«أين يقف النقد العربي اليوم؟» عديدة هي الإجابات التي نستطيع أن نقدمها، في قراءتنا للمشهد النقدي الراهن في العالم العربي، ومنها إجابات الناقد الأردني فخري صالح الذي يقدم في هذا الحوار قراءته الخاصة، من دون مواربة، ليدخل عميقا إلى قلب المسألة. مؤخرا زار صالح بيروت، وكان هذا اللقاء.
* لنبدأ مع النقد، أين يقف النقد العربي اليوم، وبخاصة أننا غالبا ما نسمع، عن «غياب النقاد»، بمعنى عدم متابعتهم الدوؤبة لما يصدر من أدب جديد؟
- أظن أن المشكلة الأساسية التي يواجهها النقد العربي في هذه المرحلة تتمثل في غياب المؤسسة الأكاديمية العربية وانشغال العاملين في أقسام الآداب المختلفة في الجامعات العربية بالترقيات والصعود في السلم الأكاديمي. فإذا قارنت وضع أساتذة الأدب في الجامعات العربية الآن بما كان عليه الأساتذة في مراحل سابقة ستجد أن الخمسينيات والستينيات كانت تنطوي على مشاركة فاعلة للمؤسسة الأكاديمية في الحياة النقدية العربية. منذ زمن طه حسين وأحمد أمين إلى زمن عبد القادر قط ومحمد النويهي ولويس عوض وإحسان عباس مرورا بالأجيال التي سبقت هؤلاء، لقد كان العاملون في المؤسسة الأكاديمية يشاركون بفعالية في النقاش الدائر حول الثقافة والأدب على صفحات الصحف والمجلات. ولقد كان هؤلاء، بالإضافة إلى معرفتهم الأكاديمية بالموضوعات التي يدرسونها بالجامعة، منشغلين بالتحولات التي تحدث على صعيد الشكل والموضوع وأعماق الكتابة ومشكلاتها بصورة لافتة. من هنا كانت مشاركتهم نابعة من انخراطهم في الحياة الثقافية العربية وليس انطلاقا من اهتماماتهم الأكاديمية الضيقة. ويمكن القول إن صيغة المثقف العام الذي يتصل بمحيطه السياسي والاجتماعي والثقافي هي التي كانت غالبة على الأكاديمي العربي في ذلك الحين، لكن المؤسسة الأكاديمية العربية الآن منفصلة عما يحدث على صعيد الثقافة والأدب وما يفعله النقاد الآنفون من المؤسسة الأكاديمية هو أنهم يطبقون ما تعلموه من نظريات على النصوص الأدبية ومن أن يفسحوا المجال للنصوص لكي تتكلم من داخلها. لذلك تجد أن آلاف الصفحات التي تكتب من قبل هؤلاء لا تضيف إلى النبض ولا تكشف عن النصوص، لقد سميت هذه الكتابة في يوم من الأيام «النص المدجج» بجهاز المصطلحات لإرهاب القارئ والتظاهر بالمعرفة.
ما أريد قوله هو أن عدم وجود مؤسسة نقدية في مقابل مؤسسة الأدب وانسحاب الظاهرة النقدية في العالم العربي قد ولد هذا التباين الحاصل بين الحيوية الإبداعية في الحياة العربية وانكماش النص النقدي. فأنت تشهد كل يوم ظهور نصوص شعرية وروائية وحالة تفجر للكتابة الإبداعية وظهور أسماء جديدة في الحياة الثقافية العربية لكنك في المقابل لا تشهد ولادة نقاد جدد. وأظن أن الوضع هو الذي يعطي الإحساس بغياب الحالة النقدية العربية التي كانت موجودة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وحتى إلى حدود الثمانينيات من القرن الماضي.
