علاقة بمعرفة ما يُنشَر في العربية، والحرص على اختيار الموهوبين... مع ذلك، نجد اليوم ان القراء في الغرب بدأوا يُقبلون على قراءة الرواية العربية الجيدة...
* الكاتب السوري رفيق شامي ابدع باللغة الالمانية كما كتب الروائي الليبي هشام مطر بالانكليزية واللبناني امين معلوف كتب بالفرنسية كما ان كثيرا من الكتاب المغاربة كتبوا بالفرنسية مثل مالك حداد واحلام السويف ومحمد ديب وكان لك سجالا صاخبا مع الكاتب المغربي الطاهر بن جلون احد المتحمسين للكتابة بالفرنسية عندما اكد في مقابلة تلفزيونية ان الكتابة بالفرنسية توفر حيزا اكبر للابداع والكشف عن خبايا الأمور ومكنونات النفس الانسانية بينما اللغة العربية لا تسعف على التعبير الصريح والكاشف لانها لغة القرآن ولغة مقدسة لماذا عارضت بشدة طرح ابن جلون وهل تعتبر ان الكتابة الروائية لمبدعين عرب باللغات الاجنبية مكسبا للادب العربي ومحفزا للتجديد في االكتابة الروائية العربية؟
انا افرق بين شيئيْن في هذه المسألة: الأدب الذي يكتبه عرب بلغة اجنبية هو امتداد للأدب العربي الحديث وجزء منه، يُغنيه ويُخصبه... ووجوده مُبرَّر اما لأسباب تتعلق بفترة الاستعمار، او لمقتضيات راهنة تتصل بالهجرة الى اوروبا وتداخل الثقافات... أما الجانب الآخر الذي كان موضوع نقاش وجِدال مع الصديق الطاهر بنجلون، فهو يتعلق بما قاله في جلسة تلفزيونية فرنسية من ان اللغة العربية لا تسمح بالتعبير عن الموضوعات الجريئة، خاصة الجنس، وأن الكتاب المعبرين بالعربية لا يجرؤون على ذلك لأن العربية هي لغة القرآن! انا اختلف معه، لأن اللغة لا يمكن ان تكون مقدسة، بل هي مرتبطة بالحياة وتفاصيلها، وخاضعة للتطوّر التاريخي. وفي العربية بالذات، نجد نصوصاً في منتهى الجرأة شعراً ونثراً، كما نجد اليوم روايات لا تقل في جسارتها عمّا يُكتَب باللغات الأجنبية؛ مثلا : روايات صنع الله ابراهيم ورؤوف مسعد ومحمد شكري، والطيب صالح وحنان الشيخ ورشيد الضعيف، واللائحة طويلة.
* يعتبر الناقد والباحث من مصر جابر عصفور النصف الثاني من القرن العشرين «زمن الرواية العربية» كما يرى الرواية وليس الشعر هي «ديوان العرب». هل هو زمن الرواي
زمن الرواية، زمن الشعر، زمن المسرح... هذه توصيفات مؤقتة ترتبط بالسياق المصاحب لتطور الإنتاج الأدبي في مجتمع ماّ. لكن القول بأن الرواية العربية تعرف راهناً اقبالاً وانتشاراً نسبياً، لا يعني انها تتفوق على الشعر لأن مجال الشعر يتوفر على مبدعين كبار وله متذوّقوه وعشاقه. انا ارى ان حظوة الرواية ترجع الى حاجة القارئ العربي لأن يرى نفسه في مرآة الرواية التي يسمح شكلها المرِن ولغتها المتعددة، برسم تفاصيل الحياة والتجارب والصراعات من خلال مشاهد وحوارات تسعف القارئ على استرجاع ما عاشه ويعيشه ليفكر فيه ويستوعبه. إن الرواية القائمة على التخييل تقترب من الواقع المعقد وتقدم عناصر قد يوظفها القارئ لفهم اجزاء من حياته الخاصة. الاّ ان هذه الميزة الروائية لا تتحقق الاّ على يد الروائيين الموهوبين!
