صدر لدى «دار الغاوون» البيروتية مجوعة شعرية جديدة للشاعر سامر أبو هوّاش، وهو بعنوان: «تخيط ثوباً لتذكر» يشبه أن يكون قصيدة واحدة مقسّمة الى خمسة أجزاء، تحضر فيها شخوص حياة الشاعر، من رحل منهم على وجه الخصوص، بلغة مُصفاة استوت على نضجها وبصمتها. أبو هواش من مواليد صيدا، لعائلة فلسطينية يقيم حالياً في أبو ظبي، حيث يعمل محرراً للكتب في «هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث». أنجز العديد من الترجمات، وديوانه بين أيدينا هو السابع بعد: الحياة تُطبع في نيويورك، تحية الرجل المحترم، تذكر فالنتينا، جورنال اللطائف المصّورة، راديو جاز برلين، شجرتان على السطح. في زيارته الأخيرة الخاطفة الى بيروت، وبمناسبة صدور كتابه، كان هذا الحديث:
* كيف تقتطع وقتاً للشعر وسط مشاغلك الكثيرة؟
- الكتابة ببساطة سواء أكانت شعراً أم رواية أم سواها هي جزء من حياتي اليومية، وهي بالنسبة إليّ ليست هواية. وفي الحقيقة أستغرب دائماً من يقول إن الكتابة أو الفن بالنسبة إليه هواية، وكأنه بذلك يوحي ببراءة أو بعفوية ما، ذلك أن الكتابة أبعد ما تكون عن العفوية. أجد نفسي في الكتابة بالمعنى الوجودي للكلمة، لا بالمعنى الرمزي، بل الحقيقي للكلمة. ربما أجد نفسي غريباً في المقهى أو الحفلة أو المناسبة الاجتماعية أو المجاملة أو حتى في الشارع، لكنني في الكتابة أكون نفسي، وغالباً ما يقول لي أحدهم إنني «في الحقيقة لطيف وخجول»، أي مقارنة بالكتابة، فأفكر في نفسي لم لا يكون العكس هو الصحيح، أي لم لا تكون الحقيقة هي الكتابة وهذا الشخص الذي يتحرك بتهذيب في الأمكنة العامة هو الشخص المبتدع أو المتوهم أو المتخيل. هكذا، فالمشاغل الحقيقية بالنسبة إليّ هي الأوقات التي أضطر فيها إلى الحضور في الحيز العام – باستثناء الحب والصداقة الحقيقيين - وهذه المشاغل بالفعل متعبة، أما الكتابة فأمارسها بمتعة كاملة وبانغماس تام، ولذلك لا أحتاج إلى أن أجد لها وقتاً، بل أحتاج إلى إيجاد وقت لكل ما عداها. عدا ذلك، يكفيني كل مساء أن أقفل هاتفي وأجلس قرب حبيبتي وأحتسي الجعة وأشاهد فيلماً، أي أن أنفصل كلياً عن العمل والكتابة وما إلى ذلك، حتى أشعر بقدر كاف من التوازن والطاقة على الإنتاج في اليوم التالي.
