سمر يزبك روائية سورية صدر جديدها منذ أيام عن «دار الآداب» اللبنانية للنشر، تحت عنوان «رائحة القرفة» ويسرد رشيقاً علاقة مثلية جمعت بين سيدة دمشقية وخادمتها. من خلال هذه العلاقة وبذريعتها نفسها تطل الكاتبة على عوالم سفلية ليست بالضرورة اختلالات جنسية بحتة، ففيها الفقر والعوز والخسارات الإنسانية وأولها دفء العلاقة بين الكائن، حياته، ظروفه، مجتمعه وقيود كثيرة تحول بينه وبين الرضى عن جديد سمر كان هذا الحوار:
*في جديدك الروائي «رائحة القرفة» نشعر بطاقتك على السرد، وخزينك الوافر من البوح والسرد، مع ذلك تلتزمين بالجملة القصيرة فلا تسترسل هذه أو تفيض على ضرورات المشهد. جملة رشيقة كما لو كاميرا تتنقّل سريعا على وجوه ومكامن ومواجع. هل تقصّدت التكثيف كشرط ينهض بفنية الرواية الحديثة؟
صارت علاقتي مع السرد مختلفة كلياً عن فكرتي السابقة عنه، السرد ليس منظومة أخلاقية وعقائدية جاهزة لنطلقها على القارئ، وفي نفس الوقت ليست هناك الرغبة في استعراض المهارات اللغوية في صياغة الجملة التي تنتابنا في الأعمال الأولى، أنظر إلى السرد الآن كمتعة؛ متعة للكاتب وللقارئ في نفس الوقت، لذلك كنت أجتهد لخلق عالم سرد مختلف عما كتبته، من قبل. اجتهد في صنع جملة قصيرة، كثيفة ذات دلالة وبلاغة. اجتهد وسأفعل هكذا دائماً، فكرتي عن هذه الرواية كانت محكومة بخلق سرد مختلف وفكرة جريئة في مشهدية بسيطة. سرد يبتعد عن المحلي، ويمكن أن يكون مشروع حكاية يستمتع بها أي قارئ في العالم، مهما كان انتماؤه الجغرافي أو الديني أو...، بالإضافة إلى شعوري أن السرد الروائي العربي بحاجة لنقلة نوعية على صعيد التكنيكك الفني.
كتبت «رائحة القرفة» مرتين، في المرة الأولى كنت ما أزل أتخبط في كلاسيكية السرد، وقد أرهقتني، تركتها طويلاً، قبل أن اقتنع أن السرد قد أرضاني، وبعد أن انتهت، شعرت بقفزات الجمل وبانسيابية محببة إلى قلبي فشعرت بالرضا، بالنهاية استطيع القول إني تقصدت التكثيف كمحاولة ـ لا أعرف إلى أي حد نجحت فيها ـ محاولة للبدء بسرد ورؤية حديثين لكتابة الرواية السورية، ولا أخفيك لا أتوقع ترحيبا عظيما بها، لأنها تبدو مختلفة عن «صلصال» ذات النبرة المحلية، «صلصال» كتبت بسرد كلاسيكي عن حكاية العسكر الذين حكموا البلد، هذه الرواية ستجعل الكثيرين يشعرون بخيبة أمل، لأن مقاييسها لم تكن ايديولجية، وكسرت السرد المتعارف عليه، وانضوت تحت بساطتها للحديث عن علاقة مثلية بين سيدة وخادمة.
*مقاربتك حالة العشق، أو العلاقة المثلية الأنثوية التي جمعت سيدة دمشقية وخادمتها، هل هي رغبتك الفعلية إلى رواية هذه العلاقة، أو هو الترميز لدى بعض الكتاب والكاتبات العرب، لقول الاختلال الواقع على ذواتهم الإنسانية، نتيجة قمع سياسي بالدرجة الأولى وينسحب هذا على أشكال حياتهم كافة؟
أولا هي رغبة فعلية في رواية هذه العلاقة، ولكن على ماذا تنضوي هذه الرغبة؟ هناك أمور كثيرة يمكن أن أقولها لك، مثلاً: لا يوجد شيء في عالمنا منفصل عن عالم السياسة، لكن المهم هو أن لا نقول ذلك بشكل مباشر. الحياة ملتبسة إلى حد كبير، ولكن اعتيادنا على علاقة دمرت السرد ـ برأيي على الأقل ـ هي فكرتنا أن الأدب خطاب سياسي، لا تنسي أن أغلب كتاب ومثقفي العالم العربي جاؤوا إلى الأدب من السياسة، والعكس قليل جداً.
عندما نكتب للمرة الأولى، نرغب في قول وجهات نظرنا عن العالم، وبعد ذلك قد نريد تمرير الحقائق عبر ما نكتبه، خاصة إن كنا نعتقد أن تاريخنا مزور، في هذه الحالة سوف تكون رغبتنا برواية الحكاية آتية من مكان لا ينتمي لعالم لحكاية، إنه العالم الذي يخربها ويحرمها سلاسة القراءة، وفنية الحكاية.
