حفل ليل السبت الفائت الذي أقامهُ تريو آل خليفة (مرسيل ورامي وبشار) ضمن فعاليات مهرجان بيروت للموسيقى، لم يمّر على تمامه عند كل الحضور كما شاء له فرسانه الثلاثة، فالارتجال والتجريب وحرية الموسيقى، سمات الحفل، أثارت الكثير من الأسئلة، عند جمهور مرسيل تحديداً، الذي نزل الى الواجهة البحرية مكان الحفل لسماع خليفة برغبته في استعادات غنائية، حنينية ورومانسية، متجاهلاً لاإرادياً على ما بدا، الإعلان والتوضيح والإقرار من مرسيل وأبنائه في مؤتمرهم الصحافي الذي عقدوه قبل الحفل، بشراكتهم سواسية في فقراته الفنية، المفتوحة على الجديد والتغيير بكل المعاني. هذا لا يعني أن معنى ومرام وغاية هذه الموسيقى لم تكن متعة واكتشاف أغلب الحضور، سوى اننا لا بدّ من أن نتوقف عند أسئلة البعض، التي خلقت حالاً صحيّة، قابلة للحوار الذي شئناه هنا مع مرسيل خليفة، لعل أجوبته تُدخلنا الى قلب مشروعه الموسيقي المتحرّك والمتجدّد كما يجدر بأيّ أمر، من اجل عالم أكثر حرية بكل المعاني الفنية والإنسانية.
* ما الذي حاولتموه، أنت ورامي وبشّار في سهرة «مهرجان بيروت»؟
- كُنَّا نَحن الثَّلاثة في أمسِّ الحاجة، وأكثر من أيِّ وقتٍ مضى، إلى تغيير قوانين اللُّعبة في الحياة الموسيقيَّة عندنا، وإلى هزِّ الغارقين في التَّوازنات والاعتبارات الفنِّيَّة الجديدة، وإعادة النَّظر بالثَّوابت وألاَّ نترك الأشياء على حالها، إلى الأبد. وأن نُعبِّر بأدوات فنِّيَّة جديدة تتَّفق مع متطلِّبات تطوُّر الإنسان في عصرنا.
حاولنا في هذه المؤلَّفات والعزف، إنتاج الصَّوت الموسيقيّ الَّذي يستطيع انتشال الإنسان من حياته اليوميَّة. إنَّ المتعة تبدأ عندما تُفهَمُ اللُّغة الَّتي تقال، وعندما يعني ما يُقال شَيئًا بالنِّسبة للمستمع، وعندما يكون نطاق التَّجربة من الاتِّساع بحيث تشمل جميع العواطف والأفكار الكامنة في الموسيقى الَّتي تستمع إليها.
إنَّ التَّوصِيل لَيسَ سِوى فَهم ما يَقوله الآخرون على ضوء الخِبرَة والمعرِفَة. وَالارتِجال الَذي كان له مساحة في عملِنا الأخير، كان عُنصُرًا حاسِمًا، مِن خِلالِ انتِقالِ الموسيقى في الشَّرقِ بِالتَّواتُر الشَّفَويّ، غَير أنَّ نَزعات الارتِجال العميقة الجذور في موسيقانا، وَجَدنا لَها مجالات ومتنفَّسات أخرى، في الظُّروف والملابسات الرَّاهنة للحياة الموسيقيَّة، وفي مستوى فَنِّيّ يَختلف عمَّا كانت عَليه، هنالك عوامل عِدَّة تُطوِّر وتُبدِّل فَنَّ الارتجال وَتَضعه أمام تَحدٍّ تأليفيّ كبير. والموسيقى نُحِسُّ بها ولا نُصَنِّفُها، ولا نُطلِقُ عليها الأسماء والتَّقسيمات. كُلُّ هذا قَتلٌ لِمعنى الموسيقى.