* اشتغالك الغزير بالترجمة، ترجمة الشعر خصوصاً، هل تستفيد منه قصيدتك؟ وهل من حدود حمر تتدخّل إثرها فطرتك الشعرية لصالح قصيدة محلية اذا جاز التعبير؟
- بالتأكيد تستفيد منه، وليس من حدود لهذه الاستفادة. وأظن أن ترجمتي في المقابل تستفيد من كتابتي. وبما أن كتابتي تستفيد من عدد من الترجمات ومن الكتابات الأصلية (أي غير المترجمة) فترجماتي – كما لغتي الشعرية – تستفيد أيضاً من كل الأصوات الأخرى التي قرأتها أو أقرأها، والتي بدورها آتية من أصوات أخرى مختلطة أصلية أو مترجمة... إلخ، أي أن هذه العملية سلسلة لا تنتهي تتداخل فيها الأصوات وتتقاطع، والمهم في نهاية المطاف ليست التأثيرات على أنواعها المختلفة بل إدخال هذه التأثيرات في ورشتك الخاصة والقدرة المستمرة على مراقبة الذات لكي لا يتحول التأثر بنص الآخر إلى خضوع أو استلاب به وبلغته وهذا ما قد لا ينجح به المرء دوماً. ما يفاجئني على أيّ حال هو الدرجة التي تقرّبني بها الترجمة من اللغة العربية، فهي في نهاية المطاف اللغة التي سيخرج بها النص سواء أكان شعراً أم نثراً أم أياً يكن، وهذه اللغة لها آلياتها وزواياها المختلفة عن اللغة الإنكليزية (التي أترجم عنها)... في النهاية كتابة الشعر بالنسبة إليّ تشبه لقاء ما بأحدهم، أحياناً تشعرين منذ اللحظة الأولى أن هذا اللقاء مربك ولا تصدقين متى ينتهي، وأحياناً تشعرين بألفة مباشرة وتحزنين عند انتهاء هذا اللقاء... كذلك حين أبدأ بكتابة نص ما، أشعر أن ثمة مشكلة ما منذ البداية، أحياناً أستمر من باب الرغبة أو التوق أو العناد وأحياناً أتمتع بالشجاعة لكي أتوقف عن الكتابة، وأصفي نفسي قدر الإمكان من كل الأصوات الأخرى التي أشعر بثقل وجودها.
ترجمات
في كتابك الجديد تأريخ شعري لأهلك وناس حياتك الذين غادروا . هل بُعدك عن بيروت يؤجّج هذا النوع من التذكرّ والحنين؟
- لا. لا علاقة للبعد المكاني بذلك، بقدر البعد الزماني ربما. يشغلني الزمن كثيراً وأظن أن أكثر الكتابات التي أحبها هي التي تشتغل على هذه المنطقة. المكان بالنسبة إليّ هو الزمن. بيروت بالنسبة إليّ ليست مكاناً بل هي زمن أو أزمنة، كذلك صيدا، أو حيفا التي لم أعرفها. حين أزور بيروت الآن أو أي مدينة أخرى لا أبحث عن بيروت التي عرفتها، بل أبحث عنها الآن، في راهنها وتحولاتها، من دون استبعاد ظلال الماضي وحضوره الدائم ضمن هذه التحولات. في «تخيط ثوباً لتذكر» هناك بالضبط هذا العنصر، الموتى يزورون الأحياء، والأحياء يجاورون الموتى... البيت أو الجدار يصبح ـ أو هكذا إحساسي به – بمثابة ساعة رمل... أظن أن هذه هي الأمكنة في نهاية المطاف، ساعات رمل يكفي أن ننظر إليها لنتبين حركة الزمن، ما فات منه، وما تبقى، هذا أيضاً أقوله – في القصيدة نفسها – عن الأشجار مثلاً، كل ما أنظر إليه أنظر إليه بعين الحضور والغياب... حضورنا أو غيابنا فيه، وبهذا المعنى حتى اليومي، أو ما كنا نحسبه يومياً، هو جزء من هذا الزمن الرملي الكبير الشاسع..
* ماذا بعد ترجماتك الشعرية في اختيارات طاولت عددا من الشعراء الأميركيين؟ ماهي مشاريعك القريبة والأبعد قليلاً؟
- بين الأعمال التي أنهيتها الإشراف على ترجمة وتحرير مشروع «ثقافات الشعوب» مع مشروع كلمة للترجمة في أبوظبي وهو كناية عن 72 كتاباً تتضمن الحكايات والأساطير الشعبية في 45 دولة وثقافة من أنحاء العالم، وهي ستصدر دفعة واحدة خلال الشهر المقبل، وإضافة إلى المراجعة والتحرير ترجمت اثنين من كتب هذه السلسلة وهي حكايات الهنود الحمر، في حين اشتغل ثلاثون مترجماً آخر على الأعمال الأخرى. كما أنهيت مؤخراً ترجمة ثلاثية مارلين روبنسون الروائية، والتي أعتبرها واحدة من أفضل الكاتبات الأميركيات في الثلث الأخير من القرن العشرين وحتى الآن، وأنهيت كذلك ترجمة «كتاب الشاي» وكتاب «صور الإمبراطورية العثمانية» (كلاهما صدر)، لكنهما لم يوزعا بعد...