القمع السياسي متداخل مع القمع الاجتماعي والاقتصادي، ولا يمكن فك أحدهما عن الآخر. هناك طفلة في عمر العاشرة تترك أهلها لتخدم عند عائلة ثرية، وقبل ذلك تترك المدرسة وتعيش بين حاويات الزبالة لكسب لقمة العيش، لا أستطيع القول لك، إن ما حدث لها عند سيدتها منفصل عن واقعها، وعندما تتحول السيدة الثرية إلى معاشرة النساء خوفا من المجتمع، لا أستطيع الادعاء أن ذلك حدث بملء حريتها، ربما الأمور مختلفة في بلاد أخرى، لكن العلاقات المثلية في المجتمعات العربية المسلمة مختلفة كثيرا عن مجتمعات أخرى.
بالطبع قد يبدو هذا كلاماً تجريديا، لأن لكل إنسان الحق في تحديد طبيعة الجنس الذي يميل إليه، ولكن على شرط أن يكون ذلك من ضمن طبيعة شخصيته، ولا يضطر لفعل ذلك للحفاظ على لقمة العيش من جهة الخادمة، ولا باعتباره الخيار الآمن من جهة السيدة.
في النهاية كلتا الشخصيتين تعيشان وجودا عدميا بامتياز، كلتاهما تائهة وحزينة.
كتابة الصورة
*تبدو روايتك جاهزة للتحول إلى فيلم سينمائي، بما هي رواية متخلصّة من «ثقافويتها» وتعقيداتها، وأقرب إلى best sellers في ذائقة القارئ غير المتطلبة إلى حدّ، ما رأيك؟
لا أعرف إن كانت تنتمي إلى هذا النوع best sellers، هذه وجهة نظرك، وبهذا المعني هل على النص أن يكون محملا بالرؤية الثقافية المدبجة؟
جاهدت لجعلها «نوفيلا» لأن أفكارها قد تصدم القارئ، ولأني لم أعد أميل إلى بث الشحنات السياسية والثقافية العالية في السرد الروائي.
إن إحساسك بجاهزيتها للتحول إلى فيلم سينمائي ربما يكون له أسبابه، وهذا يعود إلى أني بالأصل أكتب السيناريو. وربما تكون المشهدية البصرية عالية عندي. وأنا مفتونة بهذا النوع من الكتابة: كتابة الصورة، لأنها الثقافة الجديدة التي ينبغي علينا اللحاق بها، والعمل عليها وتطويرها أيضا، ضمن أدواتنا. أقصد دون الإسفاف، ودون أن نجعل من الصورة المرئية عدواً لنا، لأنها بالأصل مستهلكة وخاضعة لأهواء السوق والسياسة والشركات الاحتكارية الكبرى، علينا اللحاق بالصورة ومتابعتها، إذا كنا فعلا معنيين بالثقافة.
*خط الضوء المائل، تستهلين به روايتك، ونلمحه قليلاً في هذا المشهد وذاك تحديداً الضوء الوحيد في الرواية وإن مائلاً. علاقات مثلية وعنف وقهر وفقر وعوالم سفلية لشريحة من النسوة الدمشقيات تحديداً. كيف احتملت روايتك القصيرة كل هذا اليأس، من دون ملمح حب حقيقي أو أمل ما؟
خيط رفيع جدا من الضوء، مائل، موارب، ومخادع، لأنه يكشف عوالم أكثر ظلمة مما نظن، لا أعتقد أن مجتمعات تنمو فيها العلاقات على أساس الاستلاب هي مجتمعات قد نلمح فيها مجالاً لأمل ما. أي أمل ومن أين يأتي؟! بالمطلق لا أرى في القريب المنظور وغير المنظور أي أمل بانفتاح على ملمح جمال في ما يحيط عالمنا، هذا ليس يأسا بالمطلق، هذا واقع، شعرت لو أني أعطيت الشخصيتين بعضا من نفحات السعادة والأمل لقمت بتزوير حقيقي لنفسي أولا، ولقمت بخديعة نصي، وبالأساس خديعة «حنان» و«عليا» شخصيتي «رائحة القرفة» وأنا أحب أن أكون نزيهة معهما، أحب اللعب معهما ولكن لا أحب خديعتهما. رغم ذلك لقد تركت السيدة تهيم على وجهها بحثا عن خادمتها، ألا تعتقدين إن في ذلك إشارة ما لرغبة دفينة بالحب؟ ربما تكون تحبها، لذلك تركت قصرها الصغير وصديقاتها المترفات وراحت تبحث عن خادمتها التي خانتها مع زوجها في الطرق الترابية، هذا أقصى ملمح للأمل استطعت الشعور به.