* هل تدخل الموسيقى هنا في باب التسلية، أم ثمة ما هو أبعد؟
- الموسيقى هِيَ دائِمًا للتَّسلية إمَّا بالمعنى العميق، أي بالمعنى الرُّوحيّ والفكريّ، وإمَّا بطريقة أكثر سطحيَّة، وهناك أيضًا الموسيقى الَّتي تتحدَّى العقل، والموسيقى الَّتي تقتصر على إدخال السُّرور على النَّفس أو تُدَغدغ الآذان.
* هل وضعت في ذهنك قبل الحفل، انه يأتي على هذه الدرجة من التجريب، والجنون الذي وُصف به؟
- عِندما قدَّمنا هذا العمل، لم نضع في ذهنِنا نَوعًا معيَّنًا من الجنون، كان عندنا أفكار بحاجَة إلى أن نطوِّرها لِكلّ من يُريدها.
وَفيما كُنَّا نفعل ذلك، كُنَّا نُدرِكُ تمامًا ما يَدور حَولنا وأمامنا، من تَعقيدات بِالنِّسبة للمستمعين الحقيقيِّين أو المحتملين أو المثاليِّين أو المتعصِّبين. إِنَّ الموسيقى ليست ذات بُعد واحد، وليست مكتوبة لرجُل ذِي بُعدٍ واحِد.
وَسَائِل الإعلام وحدها، لا تُعطي جوابًا على أسئلة يَطرَحُها المؤلِّف، كما الأفراد وحدهم لا يُعطون الجواب، ولكن تَفاعُل الوسائل بالمعنى الواسع مع الأفراد، يُعطي الجواب إلى حَدٍّ ما، والتَّفاعُل الصَّحيح لا يَتسنَّى إلاَّ في مجتمع من نَمَطٍ آخر، مُجتمع لا تنفصِل فيه الموسيقى عن الحياة الحقيقيَّة، وهذا يتطلَّب تحوُّلات اجتماعيَّة وروحيَّة هي أبعد ما تكون اليوم عن نمط حياتِنا.
وَكُلَّما اقتربنا من تقييم عمل جديد، أصبح الإصغاء التَّقليديّ يُوقِظ وَيُثِير رَدَّ الفِعل والعدوانيَّة أحيانًا، وَقَد يَفتَرِض المرء أَنَّني عِنْدما أقدِّم عَمَلاً جديدًا يَتَحَتَّم عليَّ أن أنشُرَه بِكُلِّ ما لديَّ من معارف، ولكن من يظنّون بهذا الظنّ سيصابون بخيبة أمل.
صحيح أنَّنا قدَّمنا عملاً جديدًا، وهو يبرِّر نفسه كعمل جديد، نعرضه لانطباعات الجمهور النَّقديَّة، وعندما يسمعه النَّاس يُقرِّرون بأنفسهم ما أرضاهم فيه وما لَم يُرضِهِم.
ومن المهمّ النَّظَر من دون حذْلَقَة في الأسباب الَّتي جعلت المستمع أو البعض منهم على الأقلّ يَقبَل تَصَرّفًا غير عقلانيّ، وتركه عند هذا الحدّ. أَمَّا بالنِّسبة لردود الفعل العاطفيَّة الزَّائفة، فهي تفتقر دائمًا إلى الأهمِّيَّة لأَنَّها مُفرطة في بساطَتِها.
مَن يَستَمع إلى عَمل جَديد وَينتظر الدَّهشة في كلّ مرَّة، سيُصاب بخيبة أمل. فَمن المستحيل أن تظلّ اللَّهفة الأولى تتوالى مع تقديم الأعمال.
العائلة
* ألا ترى أنك أوليت مساحة زمنية وفنية كبيرة في الحفل، لرامي وبشار على حساب أغنياتك التي أرادها أغلب الجمهور بقوة؟ رامي وبشَّار كَسَرَا معنى النُّضج ومعايير العمر، وتركا سؤالاً كبيرًا يخصّ الموسيقى والإبداع عامَّةً.
أن تصبح الآلة الموسيقيَّة مطواعةً إلى هذا الحدّ أمام انحناءة عزفهم. ومنذ طفولتهما أحسست بأنَّهما وُلِدا لمهمَّة واحدة، وهكذا يجيئان إلى بيروت مُختلفَين، يمضيان إلى أعمالهما، إلى صورتهما، إلى حقيقتهما بزَخم ودون تردُّد، يشتعلان، وليسا بحاجة لحضن يحميهما، يمشيان على الدَّرب المؤدِّيَّة إِلى الحرِّيَّة.