بالنسبة إلى المشاريع القريبة فسوف أكمل عملي على الشعر الأميركي لأنه حالياً ينقصه الكثير من الأصوات الأساسية والمهمة، وأعد حالياً للعمل على المسرح الأميركي، أما المشروع الأبعد قليلاً لكن الذي أحلم به فهو ترجمة عمل موسوعي ضخم يتناول كل ما له علاقة بالشعر في العالم قديماً وحديثاً، وثمة عمل محدّد بدأت بدراسته، إلا أن إنجازه، في حال واتتني الشجاعة لذلك، سيستغرق وقتاً...
* هل تشعر بالمنافسة، سواء ككاتب أو كمترجم؟
- غالباً ما تضحكني محاولة الأصدقاء ومن لا أعرفهم لتجاهل الآخرين أو لإيصال رسائل التجاهل على الأقل... بالنسبة إليّ نحن ككتاب أو مترجمين أو فنانين أو ما شئت، ما زلنا طائفة صغيرة في هذا العالم العربي، بل في العالم بأسره، لا أعرف ما الذي يمنحنا الشعور الضاغط بالازدحام لكنني شخصياً أرى الكثير من الفراغ لا الازدحام... عليه ضعي اسم الشاعر الذي تريدينه أو المترجم الذي تريدينه وستجدينني معترفاً به، لا من باب التسامح أو عدم ميلي إلى النقد، بل ببساطة من باب عدم شعوري بالازدحام... قد تعجبني أعمال ولا تعجبني أخرى لكنني لا أجد نفسي مضطراً للحكم على تجارب بأكملها أو على أسماء برمتها... لنقل إن هنك عشرة شعراء جدد في بيروت، الأكيد أن بيروت تحتمل مئة شاعر جديد لا عشرة، وكذلك القاهرة أو بغداد أو دمشق... نحن من نصغر الأمكنة حين نتوهم أن مدينة برمتها قد تكون في لحظة على قياسنا نحن... تفاجئني مثلاً السجالات العقيمة والمجانية حول الجوائز... لا أعرف علام كل هذه الضجة... وصرت أضجر كثيراً من الكلام على الشللية (تلك الكلمة القديمة) وما إلى ذلك... أن نشتم فلاناً لأنه شارك في مهرجان ما أو فلانة لأنها رشحت على جائزة ما...أو أن ننكر عمل ترجمة مهم لثالث إلخ. هذه كلها ترهات... المسألة ليست مسألة اعتراف او عدم اعتراف، هذه كلمات يستخدمها السياسيون.. ربما أفهم الكراهية كما أفهم الحب لأنهما شعوران طبيعيان، وعلى مرّ التاريخ كان هناك كتاب وفنانون لا يطيقون بعضهم أو حتى لا يطيقون أنفسهم، أما ذلك السعي الحثيث إلى إلغاء اسم في المهرجان أو المناسبة الفلانية أو في حديث صحافي، أو إهمال الكتابة عن عمل ما له أو شتمه بين السطور أو مدحه في العنوان العريض... إلخ، كل هذه الألاعيب آن الأوان لكي نرفضها لأنها باتت قديمة ومضجرة... أو على الأقل، وما دام كل واحد منا يعتبر نفسه المدينة والكون بأسره ولا يرى سواه، علينا أن نكف عن الرثاء لماذا يتجاهلنا العالم إلى هذا الحدّ، ولماذا لا نفوز بجائزة نوبل مثلاً بل ولا نرشح لها، هذا لأنه ربما من الغريب على العالم الواسع أن يجد نفسه كل مرة مضطراً إلى الاختيار بين اسمين أو ثلاثة في ثقافة يفترض أن تنتج العشرات ممن يستحقون الحضور في العالم... ولكن أنى لنا أن نطلب ذلك وكل واحد منا لا يرى سوى اسم واحد هو اسمه في الصحيفة، ووجه واحد هو وجهه في المرآة...
السفير
2-2-2010