من جهة أخرى، النساء لم يكن دمشقيات تماما، كن يعشن في دمشق، ولكنهن ينتمين إلى بيئات مختلفة، الجغرافيا هي دمشق، «عليا» مثلا التي تنتمي إلى عالم دمشق السفلي المدقع الفقر كانت من أم فلسطينية، وأب سوري غير محدد الملامح..
إحدى صديقات حنان كانت من مدينة حلب... الأخرى كانت من الساحل، فدمشق لم تعد محصورة بالبيئة التي كانت عليها منذ زمن.
الساحرة
*بعض الكتاب يستلهم الواقع لرسم شخصياته. بعضهم الآخر يستمدها من خزينه الشخصي ، وذاته وخلاصته مؤلفاً نماذج مركبّة هي خليط من حيوات وحكايا الآخرين ما مصدر شخصيات روايتك ؟
هذا سؤال يربكني، من أين استمد شخصياتي؟ دائما أقول لنفسي هناك ساحرة تعيش في تلك المساحة بين جلدي ودمي، وهي ساحرة لا تنتمي إلى عالم الشر تماما، أو الخير بالمطلق، لكنها تدهشني بقدرتها على التخاطر والملاحظة والانتباه، وهي تجعلني أعيش أحلام يقظة، وتقوم بدور الجنية التي ترسم النجوم، هذه الجنية ترسم الشخصيات بدل النجوم. كيف يحصل ذلك؟ إنه أمر معقد، أنت شاعرة وتعرفين ذلك، تأتي الرواية كما تأتي القصيدة. جذر من الواقع ينمو في هواء الخيال.
لا شك أنني كنت قريبة من هذه العوالم، مثلاً عوالم «عليا» ابنة المنطقة التي تنتمي إلى حزام الفقر المحيط بمدينة دمشق، وقد بدأت علاقتي بها عندما كنت أحضر لسيناريو فيلم وثائقي عن أحزمة الفقر في دمشق، وكنت في زيارة مع مخرج صديق لالتقاط مجموعة من الصور لإحدى الحارات، لتحديد موقع تصوير.
توقفنا عند زاوية، عبارة عن مستنقع تفوح منه روائح غريبة وكريهة، وإلى جانبه تلة من القاذورات، فجأة خرجت فتاة في عمر السابعة تقريباً من وراء تلك التلة، ونظرت إلي بعينين حادتين، وهي تحمل في يدها كيساً من البلاستيك الأبيض فيه زجاجات فارغة، ونظرت إلينا بكراهية شديدة، كانت متوثبة ومتحفزة وجلد وجهها تخرج منه قطرات دم. اخترقتني نظراتها، وشعرت برغبة عارمة بالبكاء، وأنا أتفحصها شعرت أني انسحق تحت ثقل نظراتها، كانت تشبه حيواناً صغيراً، التقط صديقي المخرج لها مجموعة من الصور، واحتفظت بالصور في بيتي، علقتها على الحائط، ومنذ تلك اللحظة سكنتني، وذهبت معها إلى بيتها، وبقيت أتردد على تلك الحارة.
وحدث أثناء ترددي على حارة تلك الطفلة، أن كنا نقوم أنا ومجموعة من الصديقات ببحث حول «العنف ضد النساء» ومن ضمن الحوارات الصحافية التي شغلتني كان حواراً مع فتاة في عمر «عليا» أيضاً، حاولت قتل سيدتها التي خدمتها لسنوات طويلة، لأنها تحرشت جنسيا بها. وسط عملي الصحافي والتلفزيوني هذا وجدت «رائحة القرفة» لقد كنت قريبة جدا من هذين العالمين، العالم السفلي الشديد الفقر، وعالم النساء المترفات الثريات، المحاطات بالفراغ والوحدة والخيبة والمشبوه بعلاقات مثلية صامتة، يخشى الجميع من الإفصاح عنها.
بعد ذلك لن أستطيع معرفة كيف بدأت بأول كلمة من الرواية، كنت مفجوعة لفترة طويلة من الزمن بتلك العوالم البائسة والشديدة الفقر، ولزمني الوقت الطويل لأصدق أن هؤلاء الناس الذين يعيشون في تلك المناطق، الشبيهة بأوكار حيوانات يعيشون على مقربة مني، إنها قصص واقعية، وفي الوقت نفسه تنتمي لعالم الخيال، أحيانا أشعر أني جزء من الخيال أكثر من كوني امرأة تعيش في الواقع، في بعض الأحيان استيقظ من نومي، وأنا أظن أني صورة في كتاب فأتلمس جسدي، وأكتشف أني ما زلت كائنا من لحم ودم. وأحيانا أخرى أحلم أني أقرأ عن حياتي في رواية، وأشعر بالسوء لأني غير قادرة على متابعة القراءة، ببساطة لأنني شخصية في الكتاب المفترض!
لا أعرف كيف أبدأ برواية الحكاية، لكنها عندما تبدأ تصير جزءاً مني.
السفير
29 يناير 2008