مَعَهما اكتشفت من جديد مساحة الصَّوت، وعبقريَّة الموسيقى حين تُبنى على غير ما هو مألوف، حين يتداعى التَّآلف، ويتعيَّن على إصغاء لتسمع تنافُرًا، خلاَّقًا، وَتسأل كيف يُمكن مَزجُهُ على تلك الصُّورة المستحيلة.
* كيف استطاعا أن يكتسبا تلك الخبرة والمهارة والمعرفة والجرأة والمقدرة بسنوات قليلة؟
- أعتقد بأنَّ الجواب ليس عصيًّا حين نعرف أنَّهما جاءا من ذلك البُعد الحضاريّ والأكاديميّ وأنَّهم خُلِقا للموسيقى وللحياة، وأَنَّهما يَنتميان لهذا الشَّيء الجميل.
لذلك كان حضورهما في مهرجان بيروت سؤالاً عن معنى التَّخصّص والتَّجريب.
معهما لا يأخذك الصّخب إلى صورته، بَل إلى صورتهما خلف آلاتهما، وهما في ذروة الاندماج السَّاحر. ثُمَّ وزن الموسيقى الَّذي دخلا صعب المزاج، إذا لم يأته عازف ومؤلّف خبر تقلُّباته وعنده ميل أو جموح للارتجال والتَّجريب والتَّأليف، وذلك بعد أن ضجَّت ذاته بمخزون.
والارتجال ذلك التَّأليف الحرّ الَّذي امتلأ سماعًا لصنوف الموسيقى، أي امتلأ مسوغة بها، بدون شكّ ليس الأمر سهلاً أن تنعقد الموسيقى على هذا القدر من الخلق والتَّمكُّن. لو لم يجيئا من المصدر الصَّحيح من حجرة التَّمرين ومن المرجعيَّة الوافرة، وبهذا المعنى لا غرابة، أن يقوم بشَّار ورامي بهذا الطَّقس العظيم في أمسية بيروتيَّة.
إنَّ إيقاع الزَّمان عند المبدع يختلف عن إيقاع اليوميّ المعتاد، فهو يشبه تمامًا إيقاعَ الوحدة الأساسيَّة في مقطوعة عليها أن تبقى مستمرَّةً، رغم كلّ التَّداخُلات الأخرى، لذلك لا وقت سوى للموسيقى أو للإبداع، وإلاَّ لكنَّا فقدنا معنى الوحشة والمتعة والتَّأمُّل.
فَقد تصدأ الأنامل إن هجرت الآلة، عليها أن تبقى في جدل مع الوتر مع الإيقاع، أن تبقى في صراع مع الطَّنين.
مثل العقل الَّذي يستقيل إذا أبطل التَّفكير، ومثل الجسد الَّذي يَذْبل دون ماء، والجسد ورد أو شجر أو نبتة.
إنَّنا سنظلّ نحاول دائمًا أن نطوِّر لُغتنا ونحميها من التَّكرار والإرهاق، بثقة متبادلة، بعالقة متجدِّدة مع تجدُّد الذَّائقة والعصر والزَّمن، لاختراق الأزمنة والأجيال، والمحافظة على الحداثة والمعاصرة، وعلى قابليَّة حضور العمل في زمن غير الزَّمن الَّذي ولد فيه.
إنَّ الإنسان الحرّ هو الَّذي يستطيع أن يفارق ذاته الضَّيِّقة، ذاهبًا إلى المطلق كمسافر جوَّال، والحياة تكتسب معناها من تحقُّق هذا السَّفر المستمرّ في فضاء مفتوح، لا حيطان ولا أسيجة ولا أبواب ولا سواتر.