أزمة
* كأنك تشير في جوابك إلى غياب مفهوم «المثقف» عن الناقد الأكاديمي اليوم. فنصه المدجج بالنظرية، لا يعطي لكلمة ثقافة معناها الشامل. ثانيا، كيف تحدد هذا الناقد الجديد؟
- لم أقصد بالناقد الجديد شيئا مختلفا عن ما هو متحصل من كتابات نقدية في الثقافة العربية الآن، وما قصدته هو أنك لا تلحظ ولادة أسماء جديدة لافتة للانتباه في الحياة الثقافية العربية، فإذا عدت إلى فترة السبعينيات والثمانينيات، وكانت مرحلة شهدت صدور مجلة فصول المصرية عام 1981 برئاسة تحرير عز الدين إسماعيل، إذ ظهرت في هذه الفترة أسماء كمال أبو ديب وجابر عصفور ومحمد برادة وسامي سويدان كما ظهرت بعد ذلك أسماء عبد الله الغذامي وحاتم الصكر وأسماء عديدة أخرى أحدثت حيوية في الكتابة النقدية العربية وتفاعلها مع ما ينجز من نصوص في الشعر والرواية والقصة القصيرة والمسرح. وقد ترافق ظهور هذه الأسماء مع دخول البنيوية والبنيوية التكوينية ثم الدراسات الثقافية ومدارس ما بعد البنيوية وخطاب ما بعد الاستعمار إلى النقد العربي. أي أن هذه الأسماء التي ذكرت بعضها كانت واعية لحاجات النقد العربي في تلك اللحظة التاريخية وحالة انشقاق الكتابة النقدية عن الكتابة النقدية الواقعية والكتابة الانطباعية التي كانت سائدة في نصوص النقاد الذين سبقوهم. ومن ثم فإن بالإمكان القول بأن النقد كان مدركا للحظات التغير والتحول في الكتابة الإبداعية العربية. لكن هذه المرحلة التي نعيشها الآن والتي نشهد فيها كمّا غزيرا من الكتابات التي تصنف نفسها في خانة النقد لا تبدو وكأنها تحمل مشروعا. هناك نقاد جيدون بدون شك ينتمون إلى العقود الثلاثة الأخيرة، فهم يضمون شريحة عريضة من جيل السبعينيات والثمانينيات وكذلك التسعينيات، لكنك تظل تحس بأن هناك أزمة في المنجز النقدي العربي وأن حالة من التوهان يمر بها هذا النقد فهو يتأرجح بين الكتابة النقدية المنشورة في المجلات الأكاديمية المتخصصة التي لا يقرأها للأسف إلا عدد محدود من الناس. وتلك الكتابة المنشورة في الصحف والمجلات التي يقوم بها نقاد أكاديميون وصحافيون وروائيون وشعراء الخ.. وقد تدهش إذا قلت لك إنني أجد في كتابة المبدعين النقدية على صفحات المجلات والصحف نقدا أكثر إمتاعا مما يكتبه النقاد المتخصصون. فكتاباتهم رغم استرسالها وعدم لجوئها إلى جهاز مصطلحي محدد أو انتمائها إلى تيار نظري بعينه هي أكثر حيوية وكشفا وإضافة لمعرفتنا بالنصوص من تلك الكتابات النقدية المتخصصة. وأظن أن هذه المسألة تمثل مفارقة بالفعل تشير إلى حيوية الإبداع ووقوف النقد على مفترق طرق.
سأستعيد بعض القضايا التي طرحتها في إجابتك: أولا، ينبغي الاعتراف أيضا بأن هناك أزمة أخرى في بعض النصوص الإبداعية، لا النقد فحسب. ثانيا، إذا ما كانت بعض النصوص الإبداعية، تشهد على تحولات السيرورة الأدبية، فذلك عائد، لأنها عرفت كيف تقرأ تحولات السيرورة الاجتماعية أيضا، بينما النقد، عند البعض، لم يعرف كيف يقرأ انعكاس التحولات الاجتماعية، لأنه بقي واقفا عند بعض المفاهيم، ولم يعرف كيف يطبقها على أرض الواقع. والسؤال الثالث، كيف تشرح قدرة المبدع على الرصد النقدي، بينما لم يستطع المختص،
* المفترض به أن يتحدث عن ذلك، أن يصل إلى هذا الرصد؟
- أولا قبل الإجابة على سؤالك أريد أن أقول إن ما يلفت الانتباه في الإبداع العربي في الوقت الراهن هو الحماسة والاندفاع لكتابة نصوص مختلفة ومغايرة لما تعودنا عليه في الكتابة الإبداعية العربية سابقا. والجرأة على خرق التابو وتكسير الحدود بين الأجناس الإبداعية والجرأة على البوح والتأثر بقوس رائع من الإبداع في الشعر والرواية والقصة على مساحة الثقافات البشرية المختلفة، أما النقد ولأسباب تتعلق بكوننا نستورد النظرية كما نستورد السيارة والطائرة والطعام ومئات الأشياء الأخرى فهو لم يجرؤ صنع جهازه الاصطلاحي الخاص به، انطلاقا من النصوص ذاتها، فقد سجن نفسه في تركيب محدد سلفا وتعلق بكليشيهات ليعيد سردها حول العلاقة بين الكاتب والنص والقارئ واكتفاء النص بذاته وعلاقة النص بسياقه السياسي والاجتماعي وتعبيرات متعلقة بالمفاهيم السردية على سبيل المثال دون أن يقرأ على وجه الحقيقة ما تقوله النصوص لأنه منشغل بالنظرية التي لا فضل له فيها أكثر من انشغاله بالنص الذي يكتب عنه ولهذا تجد أن عددا كبيرا من النقاد يقدمون لكتاباتهم النقدية حول الأعمال الأدبية بمقدمات نظرية طويلة قبل أن يدخلوا في تحليل النصوص. وعندما تقارن بين المقدمة النظرية والتحليل النقدي يقوم به الناقد، ستجد أن الصلة بينهما واهية وشبه غائبة لأن الناقد ينقل في مقدمته النظرية عن الآخرين ثم يتحول في تحليله النصي إلى ناقد انطباعي. أي أن هذا الناقد يقوم بتلبيس النظرية على النص، ولا يقوم بعمل خلاق في الاستفادة من النظرية لصالح الكشف عن دواخل النص وطاقاته الإبداعية واختلافه عمّا سبق وقدرته على الإضافة إلى الإبداع العربي أو الإبداع الإنساني. فيما تجد النوع الآخر من النقاد غير المتخصصين يذهب مباشرة إلى قلب النص دون محاولة لإقناع القارئ بمعرفته النظرية. وهذا لا يعني طبعا أن كل الشعراء والروائيين الذين يكتبون نقدا أو انطباعات نقدية قادرون على لفت الانتباه إلى ذكاء نصوصهم النقدية ولا يعني أيضا أننا لا نجد نقادا متخصصين قادرين على الإضافة إلى معرفتنا بالنصوص الإبداعية التي يكتبون عنها. فهناك نقاد جادون وخلاقون بالفعل لكن عددهم قليل وأخشى أن يتناقص عددهم يوما بعد يوم، لغياب الإعداد النقدي الحقيقي في الجامعات وفي الحياة الثقافية.