مجلة شعر
* في هذه الأيام تحتفي الصحافة الأدبية في العالم العربي بخمسينية مجلة شعر. كيف ترى مساهمة مجلة شعر في مشروع الحداثة في العالم العربي الى اي حد تمثل هذه المجلة تجديدا في الشعر العربي باتجاهتها الحداثية المختلفة عندما تأثر مؤسسوها بشعراء ومنظرين من دول اوربية ذات تراث ثقافي حداثي مختلف ادت الى بلورة تيارات فكرية وأدبية مختلفة عبر عنها اعضاء المجلة مثل: يوسف الخال محمد الماغوط فؤاد رفقة جبرا وادونيس وسلمى الجيوسي وغيرها؟
مجلة «شعر » علامة بارزة في مسار الحركة الشعري العربية، لأنها جسّدتْ التّوْق الى التجديد والتفاعل مع الشعر العالمي لتعميق اشكال ومضامين التعبير الشعري. وقد مثّلت هذه المجلة وجهاً متقدما من المُثاقفة ينبني على الترجمة والفهم والحوار وإنجاز النصوص الخارجة عن المنوال التقليدي الموروث. لذلك تعتبر «شعر» احد المنابر الأساسية التي شيدت الحداثة الشعرية العربية المعاصرة.
* في لقاء معك قلت ان حضورك كناقد طغى على حضورك كمبدع هل هنالك ثمة علاقة جدلية بين النقد والابداع الروائي؟ وكيف وفقت انت في تجربتك الإبداعية في كلا المجالين بين نوعين مختلفين من الكتابة؟
لا اعتقد اننا نولد وعلى جبيننا الصفة التي ستلازمنا في مجال الإبداع :هذا شاعر وذاك ناقد الخ...؛ وإنما يتعلق الأمر بالاستعداد والممارسة. وأنا اعتقد ان كل مبدع يتوفر على حاسة نقدية ويمارس النقد بكيفية او اخرى، في حواراته الصحفية واختياره لشكل الكتابة... وبالنسبة لي، بدأت بكتابة القصة ثم احترفتُ التدريس وكتبت النقد انطلاقاً من مجال تخصصي الجامعي. وكتابة الرواية جاءت استجابة لحاجة داخل النفس ونتيجة لتجربة في الحياة والقراءة. المهم هو ان يقنعنا الناقد، حين يكتب رواية، بفنية روايته وتوفُّرها على خصائص الرواية...
* يدعي البعض ان الإبداع العربي تفوق كثيرا على النقد العربي ما هو تقييمك لمسألة النقد الادبي في العالم العربي اليوم؟
هذا الانطباع عند الناس مصدرُه ان الإنتاج الأدبي العربي اتسع كثيراً، وأن الوضع الاعتباري للناقد قد تغير فلم يعد هو ذلك المتدخل في المجال الاجتماعي والإيديولجي من خلال نقد النصوص الأدبية: لم يعد الناقد هو الذي يخوض جميع المعارك الثقافية والفكرية والسياسية، كما كان الشأن عند طه حسين مثلاً. الناقد اليوم يهتم بتحليل النصوص وتأويلها، ومحاولة استجلاء ما تقوله ضمن مقتضيات الشكل والعناصر الجمالية. ومن ثم فإن ما يُكتب من نقد هو كثير، لكنه يستعمل لغة متخصصة ويطبق مناهج قد لا يدركها القارئ العادي. وأنا لا اميل الى المفاضلة بين الأجناس التعبيرية، لأن كل جنس تعبيري له اجتهاداته وعطاءاته. المهم هو ان نسعى، نقاداً ومبدعين الى اعادة النظر في المنجزات ومحاولة صياغة اسئلة اخرى تستجيب لانتظاراتنا من الأدب والإبداع على السواء.
* كيف تقيم استفادة النقد العربي من المناهج النقدية التي تبلورت في الغرب هل سخر الناقد العربي هذه المناهج للاشتغال على النصوص المكتوبة في العالم العربي بنجاح رغم الفروق الثقافية والخصوصية الحضارية التي نمت فيها هذه النظريات (في اوروبا) ،وهل ترى في الأفق نظرية نقدية عربية؟
لا اعتبر مسألة الوصول الى «نظرية نقدية عربية» قضية مهمة، لأنها لا تقوم على اساس صحيح: ما دامت العلوم الإنسانية تقوم على جهود مشتركة بين مختلف الثقافات، وما دامت المناهج تتقاطع في مستويات التحليل اللساني والسوسيولجي والنفساني... ، فلماذا نفترض ان المنهج الذي سنحلل به نصوصنا يجب ان يكون «عربياًّ» والحال ان كثيرا من العناصر النظرية مشتركة، وبُذلتْ جهود عالمية لبلورتها. المشكل الأهم يتمثل في محاولة تعرّفنا على تلك المناهج العالمية تعرُّفاً يأخذ في الاعتبار النسبية والسياق التاريخي، ويفسح المجال للأسئلة المُتحدّرة من صلب النصوص الإبداعية العربية، اي على الناقد الاّ ينسى ان النظرية والمنهج هما مجرد وسيلة وليسا غاية في حدّ ذاتهما.
السفير- 1 فبراير 2008