ليس ارتباط الموسيقى ببيئتها وبالظُّروف الاجتماعيَّة الجديدة، وبازدياد الوعي يطوِّرها بل قدرتها على الاغتناء من مجمل الفكر والتكنولوجيا الَّتي تخلقه تقاليد أخرى تكون أحيانًا مختلفة جدًّا، وهذه العمليَّة تحمل طابع التَّبادل المشترك. ليس هناك عزل ثقافة عن أخرى.
ودائمًا أبحث عن الجديد، والجديد هو التَّعبير بأسلوب فنِّيّ جديد، يتَّفق مع متطلِّبات تطوير الإنسان في عصرنا. ولا مرَّة أغلقت الباب على التَّفاعل مع أشكال تطوُّر التَّعبير الفنِيّ، وهذا الالتَّفاعل ضروريّ مع الحفاظ على الملامح الخاصَّة.
* كيف ترى أنت شخصياً في الموسيقى التي قُدّمت في الحفل، هل تُحيط حضورك وقارئيك الآن بأبعاد هذه الموسيقى، ماهيتها، وحدود التجريب فيها؟
- لن تكون الموسيقى ذاتها؛ لن يكون الصوت ذاته؛ سيكون النهر ذاته بمياه مختلفة؛ وهذا ما يعطي الموسيقى ذلك الإحساس بالأزلية؛ إنه فن الوهم؛ عامل خلق الوهم بالموسيقى والصوت؛ الثقافة الموسيقية ضعيفة جداً بل مفقودة فعلياً؛ من المهم إيقاظ وعي الناس، كيف تمت كتابة المقطوعة وما الذي ألهم المؤلف في كتابتها؛ لماذا يحتوي الصوت على كل هذه العاطفة وكلّ هذا الصَّخب وكلّ هذا الدويّ، وكيف نستمع إلى كلّ ذلك، الموسيقى هي الأقل معرفة من قبل الناس؛ في الثقافة العامة يهتم الإنسان المثقف بالفلسفة والأدب، ويعرف الكثير في السينما والرسم؛ النحت والمسرح، ولكنه قد لا يعرف شيئاً عن الموسيقى؛ هناك نوع من الجهل المتعلق بالموسيقى، ولهذا نرى مستمعين محافظين للغاية لا يريدون موسيقى جديدة؛ يريدون فقط ما علق في ذهنهم من قوالب الماضي أكثر مما يريدون الجديد؛ قليل من الناس الذين يعرفون الموسيقى وقد جعلوها جزءاً من حياتهم؛ علينا أن نخلق سبلاً للاستماع وجعل الموسيقى سهلة المنال.
وبالنسبة لي لم ارغب أبداً في أن يكون لي أتباع في العزف والغناء والتدريب والكتابة، فيما هناك أشخاص يطمحون جداً لتربية أتباع لهم؛ أحب أن يعلن الشخص عن استقلاليته وأن يسلك طريقه الخاص؛ مثال على ذلك بشار ورامي؛ لا أحب طريقة محددة حتى لو كنت من استنبطها؛ تمارين ومقطوعات كثيرة كتبتها وطبعتها للآلات الموسيقية العربية لطلاب المعاهد الموسيقية، حاولت جاهداً أن أوقظ فضول الطلاب وأن أعطي الوسيلة التي تساعد على تطوير الفضول؛ لم أحب العزف الميكانيكي، ولا أحب الذي يعزف المدوّن بشكل مثالي وبدون أي نوع من الذاتية؛ أكتبُ متحرراً من كل شيء؛ وعندما يصبح لديك ما تقوله حقيقة؛ سوف تثير بالتأكيد الإعجاب لدى البعض والرفض لدى البعض الآخر.
