بين المسرح والشعر تقف اهتمامات الكاتب العراقي (المقيم في هولندا) صلاح حسن، وبين المنفى والعودة تتوزع انشغالاته اليومية، لكن ذلك كله لا بد أن يرفد الكتابة بعوالم كثيرة. مؤخرا زار بيروت للبحث عن إمكانية إقامة دائمة في هذه المدينة. وفي بيروت كان هذا الحوار.
* لا بدّ للحدث العراقي أن يفرض نفسه كمدخل لهذا الحديث، تقيم منذ التسعينيات في هولندا، هل تفكر في العودة إلى العراق؟
بعد ثلاثة أشهر من سقوط نظام صدام حسين جمعت ما استطعت جمعه من الأموال من أجل شراء تذكرة والذهاب إلى بغداد. كان كل شيء في ذلك الوقت غامضا ودمويا وغير قابل للفهم أو التفسير. أول ما فعلته الذهاب لرؤية والدتي المريضة، الموشكة على الموت. بعد ذلك ذهبت أفتش عن أصدقائي لكي أعرف من بقي منهم على قيد الحياة ومن مات. كانت لحظة عصيَة على الفهم. النظام ساقط والبلد محتل. هناك شعور بالفرح لسقوط هذا النظام الدكتاتوري العتيد وكان هناك حزن وأسى عندما نرى المحتل يصول ويجول في بلدك الذي تخرب أكثر مما كنا نتصور. الخسارة الفادحة أنني وجدت أن الإنسان العراقي قد تخرب هو الآخر وكانت هذه أقسى الخسارات التي تعرضت لها. لقد زرت العراق أكثر من 4 مرات وكنت أحاول في كلّ مرّة أن أجد لي مكانا كي أستقر لكن يبدو أن العراق قد ضاع إلى الأبد ولا أظن أنني سأعود يوما. وكما يقول كفافي «خراب أينما حللت».
* ولكن كما أعرف منك وعنك لم تشكل لك هولندا مكانا ثابتا، إذ ترغب في مغادرتها. لماذا؟
رغم أن هولندا بلد جميل جدا وأناسها طيبون إلا أنه يبقى منفى في النهاية. أوروبا عموماً لم تعد ترحب بنا كعرب ومسلمين وكمهاجرين. هناك الآن بديل أوروبي آخر لا يشكل لهولندا وأوروبا عامة أي خطر لأن هؤلاء المهاجرين الجدد أو الأيدي العاملة الجديدة، ينحدرون من ثقافة أوروبية مشابهة فلذلك بدأنا نشعر نحن المهاجرين أو نحن اللاجئين السياسيين بالتحديد، بدأنا نشعر أن هولندا أصبحت ضيقة خصوصا أن الحكومة الهولندية نفسها بدأت تطلب من الأجانب الحاصلين على جنسيتها مغادرة البلد والتنازل عن هذه الجنسية مقابل مرتب مدى الحياة. لذلك أفكر بمغادرة هولندا والعيش في أحد البلدان العربية وخياري الأول بيروت بالتحديد لأن بيروت تجمع الشرق والغرب في آن واحد. لكن يبدو أن بيروت هي الأخرى بدأت تضيق على ناسها أولا ولا أظن أنني سأستطيع أن أحقق حلمي الذي يمتد إلى ثلاثين عاما وهو العيش في بيروت.
لقد جئت إلى بيروت قبل 10 أيام وهي المرة التي أزورها. شجعني على ذلك نتائج الانتخابات الأخيرة. أعتقد أن المدينة والبلد عموما سيستقر أخيرا لكي نستقر بدورنا نحن أيضا.
