يرى الناقد والشاعر السعودي عبد الله السفر أن المشهد الروائي المحلي يعيش (مرحلة الطفرة والانفجار)، حيث وصل عدد الروايات التي طبعت الى 300، ويعتبر ذلك مؤشرا خطيرا على «الاستسهال والخفّة والثقة العمياء بأن (أي كلام) صالح وقابل أن يُدوَّر في مطحنة النشر تحت مسمّى «رواية».
وأشار في حوار اجرته معه «الشرق الأوسط»، الى أن الرواية المكتوبة، في الفترة الأخيرة، تعتمد غالبا العزف على وتيرة التابو الجنسي والديني بشكل مباشر وفج دون مسوِّغ فني أو صنعة تنهض بها من المتن إلى المبنى، مؤكدا أن رواية إخراج الأحشاء استنفدت أغراضها.
واعتبر السفر، من ناحية أخرى، أن القصيدة الجديدة ليست في قلب المشهد الثقافي على امتداد تاريخها القصير، مشيرا إلى أن شعراء القصيدة الحديثة في السعودية عاشوا الظلَّ مرتين؛ مرّة في مرحلة الثمانينات ذات الصخب العالي والاضطراب الكبير، والثانية في التسعينات نفسها بعد حرب الخليج الثانية، حيث الانكسار الذي أصاب هذه الساحة، وجرّ ذيوله على الحركة الشعرية وممثّليها من شعراء توقّفَ نبض نصهم ولم يعد له ذلك الألق الثمانيني المدهش، ومن نقادٍ أخذتْهم مشاغل البحث إلى ضفافٍ أخرى لم يكن الشعر من بينها.
أجرت «الشرق الاوسط» الحوار التالي مع الناقد عبد الله السفر في الرياض، لتسليط الضوء على المشهد الثقافي السعودي.
* كيف تلحظ حركة الإبداع في المشهد الثقافي السعودي وتفاعله مع الأحداث منذ الثمانينات حتى اليوم؟
ـ مع نهاية حرب الخليج الثانية، أخذت الساحة المحلية في التململ والتحوّل وبذر أسئلة في أرضٍ لم تتعوّد الأسئلة ولا تطيق احتمالها، وليس مثل المختبر الإبداعي حاضناً ومطوِّراً ومنضِجاً. وأتت أحداث 2003 لتخضّ المجتمع كلّه؛ انكشفَ الغطاء عن سلامٍ اجتماعي هشّ وعن طهرانيّة مدّعاة نُفِخَ فيها طويلاً وكثيراً فأضحتْ قناعاً جامعاً ينوب عن الهويّات المفرَدة التي ذُوِّبتْ خلف هذا القناع. غير أن الحدثَ الصّاعقة على ما فيه من بشاعة ورماد؛ أسفرَ عن سقفٍ أكثر ارتفاعاً للحريّة تزهر فيه مئات الأسئلة عن الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي. مروحةٌ واسعةٌ دارتْ تنفض الأرض الساكنة من الخارج، لكنها تمور من الداخل وتحمحم، وتريد من يعبِّر عنها ويصعِّد آهاتها مسطورةً في الكتاب وفي الجريدة، وفي فضاء الانترنيت المفتوح بلا قيود ولا محاذير. منحةٌ بلا شروطٍ تخضع لأصبع التحذير أو تتراخى للخطوط الحمراء. انطلاقةٌ أشبه بالحشد المحبوس في هواءٍ فقير يكاد ينفد فتنفلت عليه أنابيبُ الأوكسجين دفعةً واحدة ومن كلّ مكان؛ ما يصنع مهرجاناً مدوّياً فيه الصنيع الحسن والصنيع السيئ، لكنه بالإجمال «مهرجانٌ» نحتاجه والزمن كفيلٌ بالفرز بين الأصيل والصدى.. بين العافية والعدوى.
* لنكن أكثر تحديداً، كيف ترى المشهد الروائي السعودي، باعتباره أكثرها فعالية؟
ـ المشهد الروائي في السعودية يعيش الآن مرحلة الطفرة والانفجار، وكتاب الإحصاء يقول إننا في السنوات الثماني الأخيرة، تلقينا عدداً هائلاً من الروايات يوشك أن يصافح الرقم الـ300. وهذا إنْ دلّ على إقبال منقطع النظير محليّا على كتابة الرواية؛ فإنه في الوقت نفسه يؤشِّر على الاستسهال والخفّة والثقة العمياء بأن «أي كلام» صالح وقابل أن يُدوَّر في مطحنة النشر تحت مسمّى «رواية».