النقد الموسيقي
* سؤال بالمناسبة أيضاً عن ما يمكن أن توضحه لنا بشأن النقد الموسيقي الصحيح، وعن أدوات الناقد وسلاحه حيال الأعمال الموسيقية، خصوصاً الغربية بشكل أوليّ؟
- أعتقد بأن النقد الصحيح هو جزء من الجمهور؛ الناقد الموسيقي الذي يضع نفسه في مكان المستمع يستطيع تقنياً تحديد مصدر رأيه متسلحاً بالتجربة المقارنة التي كوَّنها على إثر عمليات سماع متتابعة، هذا إذا اعتمد على علم الموسيقى وكان محصَّنًا أكاديمياً؛ إضافة إلى ذلك إن الناقد عليه في الوقت نفسه، أن يحمل في شخصيته شخصية الفنان، مؤلفاً كان أم مؤدياً. فهو يضع رجلاً في كل جهة؛ أما معطياته تكون مرتبطة بين الأسباب والنتائج، فهي تحفظ الزائد في اتجاه وتوقفه في الاتجاه الآخر؛ حتى لو تلعثمت كلماته، إن الناقد يستطيع المحافظة على وزن وقيمة إذ كانت الحجج التي يقدمها تملك هذا الوزن؛ عندما يقدم تقريراً عن حفل يرتدي الصحافي بذة الحاكم العام؛ يطرح اتهامات أحياناً؛ يخلي الحاكم العام المكان للمحامي؛ بالطبع إن أداء أو تأليف عمل لا يمكن أن يرضي كل الناس.
إن الناقد الصحيح عليه معرفة تحديد مكامن الأشياء التي تعطي القيمة الحقيقية لحفل ما؛ لعمل موسيقي ما؛ أو الأشياء التي تقلل من تلك القيمة؛ عندما يبدأ أحد النقاد بتوجيه ضربات إلى الموسيقيين فهم يعرفون تماماً إذا كان مخطئاً أم لا؛ لا أعتقد بأن العدوانية تشكل الطريقة الأحسن لإقناع الموسيقيين بأنهم قصروا في مهمتهم؛ إن الاتهام يساهم في رص صفوف الموسيقيين الحقيقيين الذين يدفعون الناقد إلى قفصه وحيداً؛ بالقرب من النقاد وأحياناً مختلطين في صفوفهم يوجد المعلقين العالمين بالموسيقى والمحللين؛ ينغمسون سلاحاً وعدّة في الغابات المظلمة للمغامرة التحليلية؛ للأسف إن أدوات لغتهم تنغلق عليهم، وبالتالي لا تستطيع اللحاق بهم إلاّ برادار الحدس.
* أيضاً ما لذي تغيّر في الموسيقى العربية الآن، ما هي المناحي التي وصلتها والتطورات - اذا صح التعبير - التي طرأت عليها؟
- صار للموسيقى العربية الآن أن تحتفي بالمنحى التعبيري الذي تجتازه؛ لم تعد الصورة ولا الإيقاع ولا الجملة ولا الأدوات ذاتها؛ الأمور تجري كما يحلو؛ لم تعد لدينا رغبة في معرفة مستقبلنا بالوضوح الحديدي الذي تسلّح به المحافظون؛ إنه وضوح يضاهي قيداً لا يرحم؛ وليكن من حق الآخرين؛ المحافظين أن يسمّوا هذا خراباً؛ فربما حلا لنا ذلك أيضاً؛ وهكذا عندما أصدرت اسطوانتي الأولى قالوا بأني أخرّب الموسيقى العربية ولم يكن أحد يملك حق منعي عن ذلك، وكذلك عندما قدَّمت «جَدَل» ثُنَائِيّ العود وأعمالاً أخرى للأوركسترا كالكونشيرتو العربيّ وكونشيرتو الأندلس وكونشيرتو الرَّبابة وتهاليل الشَّرق، لا يجوز أن نتوقف أمام الاعتراضات الهستيرية التي تنتاب بعضهم وهم ينظرون إلى المشهد الموسيقي يشطح خارجاً عن صورته القديمة بما لا يقاس من التنوّع؛ لا يملك أحد سلطة مصادرة، وليس عندنا وقت أن نشتغل بمهمة إقناع أولئك بأن ما يحدث هو من طبيعة الأشياء؛ إنها حريتنا الأخيرة بعد مصادرة كل شيء بلا استثناء؛ ليست لدينا معجزات لدينا، مخيلة وأحلام مكبوتة؛ الأسلاف صاغوا حياتهم وطريقة عملهم كما يحبون ويستريحون، وكل ذلك حقهم وينبغي الآن من المبعوثين أن يكفوا عن محاولة إثارة الضجيج حول ما كان أنجزه الأسلاف؛ لماذا كل هذا الضجيج لتكريس الجذور والسكوت عن حرية الأجنحة؛ ليس أمام التجارب الجديدة إلاّ أن تذهب إلى حدها الأقصى بموهبة وبمعرفة؛ الإبداع توغل في غموض ما لا يعرف؛ فالمعروف هو ما تمّ إكتشافه وصار ناجزاً ومستقراً؛ وشرط نجاح التجارب الجديدة أن تخرج على الطوق والطريقة معاً؛ وتصدر من الحياة الأكثر تأججاً واتصالاً بالمستقبل.