الاشتغال بالأدب
* والأدب في كل ذلك؟ ألا يشكل «وطنا» مشتهى بالرغم مما تحمل هذه الفكرة من ارتجاجات وتهويمات؟
بالتأكيد، لولا انشغالنا بالأدب واشتغالنا عليه لما عاد أي معنى لوجودنا. نحن بسبب الأدب والشعر بالتحديد، تشتتنا بالمنافي وقبل ذلك تعرضنا للسجن والتعذيب بسبب هذه الانشغالات، لأن الاشتغال على الأدب هو اشتغال على مفهوم الحرية. الكتابة بدون حرية لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها الاجتماعية والفكرية والجمالية. لحسن الحظ أننا وجدنا هذا الهامش من الحرية في منافينا البعيدة. وهذا الهامش كان بمثابة تعويض كبير للخسارات التي منينا بها. لقد تعلمنا ـ وأنا أتحدث عن نفسي شخصيا ـ لقد تعلمت كيف أتحاور مع الآخر المختلف، وهذا بحد ذاته يعد إنجازا ساهم في إنضاج مشروعي الشعري والكتابي عموما. بهذا المعنى يصبح الأدب وطنا بديلا لأوطاننا العربية المخربة. مفهوم الكتابة في هذه البلدان التي تمنح الحرية والاستقرار تغير كليا. عندما أكتب لا أفكر مطلقا بالرقيب. الرقيب مات هناك. لو تنظر إلى نصوصي القصيرة فستجد هناك حرية كاملة في النص. أتناول في هذه النصوص الأخيرة كل التابوات ليس بهدف الإثارة بل لأن هذه المواضيع شبه محرمة في العالم العربي وأظن أنها تشكل تعويضا للكتاب العرب الذين لا يستطيعون الكتابة بهذه الطريقة داخل الثقافة العربية نفسها. أعمل الآن على مشروع ايروتيكي وأنجزت منه بعض النصوص الشعرية. في هذا المشروع احتفاء بالجسد والمرأة بطريقة حضارية بعيدة عن الإسفاف والبورنو. أتمنى أن أنجز هذا المشروع قريبا لأن الكتابة عن هذا الموضوع في العالم العربي غير واضحة وكل ما كتب بهذا الشكل حتى الآن سطحي ويقترب من الابتذال.
* بعيدا عن الرقيب، هل شكل هذا المنفى أو «هامش الحرية» هذا، تأثيرا ما على لغتك بكونها لغة قبل أن تكون وعاء لأفكار ما؟
طبعا، ثاني كتاب لي صدر لي باللغة الهولندية عنوانه «النوم في اللغة الأجنبية». على الشخص الذي في مثل هذه الأماكن أن يتعلم اللغة أولا، لغة البلد الذي يعيش فيه. عندما تتعلم اللغة تتعلم البلد وتكتشف أسرار الناس. اللغة هي مفتاح كل شيء تقريبا. هناك تأثير كبير طرأ على لغتي العربية بسبب اللغة الهولندية. لم يعد هناك من معنى للكتابة بغموض. أصبح الوضوح مسألة مطلوبة وملحة في نصوصي المكتوبة داخل هولندا لأنه لم يعد هناك معنى لهذا الغموض ما دام الرقيب قد مات. عندما كنت في العراق كنت أضطر إلى ليّ عنق اللغة حتى أستطيع أن أعبر عن أفكاري وهمومي داخل الوطن وما يجري له. في العام 1991 فزت بجائزة الشعر العراقي عن قصيدتي الطويلة «رماد المسلّة» وبسبب هذه القصيدة اضطررت إلى الهرب من العراق بعد أن صدر بحقي حكم الإعدام. هذه القصيدة الآن معروفة لدى العراقيين، مثقفين وغير مثقفين، بعد الضجة التي أثارتها لأن الأمسية الأخيرة التي أجريت لي في مدينة بابل كانت السبب في كل ما جرى لأنني قرأتها كاملة وليس كما نشرت في المجلة وظننت أن الحاضرين كلهم من الأصدقاء لكن أحدهم وهو شاعر، كتب تقريرا عن الأمسية وما جرى من نقاشات جريئة وخطرة عن الرموز التي حفلت بها القصيدة... عرفت كل ذلك بعد عودتي إلى بغداد وأراني أحد معارف أخي الكبير 3 تقارير مكتوبة عني وكلها تؤدي إلى الإعدام. الكثير من الناس الآن في العراق يحتفظون بتقارير ووثائق عن أناس كثيرين إما اختفوا وإما ماتوا في سجون الجلاد. هذا الرجل يحتفظ بهذه الوثائق لغاية قيام حكومة حقيقية لكي يقدمها إلى المحاكم العراقية من أجل محاكمة أزلام النظام الذين ساهموا بإعدام الكثير من الأبرياء.