* ما هي ملاحظتك على ما تسميه بالطفرة، ما دامت تعبر عن وعي ثقافي؟
- بالرغم من أن هذه الطفرة لها وجهها الآخر المؤسس لما يلي من مواهب، إلا أن المشهد مكشوف وتبين فيه الثغرات والأراضي المحروثة والأخرى البكر التي ما تزال تنتظر من يلقي فيها بذرته بتميّز وأصالة.
الرواية المكتوبة خلال هذه الفترة، تعتمد في أغلبها على إخراج الأحشاء والعزف على وتيرة التابو الجنسي والديني بشكل مباشر وفج دون مسوِّغ فني أو صنعة تنهض بها من المتن إلى المبنى. هذا جانب، وفي الجانب الآخر، حتى مع النجاح في اختراق التابو فنيا وكشف المسكوت عنه وفضحه وتعريته والتنكيل به، إلا أن هذا يشارف مرحلة الإشباع والاستنفاد والإرهاق، ولا بدّ أن يدخل المبدع والمبدعة في طور الفحص والاستبصار والبحث تخرج بهما من منطقة المتشابه والمكرّر إلى منطقة التميّز والفرادة. ما يكتب الآن يجعل الفرد معمماً ومقولبا ملتهما بالكامل تحت إعلان اجتماعي أو ديني، وفي هذا استعادة للسطح السابق عن المجتمع ولكن بطريقة مقلوبة؛ من الأبيض إلى الأسود. الذات ملغاة لصالح مقولات تأطيرية جاهزة. وقد أزف وقت التجربة التي تقتلع هذه الذات من انحلالها في الجسد الاجتماعي وإعلائها إلى صرح الهوية المفردة وبناء عالم جديد بنَفَسٍ إنساني نقرؤُهُ من الداخل لا من الإطار الخارجي المحفوظ.
* هناك قول بأن الحركة النقدية في السعودية تقوم على سجال وجدال إعلامي أكثر منه ثقافي.. إلى أي مدى هذا الكلام صحيح؟
ـ باختصار هذا كلام غير صحيح، وأحسب أنه قيل على وقع التصريحات الحادّة من قامتيْن لهما فعلهما الثقافي والتأثير في حركة الحداثة في السعودية ( محمد العلي؛ عبد الله الغذامي)، وذلك في تقييم حضور أحدهما في الساحة. ومثل هذا الرأي تفريغ الحركة النقدية من أثرها الممتد وحصره في فقاعة صحافية سرعان ما تنفثئ، ويتوضّح المشهد الحقيقي الذي ساهم ويساهم فيه العلي (بمئات الصفحات المطمورة في بطون الجرائد) والغذامي، ومعهما أسماء مضيئة منذ الثمانينات وحتى الآن: سعيد السريحي؛ سعد البازعي؛ فايز ابّا؛ فاطمة الوهيبي؛ لمياء باعشن؛ صالح زيّاد؛ علي الشدوي؛ محمد العباس؛ محمد الحرز؛ فيصل الجهني؛ سماهر الضامن؛ معجب الزهراني... ما يعني المشروعَ والمشروعيّةَ اللذين يقومان على أسس جوهرية تجعل المشهد النقدي السعودي جزءا أصيلا من المشهد النقدي العربي.