* بأية كيفية تكتب موسيقاك؟ من أين تبدأ؟
- إنَّني أحاول أن أصفو من خلال صمتي أمام صفحة بيضاء مسطّرة، أدوزن عليها العلامات الموسيقية؛ لن يكون بَوْحِي شجياً ولن يكون بارعاً؛ في صمت مفعم بالحب وفي انعدام الوساطة بين الإحساس والنوتة أكتب حروفاً بلا تشكيل، بلا قواعد، ربما كتابة على الحياة مباشرة؛ إن صمتي يئن من صمته، ويتهدج تحت ثقل المخطوطة، أحترف البكاء اللاّمرئيّ وأدس حرقته في الدعابة؛ كم من سؤال مرّ بي فأجَّلته لخجل في العيون؛ لا معنى يشبعني إلا ما تبعثه الموسيقى ولا مبنى يغويني إلا ما تشيده الموسيقى أحاول جاهداً أن أجد مقعداً للحنين على وقع الموسيقى في مساء لا يطيب لي، إلاّ ما يملؤه شجن الروح لأعيد دهشتي الأولى من جديد، ولأرحل مع الطيور العاصية إلى أفق بعيد غامض أحبه دائماً غامضاً في الأقاصي الزاخرة لاستبدال فوضى العالم بالإيقاع؛ هل ما كتبته وما سأكتبه هو بمثابة الشك في قمر الحب الذي يغمر ليلنا الدامس بالفضة الصريحة؛ أدافع عن صمتي ولا أملك دِفاعاً غير النوتات التي ولدت من صخرة الجبل متميزة برهافة عصفور. وفي كل يوم أستأنف الرحيل الشاق نحو البحث عن نقطة ضوء لبداية تتجدد؛ لارتماء طفولي في حضن دافئ لاحتجاج على فساد أشياء العالم، ولتورط صاخب في الحب، تلك الوردة السرية الجميلة المخبئة في دواخلنا، تمدنا دائماً بالقوة، وتفسد على الحياة استسلامها؛ رغبة مشتركة ومتأججة، في إشعال شمعة ولعن الظلام في آن، لاستعادة الثقة في الروح، تلك الثقة التي أرهقتها الانهيارات الشاملة؛ سأظل أحاول أن لا أهدأ في مكان ولا في قالب ولا في حالة، وأبحث عن شمس حارقة حتى لو ذابت في أفق بعيد، وأن أقترب من ذلك السراب وأعاود البحث، وأن لا أطمئن ولا أستقر، وأن أفتش دائماً عن نهار جديد وكأنه نهار أخير، وأن أعشق المغامرة والتحولات، وأن أغوص عميقاً في التجارب، وأن أتعلم كل يوم كيف أحب وكيف أشتاق وكيف أبكي وكيف أضحك وكيف أتخيل وكيف أكتب الموسيقى، وأن لا أشعر بالزمن الفيزيائي الذي يتلاشى في الجسد، وأن أظل أسعى إلى إنسانية راقية، وأن أتحرر من اليقين سبيل للانتقال من المجهول إلى المعلوم؛ الجو خانق أريد قليلاً من الأوكسجين لأكتشف غموض الآفاق ولأجترح المستقبل. الحرية
* لا بأس أن نتذكرّ بداياتك هنا، ونُذكّر الذين استنكروا عليك حفلك التجريبي المفتوح على سعته مع رامي وبشّار؟