مساحة ضيقة
* من هذا المنطلق، الخشية أيضا، أن يصاب النص الإبداعي بهذا الغياب للذكاء؟
- طبعا، غياب النقد الخلاق يؤدي إلى حالة من الفوضى في الحياة الثقافية وعادة ما يستطيع الناقد الذكي اللماح إعادة تأطير وكشف ما هو جدير بالانتباه في النصوص المكتوبة في مرحلة تاريخية معينة. فالقارئ في وقتنا الحاضر لم يعد يعرف ما هي النصوص المميزة التي يجدر به قراءتها وذلك لا يتعلق بالناقد فقط بل يتعلق بالوسائل الإعلامية التي يبث من خلالها النقد، فعلى الرغم من كثرة عدد الصحف والمجلات والإذاعات والمحطات التلفزيونية في العالم العربي إلا أن المساحة التي يحتلها النقد في هذه الوسائل الإعلامية هي مساحة ضيقة ولم يعد النقاد مؤثرين في الاختبارات القرائية للناس. إن بإمكان ممثل أو مطرب معروف أن يوجه الشباب الذين يحبونه إلى القراءة أو إلى قراءة كتب معينة أكثر من النقاد. وهذا يعود إلى انسحاب المؤسسة النقدية من الحياة العامة وشيوع ظواهر إعلامية استهلاكية وغياب الهالة التي كانت تحيط بالناقد في ما مضى. فليس هناك ناقد الآن يتمتع بالحضور الباهر الذي كان يتمتع به طه حسين على سبيل المثال. وهذا أمر يحتاج إلى تحليل واستقصاء ينبغي أن يقوم به علماء الاجتماع ومتخصصون في علوم إنسانية مختلفة ليس بالإمكان القيام بجهدهم من قبل ناقد أدب.
* هل تقصد أن هذا العمل الذي ينبغي أن يقوم به علماء اجتماع ومتخصصون، ينتمي إلى ما يعرف اليوم بالنقد الثقافي، أي إعادة قراءة ثقافتنا من جديد؟
- أظن أولا، في سياق معرفتي المتواضعة بحالة العلوم الإنسانية في العالم العربي يمكن القول بأن هذه العلوم تعاني من شبه غياب في المؤسسات الأكاديمية العربية. في ظل ضعف ميزانية البحث العلمي العربي التي تبلغ جزءا من واحد في المئة في الدول العربية المختلفة لأن الجامعة ليست مكانا للبحث العلمي بل هي تجد أن وظيفتها في تخريج الطلبة قط ولذلك لا تتوجه في برامجها لدعم البحث العلمي وفي ظل هذا الغياب للبحث الاجتماعي العربي قد يوفر الناقد الثقافي بديلا لهذه الحالة من ضعف البحوث العلمية وأنت تعرف أن الناقد الثقافي يمثل جمعا بين تخصصات مختلفة من ضمنها النقد وعلم الاجتماع وقراءة النصوص ومعرفة كيف تتحول الأفكار والمفاهيم وتتوظف في سياقات اجتماعية وتاريخية على اختلاف ما بين التيارين الكبيرين في النقد الثقافي اللذين يتألفان مما يسمى المادية الثقافية التي يمثلها الروائي والناقد البريطاني الراحل ريموند وليامز وتيار التاريخانية الجديدة الذي استلهم أفكاره من الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، وكلا هذين التيارين يقرآن الظواهر الثقافية وحتى الاجتماعية والتاريخية بطرق مختلفة. وأتمنى أن يكون الناقد الثقافي العربي قادرا على التمثل العميق بهذين التيارين ولا ينشغل بعناوين فاقعة وملاحظات سطحية تقرأ الظواهر الثقافية العربية والاجتماعية والتاريخية بوصفها عناوين ليقول هذا الناقد بموت النقد هو نوع من التعليقات والموضات التي تجعله مختلفا عما سبقه من نقاد...
السفير
6-1-2010