* قصيدة النثر في سوق الأدب السعودي.. هل وجدت حظها من الاهتمام ولماذا؟
ـ القصيدة الجديدة ليست في بؤرة المشهد على مدى تاريخها القصير عموما. فقد عاش شعراء القصيدة الجديدة في السعودية الظلَّ مرتين؛ مرّة في مرحلة الثمانينات ذات الصخب العالي والاضطراب الكبير وفيها كانت بداية أغلبهم ونقطة انطلاقهم، غير أن بؤرة الضوء كانت موجّهة إلى شعراء معيّنين يحتفل بهم الإعلام والنقد والجمعيات ومهرجانات الشعر من الماء إلى الماء، والمرة الثانية في التسعينات نفسها بعد حرب الخليج الثانية ومفاعيلها على الساحة الثقافية حيث الانكسار الذي أصاب هذه الساحة، وجرّ ذيوله على الحركة الشعرية وممثّليها من شعراء توقّفَ نبض نصهم ولم يعد له ذلك الألق الثمانيني المدهش، ومن نقادٍ أخذتْهم مشاغل البحث إلى ضفافٍ أخرى لم يكن الشعر من بينها، وفي الوقت نفسه تزامن مع هذا الانكسار بخاصة في النصف الثاني من التسعينات انطلاق الشرارات الأولى لانفجار المشهد الروائي في السعودية، بمعنى أن الضوء انتقلَ من شعراء الثمانينات إلى المنخرطين في الكتابة الروائية. نستنتج من هذا وذاك أن شعراء القصيدة الجديدة لزموا الظلّ وكان شعرهم في الهامش. حضورٌ طفيف وانصراف تام عن ضجيج المشهد وتدافعاته. رحابةُ من الصمت تنأى عن الضوء والضوضاء، وتمنح صاحبها عكوفاً متأنيّاً على التجربة يتدبّرها ويعيد النظر في أدواته وفي مناطق الكتابة التي تخصّه استنفاداً وإشباعاً؛ أو تطويراً؛ أو انتقالاً إلى ضفاف اختباريّة تعكس رغبةً عارمة في الاختلاف وفي الإضافة، ترفع من رصيد التجربة ومن تحققها الفني بعيداً عن الأبويّة والنموذج والمسطرة والمعيار.
* كثير من المبدعين يلجأون إلى طرح ثقافتهم في المقاهي بعيدا عن الأندية الأدبية.. هل هذه ظاهرة صحية أم نتاج لخلل في توظيف دور النادي الأدبي وما السبب في ذلك؟
ـ أعتقد أن لقاءات المثقفين سواء في المقاهي أو الاستراحات أو في «دوريّات» ما بين منازلهم؛ لها طابع حميمي واصطفائي، وتشكّل دوائر منتقاة إنْ لجهة الارتياح الشخصي أم لجهة الاهتمامات المشتركة. إلى ذلك هذه اللقاءات عفوية وبلا مظلّة، على خلاف الأندية الأدبية التي هي مؤسسة رسمية ومكان للجميع لا تنفرد به مجموعة أو تحدّد من ينضم إلى حلقتها؛ حرية المقهى وقيد المؤسسة، هذا بافتراض أن النادي الأدبي الذي نتحدث عنه مكانٌ مثالي ومُعَدّ مركزاً ثقافيا به ما يجذب من مكتبة وصالة ومقهى.
* كأن لك رأياً خاصاً في هذه الأندية؟
- نعرف أن أنديتنا الأدبية بيوتٌ مستأجرة وليست مهيّأة فعليا للقيام بأدوارها «الأوليّة»؛ نقطةَ إشعاعٍ جاذِب للجمهور من خلال الندوات والمحاضرات والعروض الثقافية لأنها لا تتوفّر على القاعات المناسبة والمزوّدة بأحدث التجهيزات لاحتضان الجمهور والنشاط. أعتقد أنه لولا الحماس والاجتهاد والشعور العميق بالمسؤولية ـ يغطّي على ضعف البنية التحتية بأنديتنا ـ لما كان الصدى الجميل الذي تحدثه بعض فعاليات الأندية. ووفقَ تلك النظرة وهذه الظروف أجد أنه من تمام الصحة أن تزدهر المقاهي بحضور المبدعين يناقشون تجاربهم ويستمعون إلى بعضهم. فهذه علامة صحة وحياة. ومع هذا الرأي العام لا بد أن أشير إلى تجربة المقهى الثقافي في النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية، بشقّه الرجالي والآخر النسائي، حيث اللقاء والحوار حول موضوع أو تجربة أو نصوص أو شخصية، والمتخفف من الطابع الرسمي والمنهجي بما يفتح للألفة قناةً تتوسّع مع مضي التجربة وترسيخها في «وجدان» روّاد النادي.
الشرق الأوسط
11 ديسمبر 2008