- شابّ متحمس مثالي وأخرق؛ يريد أن يجعل الموسيقى سبيلاً لتغيير العالم؛ أن يخفف الألم والبؤس والفقر والحروب؛ أن يشعل ثورة؛ مدعوماً بالوتر؛ ليستدل على الحلم ويصل إلى تحقيقه؛كان الأساتذة والأصدقاء يسمعونني ويهزون برؤوسهم؛ ربما لم يدركوا يومها تماماً ما هو مشروعي؛ أو على الأقل جدية ما أحاول الخوض فيه؛ وكان داخلي مشحوناً بالتمرد، كان كل شيء ذاهباً إلى فنائه؛ حتى الجمال المختبئ المحصن بعصيانه؛ سحقته حروب صغيرة طاحنة؛ كان الزمن يمشي بطيئاً كسلحفاة وكنت أستعجله لأكبر؛ ليتني لم أفعل؛ الزمن اليوم يمر بأقصى سرعة؛ أستمهله فقط لأكمل المعزوفة؛ ومثلما يفلت الزمن؛ تفلت الأمكنة؛ كما لو أنها لم تكن؛ وكما في الموسيقى حيث الجمل تمحو بعضها البعض؛ لاشيء يتكرر؛ فكان عليّ استخراج روح الشيء للوصول إلى خلاصته الجمالية؛ أن أرى الوردة تنبت بين الركام؛ كنت من المتخرجين الأوائل في المعهد الموسيقي الوطني عندما كان معهداً، ويضم خيرة الأساتذة وبعد التخرج انضممت إلى الهيئة التعليمية، ولقد تعلمت أيضاً من الطيور، فالطيور أعظم الموسيقيين الذين سكنوا كوكبنا؛ وقبل هجرتي الأولى إلى باريس كنت قد كتبت الموسيقى لأوبريت «مرق الصيف»، وقدِّمّت ضمن مهرجانات جبيل، والعرض الراقص الأول «عجائب الغرائب» لفرقة كركلاَّ، وأعمال للآلات الموسيقية العربية صدرت لاحقاً وكانت زاداً لكل طالب أراد أن يفتح آفاقاً جديدة لعزفه، وما زالت هذه المقطوعات تتجدّد مع الأجيال الجديدة ومتواصلة مع الذائقة الجمالية.
كلّ ذلك كان قبل صدور الأسطوانة الأولى «وعود من العاصفة» سنة 1976، أولى أعمالي للشَّاعر محمود درويش. وكنت قد كتبت الموسيقى لهذه القصائد وأنا في سجني القسري في منزلي العمشيتي في بداية الأحداث؛ ومن يومها وأنا أقلب المدن صفحة صفحة، حاملاً موسيقاي وباحثاً عن الذات في سفر دائم من أجل أن أعرف أعمق وأفضل وأكثر، فعندما أسافر أرى الكون مليئاً بالمعجزات والأساطير بمعرفة وحس؛ اكتَسَبت حياتي معناها من تحقق هذا السفر، في هذه الأرض التي تتمدد كما لو أنها لا تنتهي؛ لا نستطيع أن نصوغ معنى للموسيقى بالكلمات. لامعنى للموسيقى إلاّ في ذاتها. والسماع هو الوسيلة الوحيدة لإبراز القيمة الجمالية للعبارة الموسيقية، من خلال الصفاء الذي نبحث عنه في دواخلنا؛ هكذا في الموسيقى تقترب الروح من الروح، وتتسع للإنسانية كلها لتأتي بكامل سطوتها كلسان كوني وحيد، وتتحرك حولنا وتملأ الفضاءات؛ في حزمة ضوء؛ في خفقة جناحي فراشة تحط على سياج جسر خشبي؛ بين عشبتين؛ في شمعة خافتة وراء نافذة صغيرة؛ قريباً من الينبوع؛ من خرير الساقية؛ من إرتطام جناحي الحمام بسطح الفضاء المفتوح؛ لا حيطان لا أسيجة لا أبواب ولا سواتر.