* هل تظن أننا سننجح بالخروج من ليل هذه الذاكرة الكئيبة؟
لا أظن. هذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل جدا. لقد استغرقت النظم الدكتاتورية وقتا طويلا في بناء أجهزتها القمعية واستغرقت وقتا أطول في تدمير شعوبها لذلك نحتاج إلى وقت طويل لتفريغ هذه الذاكرة والحل الأنسب كما أرى هو تدوين هذه الذاكرة. بالتدوين نستطيع أن نداوي الجراح التي خلفتها هذه الفترة المظلمة. التدوين هنا بمثابة علاج نفسي وقد جربت شخصيا هذا الحل ونجحت إلى حد كبير. في ذاكرة كل مواطن عربي والمواطن العراقي تحديدا، كم هائل من العقد والأمراض النفسية، ينبغي ثقب هذه الذاكرة حتى تخرج كل هذه الأمراض والعقد النفسية عن طريق التدوين أو عن طريق الروي أو عن طريق الصورة أو المسرح. إذا بقيت هذه العقد ثاوية في لا وعي الإنسان فإنها ستشكل جروحا غير قابلة للاندمال. كمثقفين نعي هذه الحالة ونكتب عنها ونستطيع أن نداوي أنفسنا بأنفسنا وهناك الآن ظاهرة عراقية تتمثل بالكتابة التي تقترب من السيرة الروائية. بدأت هذه الظاهرة الكتابية مباشرة بعد سقوط الدكتاتور وعندما نقرأ هذه الكتب التي صدرت في الفترة الأخيرة ستجد أن الكتاب والشعراء العراقيين يكتبون عن هذه الظاهرة بالتحديد. والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا بدأوا الكتابة الآن، بهذا الشكل الآن؟ الجواب باعتقادي وهو سيكولوجي أكثر منه اجتماعيا أو أدبيا. علم النفس يقول إن الإنسان عندما يتجرد من الخوف وكانت لديه تجارب مرة في السجون والتعذيب، عندما يتجرد من الخوف في لحظة من اللحظات ينزف كل هذه المخاوف والتجارب المرة الثاوية مرة واحدة وهذا ما يحصل الآن. ظاهرة أخرى محصورة في المنافي هي ظاهرة القسوة في الثقافة العراقية. أمثلة كثيرة على ذلك تتجسد في الشعر والمسرح والفن التشكيلي والموسيقى...
بين الإقامة والمنفى
* هل تعتقد أن هناك اليوم فرقا أو هوة ما بين الثقافة العراقية في الداخل وفي الخارج؟ هل تستطيع الحديث عن ثقافة المنفى؟
يدور حديث طويل ومعقد داخل العراق وخارجه عن أدب الخارج وأدب الداخل. وجرت معارك كتابية كبيرة وما زالت الضجة قائمة حول هذه الظاهرة، والهدف واضح وهو شق وحدة الثقافة العراقية. لا يختلف أدب الداخل والخارج سوى بالمكان. المثقفون في الخارج كتبوا في منافيهم عن العراق وعن تاريخ العراق وما يجري فيه. المشاعر والأحاسيس والأفكار كلها عراقية لكنها مكتوبة في مكان خارج العراق ولو تقرأ ما أنتج من إبداعات عراقية في الخارج وتقارنها بما هو مكتوب داخل العراق فستجد أن التشابه كبير للغاية. الطريق الوحيد هو أن هناك كتابات دونت خارج العراق فلا داعي بالأساس لما يسمى بأدب الداخل وأدب الخارج. وكما قلت سابقا إن الهدف من هذا التفريق هو سياسي محض يهدف إلى تفتيت المجتمع العراقي كما يحدث الآن في العراق فأصبح لكل حزب ولكل طائفة مثقفها الخاص الذي يعبر عن تطلعات وأماني هذا الخراب أو هذه الطائفة. هذا ما كان يراد له من مصطلح أدب الداخل وأدب الخارج لكن المثقفين العراقيين أكثر وعيا لما يجري وبدأوا يتحسسون الموضوع وأظن أن هذه الحالة في طريقها إلى الاندثار لأن الثقافة العراقية عميقة ومتجذرة ولا يمكن لها أن تتفتت بهذه السهولة.
* بين الشعر والمسرح أين يقف صلاح حسن؟ لماذا نجد أحيانا أننا بحاجة إلى أكثر من نوع للكتابة؟
أجد نفسي في الشعر وعندما لا أستطيع أن أعبر بهذا الشكل الكتابي عن أفكاري أتجه إلى المسرح. أحيانا يكون الشعر غير قادر بكل طاقاته الجمالية والفكرية عن التعبير عن حالة تحتاج إلى سرد وحوار وتأمل. لذلك أذهب إلى المسرح وأضع فيه كل هذه الأفكار لأن المسرح يتسع لما لا يتسع له الشعر. في الشعر تستطيع أن تعبر عن فكرة صغيرة أو حتى كبيرة بشكل مكثف لكن في المسرح تستطيع أن نعبر عن أفكار كبيرة بهدوء ووضوح يجعل هذه الفكرة متاحة للجميع بطريقة سلسة وموضوعية. لا بديل من الشعر لكن أحيانا تضطر إلى شكل كتابي آخر عندما تضيق الكلمة. تشعر أحيانا أن الكلمة وحدها لا تكفي فتستعين بالصورة والحركة والموسيقا لتعبر من خلال هذه الفنون مجتمعة عن فكرة ما. المسرح يستطيع أن يجمع كل هذه الفنون في زمان ومكان واحد.
السفير
30 يونيو 2009