* الى أيّ مدى الحرية شرط أساس للثقافة والإبداع؟
- لا تكون ثقافة إلاّ متى كانت حرية؛ الحرية للثقافة شرط وجود أو هي بهذه المثابة؛ ومن ليس حراًّ دونه ودون الإبداع الثقافي مساحة الفراغ الذي لا يحد؛ وحيث لا تكون حرية؛ يمكن للثقافة أن تكون أي شيء آخر غير أنها ثقافة؛ يمكنها أن تتحوّل إلى إيديولوجيا دعائية؛ إلى خطاب متلعثم يغمغم بمفردات غامضة وتبريرية؛ إلى فولكلور للزينة؛ إلى أيّ شيء تفتقر فيه إلى ما يجعلها ثقافة تعبّر وتبوح؛ تكشف المخبوء وتهتك المستور؛ وتؤدي وظيفتها الإنسانية والاجتماعية والجمالية؛ الحرية للمثقف كالفضاء الفسيح للطائر؛ كالماء للسمكة؛ كالتربة الخصبة للمزارع؛ وليس صحيحاً أن قليلاً من الحرية خليق بأن يصنع مثقفاً أو مبدعاً؛ فالحرية لا تقاس بالمقادير ولا تخضع للتكميم الحسابي-من الكم- ففي تقييدها بالحدود حط وزراية بمعناها؛ وكما أن الطائر لا يملك أن يحلق في القفص؛ والسمكة لا تملك أن تسبح في زجاجة الزينة المنزلية؛ والمزارع لا يملك أن يزرع في الرمل؛كذلك لا يكون في وسع المبدع المحجوز بأصفاد المنع والمتمتّع بشبهة حرية أن يبدع بالمعنى الحقيقي للإبداع؛ المعنى الوحيد له؛ كانطلاق حر نحو إعادة بناء كل الأشياء والرموز والمعاني والعلاقات.
يواجه المثقفون والمبدعون ثلاثة أنواع من السلطات متضافرة الأهداف، وإن إختلفت في التكوين والمجال: السلطة السياسية، والسلطة الدينية والسلطة الاجتماعية؛ يقوم على كل سلطة سدنة وكهان وإكليروس سياسي وأخلاقي يتعهد مقدساته السياسية والدينية والاجتماعية بالصيانة والحماية من المتمردين عليها، المتطاولين بالإبداع والنقد على مقامها الحرام.
الثقافة الحرة، الرافضة للامتثال، هي المستهدفة. والمثقف العربي متهم دوماً؛ أو عرضة للاتهام في أي وقت؛ ما دام يبدع؛ لذا فهو ليس مطالباً بأن يبدع فحسب؛ لكن أن يدافع عن إبداعه ضد قوى القمع المتربصة به عند كل منعطف؛ إن ثمة مستقبلاً لا يمكن لأحد منعنا من الذهاب إليه أحراراً؛ وبمختلف اجتهاداتنا الفكرية والفنية.
... أحاول كل يوم أن أجدد قدرتي من خلال أعمال أنقلها دوماً إلى الناس عبر الاسطوانات والحفلات في مسارح العالم؛ الموسيقى هويتي الوجودية والإنسانية وحمّلتني في الوقت نفسه، مسؤوليات كبيرة أعيشها برحابة صدر وبمعاني إنسانية وبجماليات نادرة؛ أحب عزلتي بعيداً عن الجو المأزوم في التلفزيونات والإذاعات والفضائيات والمجلاَّت والمقاهي والساحات، عزلة أصونها من مشاغبات خارجية وأقلّب المدن صفحة صفحة، وأصغي إلى نفسي وإلى العالم بطريقة أكثر صفاء، وأنتبه إلى عملي وأقيم في صمتي لأكتب؛ الموسيقى بحاجة إلى كثير من الوقت؛ أحلم؛ أعالج شقاء الحياة بالكتابة؛ الحياة ساحرة مدهشة؛ في الموسيقى يتحوّل الأسى إلى عصفور، والغضب إلى بسمة، والقبح إلى وردة في ارتقاء بهيج بجوهر الحياة.
السفير- 17 -6-2011